عمرو خيري*
ملحوظة تخص الترجمة: تقرر استخدام “نده، ناده، مندوه، إلخ” بدلاً من “نداء، مُنادي، مُنادى عليه” للتبسيط ولإضفاء التفرد على هذه المفردة ومشتقاتها كترجمة لـ interpellation/hailing كأداة تحليل.
- المقدمة
في هذه الورقة أدّعي أن “نده” (interpellation) ألتوسير يمكن استخدامه بسبل مختلفة على سبيل الإضافة إلى ثلاث مقاربات بحثية تستند إلى نهج تحليل الخطاب، في مسعى لاستكشاف أسئلة تتصل بصورة اللاجئ و/أو المهاجر في المناقشات السياسية في بريطانيا. هذا بالتطبيق على مثال الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (استفتاء بريكسيت Brexit)، مع التعليق على ثلاث أوراق بحثية انتهج كل منها مقاربة من المقاربات الخطابية الثلاث التي تستعرضها هذه الورقة أيضاً.
(Amr, Daniel and Sara, draft papers 1,2, and 3, unpublished). عن طريق التطبيق المذكور، تستعرض الورقة كيف يمكن الاستعانة بهذه “الملحوظة المنهجية” في استخدام المقاربات الخطابية الثلاث بشكل يقرّبها من تناول الظاهرة المعنية.
“الظاهرة” هنا، كمثال إمبريقي وحقل لتطبيق المقاربات الخطابية الثلاث، هي كما يلي: المواطنون البريطانيون مدعوون للتصويت في استفتاء يوم 23 يونيو/حزيران 2016 ليقرروا فيه إن كانت بريطانيا ستستمر في الاتحاد الأوروبي أم ستخرج منه. الاستفتاء والنقاش الدائر حوله يُشار إليهما بمسمى “نقاش/استفتاء بريكسيت” أو “بريكسيت” اختصاراً. جانبا النقاش هما “حملة الخروج” و”حملة الاستمرار”. كل من الطرفين يحاجج بوجود امتيازات اقتصادية واجتماعية وأمنية سيؤدي إليها التصويت بنعم أو لا، ويتهم كل من الطرفين الآخر بتعميم الخوف وبثه لدفع الناخبين لتبني اختياره (draft paper 2, p.1). تبدو ذات “المهاجر” وقضية الهجرة وكأنها قد أُخفيت عمداً في المواد المكتوبة التي انتجتها هذه الحملة وتلك، من جانبي التصويت بنعم ولا، وهي المواد الأساسية المستخدمة لإقناع الناخبين، في الأسابيع السابقة على يوم الاستفتاء، باختيار نعم أو لا (ibid, pp 6-7)، رغم أن (“المهاجر”) يظهر بوضوح وبقوة كهاجس مهم وصريح في تعليقات مستخدمي الفيس بوك (وهم ناخبون محتملون) الذين يعلقون على تدوينات على صفحة حملة الخروج من الاتحاد الأوروبي على الفيس بوك (draft paper 3, pp.3-5).
في القسم “2” أدناه أقدم “نده” ألتوسير كأداة نظرية تعد جزءاً لا يتجزأ من تفسير ألتوسير “للاجتماعي”، ثم “أقطّرها” محولاً إياها إلى أداة تشكل جزءاً من أدوات مقاربات تحليل الخطاب التي تناقشها الورقة. في القسم “3” أناقش كيف لهذا “النده” المُجرّد كأداة منهجية أن يصبح جزءاً لا يتجزأ من نظرية “تحليل الخطاب”(Discourse Analysis) لـ لاكلو وموف كما استعرضها يورجنسن وفيليبس (2002, chapter 2; Laclau & Mouffe, 1985)، وكذا من نظرية تحليل الخطاب الناقد لـ فيركلو (1999) (Critical Discourse Analysis)، وكذا من نظرية تحليل السردية Narrative Analysis (Plummer, 2001). على امتداد هذا القسم الثالث أناقش الأوراق الثلاث التي استخدمت المقاربات الثلاث المذكورة، اقتراناً باستفتاء/نقاش بريكسيت. تنتهي الورقة بالقسم “4” وفيه تعليقات حول إمكانات تطبيق “النده” بناء على المناقشة (القسم “3”).
2. استخدام “النده”
قدّم لوي ألتوسير “الذات” في ماركسيته البنيوية باعتبار أن الأيديولوجيا هي التي تبنيها/تشيّدها عن طريق عملية أسماها “النده” (interpellation) أو (hailing). قدم يورجنسن وفيليبس (2002, p.15) “ذات” ألتوسير وكأن الأخير يعتبرها “فرد يتحول إلى ذات” على يد الأيديولوجيا، والأيديولوجيا قدمها ألتوسير بصفتها “إدراك مشوّه للعلاقات الاجتماعية الحقيقية” (ibid). بمعنى آخر، فعملية استقطاب الفرد هذه تبني ذوات منحازة إلى “نظام من التمثيلات” (أي: الأيديولوجيا) هو وكأنه قناع يخفي ورائه العلاقات الحقيقية بين الأفراد في العالم الاجتماعي، وبدلاً من العلاقات الحقيقية يصبح الأفراد ذوات في شبكة من العلاقات المتخيلة التي – العلاقات – تربطهم بـ “الاجتماعي”. هذه العملية مُحرّكها هو “جهاز الدولة القامع […] وجهاز الدولة الأيديولوجي […]” (ibid). قدّم ألتوسير مفهوم “النده” كعملية حتمية تستقطب جميع الأفراد بلا استثناء ليصبحوا ذوات أيديولوجية، دون فكاك من عملية الاستقطاب هذه (ibid).
مع رؤية عملية “النده” كما تم تعريفها أعلاه بصفتها عملية ديناميكية تحول “أ” إلى “ب” أو تمكّن “أ” من أن يصبح “ب” و”ب” فقط في سياق بعينه، يصير ممكناً رؤية عملية “النده” على مستوى أكثر تجريداً، بصفتها – ببساطة – عملية قصدية قد تكون مرتبطة بـ “الأيديولوجيا” أو غير مرتبطة بها، هذا إذا قبلنا التخلي – ولو لأغراض محض تحليلية – بأن تحليل ألتوسير لـ “الاجتماعي” يتسم بحتمية مفرطة. السؤال الرئيسي إذن – عند فك الأواصر الحتمية القائمة بين الأيديولوجيا وعملية “النده” (وهي نقطة انطلاق لا غنى عنها لاستخدام “النده” كجزء لا يتجزأ من المنهج، وليس كنظرية مرتبطة ارتباطاً عارضاً بمنهج)، يصبح: من/ماذا ينده؟
الإجابة التي أقترحها هي أن “الناده” interpellator قد يكون بناء اجتماعي، أو أيديولوجية، أو إجراءات بعينها، أو فاعل بعينه، بحسب السياق وبحسب إحداثيات التحليل المنشودة. على سبيل المثال، قد يكون الناده قائد سياسي (مثال: ينده الأفراد (أو المواطن العادي) عبر الخطب الجماهيرية لأن يروا في أنفسهم ذوات بعينها)، أو قد يكون بنى اجتماعية (مثال: الأسرة، المؤسسة العسكرية، مكان العمل، ينده الفرد نفسه لأن يصبح ذواتاً مختلفة)، أو قد يكون إجراءات اقتصادية/سياسية/اجتماعية معينة (مثال: الاستفتاء، أو أية عملية تصويت تنده الفرد لأن يصبح ذاتاً سياسية بعينها). يمكن إذن تخيّل القُدرة الفردية Agency بصفتها “كيفية” تحول الفرد إلى الذات المندوهة، أو مقدار المقاومة الفاصل بين الفرد والذات المدعو (المنادى عليه) لأن يصبح إياها.
على أن هذه الإجابة على سؤال “من/ماذا ينده” تبقى ناقصة إذا كنا نعتمد الأنطولوجيا البنائية constructivist (الاعتقاد بأن “كل ما يمكن فهمه” في العالم هو تصورات جزئية عن العالم، في غياب حقيقة/حقائق موضوعية قابلة للفهم) جزءاً من “شيلة” package (Jorgensen & Phillips, 2002, pp.3-4) مقاربات تحليل الخطاب البحثية. تصبح الإجابة أكثر انحيازاً لهذه الأنطولوجيا إذا قبلنا بأن السبيل الوحيد لفهم “الظاهرة الاجتماعية” الجزئية المتشظية هو الإقرار بتعددية وتعقد العمليات المُشكّلة للظاهرة. إذن، لابد أن يكون مفهوماً أن “نادهين” كُثر، لا ناده واحد، يندهون أي فرد لأن يصبح ذواتاً مختلفة في أي حيز وزمن بعينهما.[1]
من ثم، أقدّم “النده” على مستوى أكثر تجريداً، بصفته مجموعة من العمليات “س” أو “س1، س2، س3،…” تدعو “أ” أن يصبح “ب”. يجب أن تُرى العملية بصفتها عملية معقدة، حيث يمكن أن يكون “أ” ذاتاً تحولت إلى ذوات قليلة أو كثيرة الاختلاف (الذات “ب”)، وليس مجرد فرد ينتظر استقطابه ليتحول من فرد واحد مُطلق إلى ذات محددة واضحة من عدة ذوات، إنما هي عملية ديناميكية للغاية دائمة التبدل، يصح تحديدها وتعريفها بناء على نطاق التحليل الذي ينشده الباحث.
3. النقاش
3.1. “النده” في نظرية تحليل الخطاب لـ لاكلو وموف
إن نظرية تحليل الخطاب لـ لاكلو وموف Laclau and Mouffe لهي نظرية شديدة الوعي بـ “نده” ألتوسير. استعرض المؤلفان “النده” في سياق نقدهما الماركسي ما بعد الحداثي الموجه إلى “حتمية” ألتوسير المفرطة الممثلة في حتمية الاقتصاد في التحليل الأخير، ما يؤدي إلى فهم حتمية ألتوسير المفرطة بصفتها إعادة إنتاج للثنائية dualism التي اتسمت بها “الخطابية الماركسية” “Marxist discursiveness” منذ أواخر القرن التاسع عشر (Laclau & Mouffe, 1985, p.99).
إن نظرية تحليل الخطاب، رغم أنها منحازة في العموم إلى “النده” بصفته عملية لبناء الذوات، فهي ترفض الحتمية المفرطة الممثلة في اعتبار الاقتصاد هو “الناده” الحقيقي في التحليل الأخير. وتقترح بدلاً من هذا أن الأفراد يتخذون “مواقع ذواتية” subject positions تقدمها وتكرسها مختلف البنى الخطابية، دون مكانة خاصة للأيديولوجيا أو الاقتصاد (Jorgensen & Phillips, 2002, pp.40-41). الفئة التحليلية المسماة “المواقع الذواتية – subject positions” تشتمل، من بين جملة أمور، على ما يلي (أ) “الهوية هي […] التماهي بالموقع الذواتي في بناء خطابي” (ibid, p.43)؛ (ب) الذات قادرة على أن تكون مختلفة باختلاف السياقات، بحسب الخطابات العديدة التي تصادفها؛ (ج) الهوية “ممثلةخطابياً” و”قابلة للتغير والتبدل مثلما الخطابات قابلة للتغير والتبدل” (ibid).
بناء على المذكور، يتضح أن نظرية لاكلو وموف حول الخطاب قابلة لاستخدام “النده” وتطويعه (النده بصفته العملية “س” التي تدعو “أ” لأن يصبح “ب”) في سياق نقاش بريكسيت (الاستفتاء البريطاني). هناك إذن نقطة انطلاق ممكنة لاستخدام نظرية تحليل الخطاب لـ لاكلو وموف اقتراناً بـ “النده” لفهم نقاش الاستفتاء: اعتبار الاستفتاء هو نفسه “الناده” الرئيسي الذي ينادي على الأفراد البريطانيين لأن يصبحوا ذواتا سياسية بعينها لديها قدرة فردية agency تقتصر على الاختيار بين بديلين، إما مغادرة الاتحاد الأوروبي أو البقاء فيه. عملية “النده” هذه، بحسب لاكلو وموف، يجب أن تُرى باعتبارها محض دعوة للأفراد لأن يروا في أنفسهم شاغلين لواحد من عدة مواقع ذواتية خلقتها مناقشات حملتي البقاء والخروج من الاتحاد الأوروبي. أو بدلاً من هذا، يمكن اعتبار إجراء “الاستفتاء” هو الناده الرئيسي، مع اعتبار نصوص الدعاية لحملتي “البقاء” و”الخروج” نادهين متنافسين، يخلقان مواقع ذواتية مختلفة قليلاً أو كثيراً يُدعى “الفرد-الصائر-إلى-ناخب” لشغلها، على صلة بذات “المهاجر” الذي يعد جزءاً من نقاش بريكسيت برمته. هذا الفهم التحليلي لوظيفية مواد الدعاية الانتخابية، يمكن أن يوجه الخطة البحثية نحو فهم محدد لأدوات النظرية، عله يكون – هذا الفهم – على النحو التالي:
(أ) تحليل “خلق المعنى/المعاني”(Jorgensen & Phillips, 2002, p.25) في نقاش بريكسيت: التعرف على النقاط المركزية nodal points يمكن أن يبدأ من التعرف على الإشارات signs في النص الخاضع للتحليل التي أصبحت ذات امتياز privileged لأنها مركزية لمختلف النادهين. على سبيل المثال: تحتوي مواد حملة مغادرة الاتحاد الأوروبي الانتخابية على إشارة “الاقتصاد” المستخدمة في نده الأفراد، اقتراناً بـ “الهجرة”، نحو تبوؤ موقع ذات “الناخب كمسيطر على أمواله الجمعية” والذي عليه أن يصوت بالخروج لإسقاط سياسات الهجرة الخاصة بالاتحاد الأوروبي، باعتبارها السياسات التي تؤدي إلى ظلمه في توزيع هذه الأموال.
(ب) تحليل “الصراع على الهيمنة في الممارسات الخطابية” struggle for hegemony in the discursive practices الظاهرة في نقاش بريكسيت: الصراع “بين خطابات معينة” يعني أن “هناك فاعلين مختلفين يحاولون ترويج سبل مختلفة لتنظيم المجتمع” (ibid, p.36). هذا الصراع على الهيمنة بين الخطابات، وهو محوري في “سياسة” لاكلو وموف، يمكن أن يُرى بصفته صراعاً بين النادهين على نده الأفراد لمختلف المواقع الذواتية. هذا “التخييل” قادر على توجيه التحليل نحو الممارسات الخطابية وعمليات التكوين الخطابي التي تقدّم للباحث خطوطا منطقية واضحة تربط الناده الرئيسي (عملية الاستفتاء)، بمختلف النادهين المتصارعين (حملة الخروج وحملة البقاء)، بالذات المتأثرة بالخطابات في عملية النده (“المهاجر”). هذا الرباط المنطقي يبدو منحازاً وموالياً لتركيز نظرية تحليل الخطاب لـ لاكلو وموف على قراءة الحقل الاجتماعي كُله بصفته خطابات في صراع على الهيمنة، دون إمكانية لوضع أيدينا على أي معنى خارج الخطابات.
3.2. استخدام “النده” في نظرية تحليل الخطاب الناقد
في حين تقدم نظرية تحليل الخطاب لـ لاكلو وموف أدوات تحليل شحيحة (Jorgensen & Phillips, 2001, p.147)، فإن نظرية تحليل الخطاب الناقد لـ فيركلو (Ibid, chapter 3; Chouliaraki & Fairclough, 1999) تحتوي على مراحل تحليل أكثر تفصيلاً واستفاضة (داخل نموذج تحليل الخطاب الثلاثي الأبعاد)، حيث يمكن للنده – كما تم تجريده وتقطيره أعلاه – أن يلعب أدواراً عدة. فيما يلي أقترح دورين، على صلة بـ “الممارسات الخطابية – discursive practices” و”تحليل النص – text analysis”.[2]
تحليل الممارسات الخطابية، عند فيركلو، هو مرحلة محورية تهيئ لربط تفسير الجوانب غير الخطابية من الظاهرة الاجتماعية المبحوثة (الممارسات الاجتماعية) بالفعالية التواصلية communicative event التي هي موضوع التحليل اللغوي linguistic analysis. إن تحليل الممارسات الخطابية يلقي الضوء على علاقات القوة المنطوية على انعدام المساواة بين مختلف الجماعات في المجتمع (Jorgensen & Phillips, 2002, p.63)، ويفترض فيركلو في واقع الأمر – وكذا مقاربات نظرية تحليل الخطاب الناقد الأخرى – أن ما هو “ناقد – critical” في تحليل الخطاب الناقد هو كشف “دور الممارسات الخطابية في استبقاء العالم الاجتماعي على حاله، بما يشمل العلاقات الاجتماعية المنطوية على علاقات قوة غير متسمة بالمساواة” (ibid). هنا تكمن العلاقة الديالكتيكية الممثلة في أن الخطاب مُكوَّن من ومُكوِّن للعالم الاجتماعي معاً (ibid, p.66, p.69, p.70)، هي علاقة ديالكتيكية تعد مكوناً رئيساً في منهج فيركلو ثلاثي الأبعاد. رغم هذه المحورية لتحليل الممارسات الخطابية، فإن نقاش شوكياراكي وفيركلو التطبيقي للأنواع genres في كتاب “الخطاب في الحداثة المتأخرة” (1999) الذي سعيا من خلاله لإظهار هجانة النصوص hybridity of texts – وهو المهاد الرئيسي لتحليل الممارسات الخطابية في النص – يبدو أنه يتبع تفسيرات شخصية تعسفية لاستخدام اللغة، ومن ثم ربما يؤدي للتوصل إلى فئات تحليلية يقدمها الباحث لإثبات “هجانة” بعينها دون أساس منهجي سليم.[3]
لتفادي هذه المشكلة المحتملة في التطبيق على حالة “نقاش بريكسيت”، أقترح أن تكون عملية التعرف على الأنواع (ومن ثم التهجين/الهجانة) بناء على الوظيفة الأساسية للنص الخاضع للتحليل، الذي يمكن فهمها – الوظيفة – انطلاقاً من دورها كـ “ناده”، تدعو جمهور القراء لأن يصبح نوعاً بعينه من الناخبين في الاستفتاء. هذا الأسلوب في تحديد “الأنواع” يؤدي منطقياً إلى رؤية أنساق بعينها على صلة بإنتاج واستهلاك النص (انظر draft paper 2, p.5). يمكن لهذا الدور أن يكون مفيداً في التحليل، عن طريق طرح سؤال “ما هي الذات المندوهة بهذا النوع genre”؟ قبل التعرف على مختلف الأنواع في النص الخاضع للتحليل وتسميتها وتصنيفها. هكذا إذن يصبح من الأيسر استبعاد ولو جزء من تحيز الباحث باتجاه تسمية وتفضيل أنواع genres بعينها.
أما فيما يخص مسألة “تحليل النص”، فإنني أقترح أن أي نص عام وعلني له أدوار “نده” محددة يلعبها، إذ يدعو القارئ لأن يصبح ذاتاً من بين عدة ذوات مطروحة. إذن في سياق فئة تحليل “النحو والصرف” في مرحلة “تحليل النص” في نموذج فيركلو الثلاثي، أقترح إضافة بند لتحليل النده في الصرف والنحو، مثل كلمات “نحن” وأفعال الأمر، من أجل التوصل إلى “التكوينات الخطابية النادهة” الظاهرة وغير المباشرة على السواء.
ربما كان هذا البحث عن أنساق النده في تحليل النص وفي تحليل الممارسات الخطابية قادراً على تسليط الضوء أكثر على الذوات التي “تنده” “المواد الكتابية الخاضعة للتحليل” الفرد إليها، بما يصب في صالح فهم أفضل لوظائف النص الخاضع للتحليل، ما يعني الإسهام في فهم أفضل لأنماط انعدام المساواة التي تعاني منها فئات اجتماعية متضررة (“المهاجرون” في مثالنا هذا)، بالأساس عن طريق التعرف على ما “ينادي” النص إليه من ذوات، على صلة بالفئة الاجتماعية المتضررة.
إجمالاً لما سبق، فإن تسليط الضوء على النده في الممارسات الخطابية يؤدي إلى فهم واضح لهجانة النص عن طريق تحديد الأنواع في صلتها بعملية النده، بدلاً من تخليق الأنواع بمعزل عن منطلق وظيفي للنص. ربما يَجبُر هذا بعضاً من المشكلة المذكورة أعلاه، من التعسف في التعرف على الأنواع genres وتحديدها من قِبل الباحث. إن تسليط الضوء على النده في تحليل النص، لقادر بدوره على جلب تحليل أصلب يبين التمثيلات المباشرة وغير المباشرة للذوات في اللغة المستخدمة في النص الخاضع للتحليل.
3.3 النده بصفته “سيناريو عام” في نظرية تحليل السردية
أعتبر “تحليل السردية” مدخلاً منفصلاً تمام الانفصال – عما سبق – للبحث الاجتماعي، يمكنه – أي هذا المدخل السردي – استخدام أدوات تحليل الخطاب، لكن ليس “تحليل السردية” في حد ذاته مقاربة من مقاربات تحليل الخطاب. “تحليل السردية” موصوف هنا بصفته مقاربة تبني انتقائياً سيناريوهات من قصص حياتية قائمة (أو قصص ذاتية)، على النهج الذي طرحه كين بلومر (Ken Plummer, 2001). شدد بلومر على أهمية القصص الحياتية بصفتها – من بين جملة أمور – “موارد”، قادرة على كشف نظم ثقافية، لإظهار “بناءات من الدرجة الأولى” يمكن لعالم الاجتماع أن يتخذها قاعدة لبناء “البناءات من الدرجة الثانية” (Ibid, pp.38-39). كذلك يقدم بلومر مقاربة “القصة الحياتية – life story approach” بصفتها “مسلك للبحث يسلط الضوء على الذات الإنسانية النشطة” (Ibid, p.7). ما تسعى هذه المقاربة إلى “معرفته” هو تقديم رؤى ذاتية (ضد-موضوعية) قدر الإمكان، وليس الحقيقة، إنما “عالم الذوات” حصراً (ibid, p.20).
مع مراعاة هذه الاعتبارات، فإن مقاربة “تحليل السردية” عند تطبيقها ضمن فئة “القصة الحياتية كموضوع” (ibid, p.26)،[4] تبدو بحاجة لأن يكملها نمط أو جملة من الأنماط قادرة على منح “مؤلف”/”مُيسّر” القصة “سيناريو” متماسك أو “عمود فقري” يمكن بناء القصة عليه، بدلاً من البدء من أية نقطة عشوائية متاحة لبناء “سردية متشظية” أو “سردية مبنية على أساس من الشظايا” (انظر عموماً draft paper 3).
تروي الورقة رقم 3 (draft paper 3) سرديتين، ثم تدمجهما في سردية موحدة. السردية المدمجة المذكورة تشير نحو ذوات مختلفة “تبحث عن الحال الطبيعية” (ibid, p.5). مع إضافة “النده” بصفته “القلب” الذي تستند إليه سيناريوهات السردية، يمكن التوصل إلى اختيار أكثر اتساقاً للمواد التي سنبني على أساسها السردية. على سبيل المثال، فإن المادة المستخدمة في بناء القصة الثانية (كولاج/سردية تكاملية أساسها تعليقات لمستخدمين على الفيس بوك) ستبدو غير متسقة مع مواد السردية الأولى (مقابلة إذاعية لأحد اللاجئين)، بما أن الثانية تُشير إلى حالة قوية من النده، إذ يدعو اللاجئ جمهور المستمعين إلى “حطوا نفسكم مكاني”، أثناء عبوره في رحلة خطرة إلى أوروبا. إضافة “النده” قد تؤدي إلى أن يختار الباحث بدلاً من الورقة المذكورة، أن يبني السردية الثانية من نفس المادة المستخدمة في الورقتين البحثيتين 1 و2: مواد حملة التصويت للخروج من الاتحاد الأوروبي وحملة الاستمرار فيه. قد نصبح إذن بصدد سردية من ثلاثة أجزاء: 1. كيف ينده اللاجئ الجمهور/المواطن الأوروبي إلى رؤية مصابه؛ 2. كيف تنده المواد الخاصة بحملات الاستفتاء الجمهور/الناخبين إلى رؤية المهاجر كمشكلة اقتصادية؛ 3. كيف يكشف هذا الخط السردي وذاك عن أنواع مختلفة من “الحال الطبيعية” التي تسعى إليها فئات مختلفة من الذوات، أو جماعتين مختلفتين (المواطن واللاجئ/المهاجر).
ليس في الاقتراح المذكور أعلاه ما يقرّب البحث إلى “الحقيقة”، بما أن مقاربة “تحليل السردية” تبدو مستوعبة لقدر هائل من التنوع والاختلاف، حيث قد تتجاور قصص مختلفة أشد الاختلاف، عن الظاهرة نفسها. لكن يبقى على الباحث عند استخدام هذه المقاربة في تكميل مشروع بحثي – وليس كمشروع بحثي قائم بذاته – أن “يؤلف” السردية القابضة على “فهم الناس المباشر للعوالم الاجتماعية التي يعيشون فيها” (Plummer, 2001, p.130)، مع ترسيم الحدود الخاصة بالتحليل للعالم الخطابي discursive world الذي يستكشفه المشروع البحثي.
4. ملاحظات ختامية
ما هو “النده” الذي تستعرضه هذه الورقة إذن كأداة منهجية؟ ما القيمة التي يمكن أن يضيفها إلى كل من المقاربات الثلاث المذكورة في النقاش أعلاه؟ كإجابة محتملة، هناك ملاحظتين واجبتين: أولاً: الاقتراب من موضوع البحث أعلاه عن طريق التعرف أولاً على عمليات النده القائمة والديناميات الظاهرة فيها، هو إجراء قادر على أن يقدم، كما أظهر النقاش، جملة من الأسئلة المتسقة مع بعضها البعض، وخيوط مبدئية للتحليل. استخدام “النده” إذن يمكن أن ينتهي عند مرحلة مبكرة من التخطيط للبحث، بما في ذلك مثلاً استخدامه في ترسيم حدود التحليل وحدود المشروع. ثانياً: هناك سمة مشتركة للنده كأداة، هي كيف أنه يمكن استخدامه – بعدة سبل – كمرآة لرؤية “الذوات”، في صلتها بالبحث الناقد الهادف إلى التعرف على أوجه انعدام المساواة، كما تبين في المقاربات المتصلة بالخطاب أعلاه:
- في نظرية تحليل خطاب لاكلو وموف: استخدام النده هو مجرد دعوة لمنح الأولوية لـ “المواقع الذواتية” المتوفرة بالفعل في النظرية، ولفهم مدى ديناميكية هذه الفئة التحليلية. تقديم الأولوية كما أوردت يمكن أن يوجه التحليل نحو فهم ناقد لأوجه انعدام المساواة المحيطة بالفئة الاجتماعية “المهاجرين”.
- في “نظرية تحليل الخطاب الناقد”، فإن النده كما تم تقطيره في القسم 2 أعلاه، يمكن أن يدعم تحليل الهجانة hybridity كجزء من تحليل الممارسات الخطابية، بشكل يربط هذه الهجانة الخطابية مباشرة بسؤال: ما الذوات “المختلفة” التي يهيئ لها الخطاب؟ ومن ثم تحقيق الدور “الناقد” للنظرية، كنظرية تسعى لفهم وتحديد أوجه الظلم والإجحاف. يمكن استخدام النده أيضاً كمرحلة من مراحل تحليل النص، لتحقيق النتائج نفسها.
- في “تحليل السردية”، يمكن استخدام النده كمهاد وقاعدة لـ “تأليف” أو “تجميع” سردية هي جزء من مشروع بحثي أكبر، وليس اقتراناً بـ “تاريخ حياة” تمثل مشروعاً قائماً بذاته.
المراجع
Amr, Daniel, Sara, unpublished. Identifying identity through ‘safety’: The Brexit debate [draft paper 1], SIMM27, 2016, Lund University.
_______________, unpublished. Risk and uncertainty in the Brexit debate: Where are the refugees? [draft paper 2], SIMM27, 2016, Lund University.
_______________, unpublished. In search of normality: autobiographical and collective narratives of the ‘migrant subject’ in the Brexit debate [draft paper 3], SIMM27, 2016, Lund University.
Chouliaraki, L., & Fairclough, N., 1999. Discourse In Late Modernity: Rethinking Critical Discourse
Analysis. Edinburgh: Edinburgh Univ. Press.
Jorgensen, M., & Phillips, L., 2002. Discourse Analysis As Theory And Method. London: Sage Publications.
Laclau, E., & Mouffe, C., 1985. Hegemony & Socialist Strategy. London: Verso.
Plummer K., 2001. Documents of life 2. London: SAGE Publications.
الهوامش:
[1] هذا الفهم يتماس مع فهم لاكلو وموف Laclau and Mauffe للصراع على الهيمنة الخطابية، لكن لأغراض هذه الورقة، فكثرة النادهين هذه مُستخدمة لاستيعاب التعددية، وليس كأداة تحليل في حد ذاتها.
[2] يمكن تلخيص اشتباك فيركلو بـ ألتوسير على النحو التالي: الأيديولوجيا عند فيركلو هي “المعنى في خدمة القوة”، أو أن بناءات المعنى تشكل جزءاً من علاقات السيطرة، ومن ثم تشكل الأيديولوجيا جزءاً من الممارسات الخطابية. هو منحاز لتنظير ألتوسير بقدر ما يشدد على فكرة إنتاج المعنى، مع رفضه – أي فيركلو – إنكار القدرة الفردية agency ورفضه اعتبار الأيديولوجيا “كياناً واحداً لا يتجزأ”.
[3] تعرف المؤلفان في كلمة “الجناة” على أنها تتبع “النوع الأدبي” بينما يمكن أن تكون تابعة للنوع “القانوني” في رأيي. تعرفا في “أعمال العنف” في المثال الذي ساقاه في الكتاب على أنها تعبير يتبع “النوع القانوني” في حين يمكن اعتبارها تابعة للنوع “الأدبي”. ثم توصلا لأن عبارة “رجل ضخم قوي” تتبع “النوع النسوي” في حين أنه ليس من الواضح سبب تأويلها – العبارة المذكورة – بصفتها تتبع نوعاً نسوياً. لم لا نعتبرها “نوعاً وصفياً” أو “نوعاً أدبياً؟” انظر: Chouliaraki & Fairclough, 1999, p.57
[4] هي فئة اقترحها بلومر، حيث “يتم استخدام الوثيقة لتسليط الضوء على موضوع أو مسألة بعينها” (Plummer, 2001, p.26) أو “على منطقة شديدة التركيز من المجالات الحياتية” (ibid, p.27)، في مواجهة القصة الحياتية أو تاريخ الحياة الكامل الذي هو موضوع البحث كله.
* مُترجم وباحث يُحضّر لنيل درجة الماجستير في “دراسات التنمية” من جامعة لوند، السويد. أُعدت الورقة في إطار ورشة منهجية حول مقاربات مختارة لمنهج تحليل الخطاب في العلوم الاجتماعية – مايو/أيار 2016.