ما هي النظرية؟ وكيف نستخدمها كأداة للتحليل أثناء الكتابة؟

غسان الحاج

ترجمة – عمرو خيري

النصّ التالي مهم للباحثين المقبلين على كتابة رسائل علمية [ماجستير أو دكتوراه] أو أوراق بحثية تستخدم النظرية بأي شكل من الأشكال، في المجالات المندرجة تحت بند العلوم الاجتماعية والإنسانيات النقدية/الناقدة. فالكتابة الأكاديمية أو الكتابة التي تستعين بالنظرية، يعرف ممارسوها صعوبة الاقتراب من النظرية، أي نظرية، وكيف يمكن ربطها بموضوع البحث أو الكتاب أو المقال الخاص بالكاتبة التي تستخدم النظرية. يقدم النصّ تصورات وآراء مبنية على خبرة عملية في تأمل النظريات وقراءتها وفهمها و”استخدامها” على مدار عقود، لصاحب النصّ، وهو من تلاميذ بيير بورديو.

وهذه ترجمة “مرنة” ومختذلة في بعض المواطن لنصّ كتبه أستاذ الأنثروبولوجيا اللبناني الأسترالي غسان الحاج. وقد نُشر على مدونته الشخصية ثم على موقع أليجرا. الترجمة بالأساس بالعربية الفصحى مع استخدام العامية في بعض المواطن حيث وجد المترجم العامية لا غنى عنها لفهم النصّ، وهو على هيئة خطاب موجّه إلى طلبة دكتوراه في سيمنار حول كيف يمكن للباحثة استخدام النظرية وكأنها “شاسيه” أو “أداة” أو “مجموعة أدوات” للتحليل. وفي الشق الأخير من النصّ تأملات نحو التعامل “بشكل أخلاقي” مع اجتهادات المُنظّرين باعتبارها اجتهاد أُنفق عليه جهد ووقت المُنظر، لا بصفتها سلعة في “سوق النظريات” يتعامل معها الباحث وكأنها سلعة منبتة الصلة عن “العامل” الذي أنتجها. استخدم المُترجم [هذه الأقواس] بدلًا عن الهوامش في تقديم تصوره عن القصد من بعض المفاهيم والفقرات في النصّ، وما فيها هو محض اجتهاد ولا يمثل جزءًا من النص.

وعلى امتداد النصّ قلل المُترجم إلى حد بعيد من أولوية مراعاة جماليات اللغة أو مقتضياتها كلما تعارضت مع الهمّ الأساسي للترجمة، وهو نقل أفكار الكاتب التي يقدمها “من داخل المطبخ الأكاديمي” إلى جمهور “بدأ في التوافد على صنعة الانشغال بالمجال الأكاديمي و/أو الاجتهاد النظري و/أو استخدام النظريات بأي شكل من الأشكال”.

حديثي اليوم عن معنى أن “تقابل النظرية، أو تعيش معها، أو تقرأها أو تنقدها، أو تستخدمها”. فكرة “مقابلة” أو “مواجهة” النظرية أقصد بها تحديدًا مخاطبة من يصادفون النظرية أثناء العمل على رسالة الدكتوراه، وليس من بدأوا بحوثهم وهم “عايشين مع” نظرية معينة بالفعل، وتنطلق تصوراتهم للواقع مما تتيحه هذه النظرية أو تلك من فئات وتصنيفات، ويعرفون بقدر معقول بالمساحات التي تضيئها النظرية المُختارة بكل بهاء، مع إلمامهم أيضًا بالمناطق المظلمة التي لا تراها… يعرفون عيوبها وإمكاناتها.

مقابلة الشيء هو معايشة على استحياء للشيء، والفارق بين الأمرين (المقابلة والمعايشة) غير مُطلق. الاختلاف يتبدى مثلًا في حالة إذا كنتِ كاتبة عندك بالفعل تصور نظري للعالم متطور ومتكامل يمنح المقابلة كثافة وعمق يختلفان عن مقابلة طلاب آخرين ليس لديهم تاريخ طويل من التعامل مع النظرية.

من الأحلام الأكاديمية الفانتازية غير الواقعية بالمرة [عند الأساتذة] أن يدخل جميع طلبة الدكتوراه برامجهم وهم عندهم بالفعل إلمام جيد بالنظرية وبالفلسفة. لكني أعرف من خبرتي الطويلة أن هذا لا يحدث بالمرة. المسألة بالنسبة إلى الكثير من طلبة وطالبات الدكتوراه، وأغلب الكُتاب والكاتبات قطعًا، هي أن معايشة النظرية تختلف في مدتها وكثافتها من حالة إلى حالة، ما يعني أن تسليط الضوء هنا على تجربة المرء مع النظرية مهم للكثيرين.

وعلى نفس القدر من الأهمية: كيف ينتهي بنا المطاف بالتعلق بنظرية بعينها ومساكنتها والعيش فيها، أو كيف نعايش ونساكن ونتعلق بالنظريات عمومًا [أو بالتنظير؟] بناء على المقابلة الأولى أو اللقاء الأول.

لذا سأحاول الحديث قليلًا، من زاوية الخبرة العملية وزاوية أخلاقية، عن طبيعة هذه المقابلة: كيف تعرف أن هذا الكلام أو ذاك نظرية؟ كيف تعامليه بحيث تبقى علاقتك به على المدى الطويلة طيبة لو تبين أن الكلام فعلًا نظرية؟ كلامي هذا مفيد لي كما قد يكون مفيد لكم، بما أن المرء يحتاج دائمًا إلى تذكير نفسه بهذه الأمور، وأبدأ ببعض الأفكار التي أحبها:

* النظرية ليست تعميماً، بل هي آلة طيعة ومرنة قادرة على التدخل ما بين ما هو عام وما هو مُحدد إمبريقيًا [الحالة التي يتناولها الباحث] وكأنها تدخل بين البصلة وقشرتها.

* للنظرية قيمة تبادلية وقيمة نفعية. بمعنى أن بالإمكان استخدامها في حد ذاتها [النظرية للنظرية] أو استخدامها كأداة تحليلية.

* النظرية تتيح أداة أو مجموعة أدوات. لا هي معبد على الباحثة تقديسه والتعبد فيه، ولا هي فريق كرة قدم نشجعه.

* كلما أمكن، لمّا تقابل نظرية لا تحبها، قل: “لا أجد هذه النظرية مفيدة”، ولا تقل “لا أوافق على هذه النظرية” أو “هذا كلام فاضي”.. قصدي أن أشجعكم على التعامل بمنطق فيسبوكي مع اللقاء الأول بالنظرية: بمعنى أن من الضروري وجود زر “إعجاب” تستخدميه في هذه المرحلة الأولى من التعامل مع النظرية. إذا لم تعجبك نظرية تجاهلها، فلا حاجة لأن تصرخ بأعلى صوتك “لا تعجبني” من فوق سطوح مقابلتك للنظرية… لماذا؟ لأنه سيُتاح لك وقت كافٍ تمام الكفاية للتعامل بشكل ناقد مع هذه النظرية بعد أن يتطور اللقاء بينكما إلى معايشة جادة وحقيقية.

Pierre_Bourdieu,_painted_portrait_DDC_8931

بيير بورديو

إمعان التفكير فيما تريده من النظرية ليس مهمًا في اللقاء الأول معها، لمجرد أنك تبدأ في رحلة الدكتوراه. فالنظرية عمومًا ستبقى معك طيلة حياتك المهنية كأكاديمي وكاتب. دائمًا ما يحدث من الأمور ما يذكرني بهذه النقطة، بشكل شخصي. مثلًا قبل سنوات دخلت محل لبيع الكتب في باريس، وبالصدفة وجدت أمامي كتاب إدواردو فيفيروس دي كاسترو “الميتافيزيقا الكانيبالية” ولنا أن نقول عنه إنه كتاب مُجدد في الأنثروبولوجيا النظرية. وجدت بعض مناطق الكتاب تخاطب اهتماماتي أكثر من مناطق أخرى فيه، لكن عمومًا أحسست به وكأنه نسمة هواء عذبة، ورحت أقرأ فيه بنهم لمدة نصف ساعة وأنا في محل الكتب، قبل أن أشتريه. المهم هنا أنني وجدت العديد من الفرضيات النظرية في الكتاب التي تتصل بمسألة “المنظور الأونطولوجي” [قرأتها: الزاوية اللي بنبني منها تصورنا الكلي للعالم] مثمرة بشكل رهيب. فأعدت التفكير حينئذ وفي ذلك المكان، بينما أنا أقرأ، في بعض القضايا الذهنية التي تشغلني، مثل العلاقات الثقافية بين الغرب وإسرائيل/فلسطين. كنت على ثقة من أن هذه التصورات ستكون مفيدة لي في الخروج ببعض التصورات النظرية الجديدة. ولقد كتبت حتى الآن مجموعة مقالات (وهي ضمن كتابي السياسة البديلة Alter-Politics ).

ومع بداية نشري لهذه المقالات المكتوبة “بإلهام أونطولوجي” [قرأتها: مقالات تنطلق من أرضية مساءلة: ما هي الحقيقة/الواقع وكيف ننظر إلى العالم]، دُعيت إلى مؤتمرات ومناسبات مختلفة لأشارك في سيمنارات لمناقشة “الانعطافة الأونطولوجية” في الأنثروبولوجيا [الانعطافة الأونطولوجية Ontological turn هي قضية نظرية ظهرت في الأكاديميا الغربية وتتصل بمعتقدات الباحثين الخاصة حول طبيعة الوجود وكيف يمكننا أن نعرف أي شيء وطريق الوصول للمعرفة، وهي تعتبر “ميتا-نظرية”… أي مسألة تخص كيف ننظر إلى العالم، وطبيعة الوجود، إلخ، وتدعو الباحثين إلى إعادة النظر في طبيعة ما هو موجود وموضوعي وملموس في العالم، ومن مساراتها – المتطرفة – مثلًا اعتبار حكايات الشعوب البدائية عن الصفات الإلهية للجماد مسألة “واقعية” و”حقيقية” وتفسر الظواهر بقدر ما تفسره النظريات الأكاديمية المادية المعتبرة]. طريقة تفاعل بعض الناس مع تنظيراتي الجديدة جعلتني أعود إلى تقدير أهمية وضرورة التفكير بإمعان في ذلك الشيء: اللقاء الأول الجيّد بالنظرية. بادئ ذي بدء، في كل مكان ذهبت إليه في العالم وجدت من يلمح بقدر من القلق إلى ضرورة أن أنتبه حتى لا “انضم إلى الجماعة بتوع الانعطافة الأونطولوجية”. كانت الحكاية وكأني على وشك دخول طائفة دينية. ولو كان الأمر فعلًا أن بعض “الأونطولوجيين” يتعاملون مع النظرية وكأنهم كهنة؛ فحقيقي أيضًا أن بعض الأفكار المضادة للإغراق في الاهتمام بالأونطولوجيا لها مسحة دينية أقوى. المهم، كان هناك العديد من الزملاء والأصدقاء الذين أرادوا معرفة كيف أوفق بين اهتمامي المعروف ببورديو وتعلقي به على جانب، و”الانعطافة الأونطولوجية” على الجانب الآخر؟ ألم أسمع بآراء لاتور وبورديو في أحدهما الآخر؟ [قرأتها: بورديو ينطلق من التحليل المادي/الماركسية، ولاتور مهموم من بين جملة أمور بقدرة الجماد على الفعل في حد ذاته، ويمكن اعتباره ممن يدخلون في زمام “الانعطافة الأونطولوجية”] كان من الصعب عليّ كل الصعوبة أن أقول “وجدت هذه الفكرة تحديدًا أو هذا المنظور من الانعطافة الأونطولوجية مفيدا” دون أن أصبح في موقع يتعين عليّ فيه أن أجيب على سؤال على غرار “لكن كيف تؤمن بصحة الفكرة س أو ص”، وهذا مع العلم بأن الإيمان بفكرة س أو ص – انطلاقًا من رفضي للحتمية – لم يخطر لي أبدًا. وكأنني مثلًا أقول لأحدهم إنني معجب بالمفهوم المسيحي عن الحب فيسألني: “لكن كيف تؤمن بحكاية الروح القدس؟”.

لذلك فأهم شيء يجب أن نتذكره، وأن نعيشه، هو المنطلق الأخلاقي الذي مفاده أن النظرية ليست معبداً نقدسه أو فريق كرة قدم نشجعه.

إياكم والانتماء إلى نظرية أو إعلان أنفسكم مؤيدين لنظرية. حتى لو كنتم من أتباع نظرية بعينها، فأرجوكم أن، يعني، معلش، تجاوزوها. ليست هذه بالطريقة الصحية للوجود، صدقوني. هذه المسألة قاطعة في رأيي، على أساس “أنا كنت في الموقف ده وعارف أولّه وأخره”.

لكن هناك سؤال أصعب يجب أن نتصدى له الآن: “إذا كان المنظّرون يرون نظرياتهم كليات متماسكة، فهل هذا يعني أنه من قبيل التهاون وقلة الالتزام الأكاديمي أن يختار المرء جزءًا أو منظورًا بعينه من النظرية؟” في رأيي أنه إذا كانت النظرية س أو ص مجموعة من الأدوات، فلك أن تختاري منها أداة معينة دون أن تلتزمي باستعمال مجموعة الأدوات بالكامل، طالما تفهمين تبعات استخدام هذه الأداة المُختارة. وهذه مسألة يمكن ممارستها بدرجات متفاوتة من التعقيد، بطبيعة الحال.

فكلما فهم المرء فهمًا جيدًا طبيعة مجموعة الأدوات داخل صندوق الأدوات بصورة كلية، وفهم كيف يتصل بعضها ببعض، زادت قدرة المرء على استعمال مجموعة الأدوات بانتقائية.

في حين أن هناك خطر قائم بأن يختار المرء السندان دون أن يدرك أن لا فائدة له من غير المطرقة، فهناك أيضاً احتمال قائم باختيار مطرقة مختلفة [من صندوق أدوات آخر] تكون مفيدة إذا استُخدمت مصحوبة بمجموعة أدوات مختلفة. لكن دعوني أؤكد، بعض الناس يقدرون على اختيار السندان فقط، ثم يجدوا في نهاية المطاف طريقة مبتكرة لاستخدامه دون الحاجة إلى مطرقة. لذا، لا شيء مُطلق هنا، أنا فقط أعرض عليكم أمثلة وتشبيهات لا أكثر.

 

مؤخرًا قال فريدريك جاميسون إنه إذا كان بطل الحداثة هو قائد الأوركسترا، فبطل ما بعد الحداثة هو مدير المتحف [قرأتها: الحداثة اتسمت بضرورة وجود كل نظري متناغم منتظم في ظل تقدير المقولات الكبرى، ما يعني أن المُنظّر الحداثي بالضرورة قائد أوركسترا يقدم مقطوعة موسيقية متجانسة، وما بعد الحداثة معنية بالتشظي وتحدي المقولات الكبرى، ما يعني أن مُنظرها يتعامل مع النظرية والفلسفة وكأنه فوقها، ينسقها في متحف أو قاعة عرض دون تقدير للتجانس أو الكُليّة]. ولقد قال أيضًا أن مدير المتحف بالنسبة إلى قائد الأوركسترا هو بمثابة المُنظر بالنسبة إلى الفيلسوف. ورغم أن هذه المقولة تعارض تصور ماركس عن المُنظّر المُبدع بصفته شخص يشعل النار عن طريق حكّ نظريات متعارضة ببعضها وكأنها أحجار، وأنا أجده تصور رائع، فما زلت أرى فكرة النظرية بصفتها مجموعة معروضات في متحف، وليس مقطوعة سيمفونية متجانسة، فكرة مستفزة ومفيدة. لكن في الوقت نفسه، فهو مجاز قاصر لأنه يقدم النظرية وكأنها شيء يعرضه المرء ويستعرضه، وليس كشيء يستخدمه المرء ويستغله. لكن في النهاية فنحن نفعل في النظرية هذا وذاك [أي الاستعراض والاستخدام] لكن هل أنا بحاجة لأنبهكم إلى مخاطر وسقطات الاستعراض؟ أي نوع من الاستعراض؟

المشكلة ببساطة هي أن إغراء الاستعراض النظري جزء لا يتجزأ من التعليم الجامعي.

في حين نعرف ونقدر جميعًا تلك المقولة المتكررة “كلما عرفت أكثر أدركت مدى قصور معرفتي”، فما زلنا – وياللعجب – عرضة لإغراءات أن نظهر بمظهر العارفين، ولإغراءات التمكن من خطاب العارفين، ذلك التصور المرتبط بإغراء التمكن من سلطة أدبية/معنوية. “النظرية” كونها عمومًا خاضعة تاريخيًا لهيمنة الذكور، لعبت في التاريخ دورًا مهمًا في إمداد [الأكاديميين] بذلك الصوت الفوقي المفعم بالسلطة. المسألة مغرية جدًا وسهل للغاية أن يسقط المرء في حبائلها، وأنا ما زلت أقع في هذه الحفرة وإن كان يعنّ لي التفكير بأنني مع مرور الزمن أقع فيها بقدر أقل. وبطبيعة الحال فنحن في زمن التغير المناخي، الذي يذكرنا دائمًا بأن “التمكن من خطاب العارفين” مسألة بعيدة كل البُعد عن التمكن.

أعرف أن من الصعب إقناعكم بما سأقوله الآن، لكن من الممتع والأطيب كثيرًا أن يقرأ المرء نصًا مباشرًا يخلو من النظرية أو نصًا يظهر بين سطوره الكاتب “محتاساً” يحاول تربيط نظرية وبنائها بشكل صادق، عن قراءة نصّ زاخر بتلك “الأصوات الفوقية” النظرية التي يقدمها الكاتب وكأنها “حقيقة مطلقة”. لكن هذا ما يؤدي إليه الاستعراض النظري والمباهاة بالتمكن من النظرية. أجد هذه المشكلة كامنة – جزئيًا – وراء واحدة من أسخف جوانب التنظير، وتسهم فيما أسميه – بالتنويع على مقولات ماركس – بـ “التصنيم التنظيري” [عبادة النظرية والتنظير في حد ذاته].

9780522867381_opt

لا شك أن النظرية قابلة للاستهلاك مثلما تُستهلك السلعة في السوق، والسوق هنا هي العالم الأكاديمي/الفكري.

النظريات – مثل سلع كثيرة أخرى – تروج وتبور حسب الموضة القائمة. يصبح بعضها “موضة”، فتبدو وكأنها ضرورية لا غنى عنها.

 الحق أن من الممكن إجراء تحليل “بوردياوي” [نسبة إلى بورديو] لمسألة الذوق التنظيري هذه. في سوق النظريات، هناك ما هو عليه إجماع وما هو في عداد الهرطقة دائمًا. هناك أشكال من العنف الرمزي. هناك مهيمن وخاضع للهيمنة، وهلم جرا. كما أن الناس [القصد: الأكاديميين أو المنظرين] يقولون مقولات عن أنفسهم انطلاقًا من كونهم مع نظرية أو ضدها عمومًا، ويفعلون هذا بانتقاء نظريات وتجاهل نظريات، وربما – وهذا هو الأهم – من خلال طريقتهم في التنظير: فبعض الاجتهادات هنا هي محاكاة أقل تعقيدًا لنظريات أخرى، وبعضها تنظيرات طليعية تفتح أفاقًا جديدة.

من ثم، ففي أي مجال – ومرة أخرى وكما أكد بورديو – فالمرء يُصنّف بناء على تصنيفه هو للأشياء. أو دعوني أوضح: ينتهي المطاف بالمُنظّر هكذا: أن يخضع للتنظير على نظرياته بالاستعانة بمنطقه هو في التنظير.

يمكننا الانتقال من النظر للموضوع بالاستعانة ببورديو، إلى مفهوم فرويد عن “نرجسية الاختلافات الصغيرة”، من أجل الوصول إلى فهم مفيد لبعض من التنافسات والتناحرات المؤثرة كل التأثير على عالم النظرية. فمن طريقة تمييز بعض المنتجين والمستهلكين للنظرية لأنفسهم عن غيرهم ممن ينتجون ويستهلكون النظرية، وتشديدهم على الفروق الدقيقة هنا، يبدو الأمر وكأن مصير كوكب الأرض على المحكّ. بالعربية توجد كلمة “تخوين”، وهي دالة على نزوع البعض إلى اعتبار من يختلفون معهم خونة بشكل ما، فتصبح الاختلافات بيننا – تلقائيًا – غير قابلة للتوفيق، وكأنها مسألة حياة أو موت. المذهل لي أن هناك قدر من حكاية “التخوين” هذه في اتخاذ الأفراد لمواقعهم النظرية. بالعودة إلى بعض كتاباتي، لا يمكنني أن أبرئ نفسي تمامًا من هذه الممارسة.

لكن الاقتراب من سوق النظرية بالاستعانة ببورديو أو فرويد ليست بالأدوات التحليلية الوحيدة المثمرة في هذا الصدد – وأنا بكلامي هذا أنظّر لفكرة استخدام النظرية فأقدم بالتبعية مثالاً على كيف تكون النظرية مفيدة ومثمرة: الوصول إلى فهم وتصورات ما كانت لتصبح ممكنة أو متاحة لولا وجود النظرية – وإلا فلماذا نحن مهمومون بالنظرية؟ من هذا المنظور يمكن للمرء أيضًا الاقتراب من “النظرية كسلعة” بالبناء على الفكرة الماركسية التي ألمحت إليها أعلاه. القصد أن تصوّر النظريات وكأنها سلع في السوق مع إعمال منطق الإنتاج والاستهلاك، يجعلها وكأنها سلع رأسمالية. فهي يتم التعامل معها تصنيميًا بالمنطق الماركسي، الذي حلل السلعة الرأسمالية باستخدام مفهومه الشهير عن “تصنيم السلعة”.

الخلاصة أن النظريات تبدو متصلة بعضها ببعض وُتضرب بعضها ببعض بنفس طريقة فهم ماركس للإنتاج ولسلطة التصنيم.

بالنسبة إليه، فعالم السلعة الرأسمالية هو عالم “تبدو فيه منتجات العقل البشري وكأنها أرقام لها حياتها المستقلة وتدخل في علاقات مع بعضها البعض ومع الجنس البشري”. الأمر نفسه ينسحب على عالم النظرية، الذي هو نتاج العمل البشري (القراءة والتفكير والكتابة والتحرير والطباعة، إلخ…) لكن هذا العمل البشري يُصنّم وكأنه سلعة لها قدراتها وحياتها الخاصة التي لا علاقة لها بالعمل الذي أنتجها.

ما زال من غير المفهوم كيف يسمح الأكاديميون لأنفسهم (وهم دونًا عن غيرهم يفهمون جيدًا الوقت والمجهود المستثمران في إنتاج جملة مفيدة – ناهيك عن إنتاج نظرية معتبرة) بأن يعلنوا بعد قضاء خمس دقائق في قراءة عمل لشخص آخر، أن هذا الكلام “زبالة” أو “أوافق عليه”، ما يعني قلة احترام وقت العمل الميت والحي الذي أُنفق على إنتاج الكلام. على طريقة ماركس، فهذا التغييب التصنيمي لعملية العمل وراء ما نستهلكه من أفكار ليس نتاج غلطة ذهنية. فالتصنيم في نظر ماركس كان مثلاً “كيف يخبر المرء عملية شروق الشمس”. التصنيم عنده – وآسف لاستخدام الكلمة التالية إذا تصادف أن عندكم حساسية منها – هو صنف أونطولوجي من أصناف التعمية. هذا يختلف عن مفهوم “الأفكار الحاكمة هي أفكار الطبقات الحاكمة” الخاص بالأيديولوجيا، وهو المفهوم المنطوي بالضرورة على فهم أبستمولوجي للتغييب [قرأتها: فهم مُنطلق من سؤال كيف نعرف حقيقة التغييب، لا: ما هو التغييب في حد ذاته]. الأمر الأخير قابل للنقد والمحاججة. لكن في صحبة التصنيم… فمهما تعلمنا كيف تدور الأرض حول الشمس وأيقنّا بصحة الفيزياء الكونية، فسوف تبقى تجربتنا الشخصية مع شروق الشمس قائمة. أو كما قال جوديلييه منذ زمن طويل: “ليس المرء هو الذي يخدع نفسه، إنما الحقيقة هي التي تخدعه”.

لتبني واعتماد هذا المدخل الناقد إلى النظرية فعلينا أن نعرف أن الحدّ من النزعات التصنيمية المذكورة أعلاه لن يتحقق بالتبشير بالمدخل السليم للتعامل مع النظرية. إنما المطلوب هو مزاج مختلف من التفاعل مع النظرية… ممارسة مختلفة وطريقة مختلفة لإدراك النظرية وتصورها تسمح لنا بالبدء في عملية “الابتعاد عن التصنيم”. أو بمعنى آخر، على المرء التعامل مع النظرية والاجتهاد في معايشتها بشكل يُعلي قيمة استخدامها، وليس الاكتفاء بـ “ما هي الطريقة اللائقة للتنظير”… هذا هو ما أود أن أنبهكم إليه.

إن أول سؤال علينا أن نطرحه على أنفسنا ونحن نكتب هو ما يلي: “ما الذي ساعدتني هذه النظرية في رؤيته أو فهمه أو شرحه وما كنت لأراه لولاها؟”

وعلى مستوى الممارسة المباشرة، فأنا أقصد مقاومة النزوع في أوساط الكُتاب الأكاديميين قليلي الخبرة بالكتابة إلى استخدام اقتباس لمُنظّر في نهاية فقرة كتبوها عن مسألة إمبريقية بطريقة، مثلًا: “من هذه المقولة يظهر أن بورديو كان محقًا في مقولته الفلانية…” هذا الشكل من أشكال الاقتباس يبدو معه وكأن هدف الكاتب الأساسي من دراسته هو إثبات صحة مقولة مُنظّر من المُنظّرين. إذا لم يكن الهدف الأساسي من أطروحة الكاتب هو إثبات صحة مقولة مُنظّر بعينه، فأنا أجد هذه الطريقة في الاقتباس استخدام رديء للنظرية. المسألة “تضايق جدًا” في الأنثروبولوجيا تحديدًا، عندما تكون الأطروحة مثلًا عن أفريقيا أو الشرق الأوسط، إلخ. فهذه الطريقة في الاقتباس من نظرية غربية في نهاية نصّ يخلو من النظرية يعني وكأن الكاتب يقول مثلًا: “مما سبق يتضح أن باديو أو باتلر فهموا جيدًا الموقف القائم في موزمبيق من غير ما يروحوها أساسًا”. دعوني أؤكد لكم أن لا باديو أو باتلر أو غيرهما يحبون استخدامهم بهذه الطريقة. عن نفسي فأنا أتضايق جدًا عندما أجد أكاديمي آخر يستخدم اجتهاداتي لإعطاء سلطة وثقة في اجتهاده هو عن العنصرية مثلاً… أحبّذ استخدام اجتهاداتي النظرية بطريقة تساعد غيري في رؤية أمور جديدة.

ثانيًا، علينا الاجتهاد والتدرب على طريقة للتفكير انطلاقًا من نظرية العمل الخاصة بالقيمة، في أثناء تعاملنا مع الأعمال النظرية التي نقرأها.

هذا ضروري إذا كنا نريد التدرب على احترام الأعمال النظرية كعمل مبذول وليس كشيء ظهر حديثًا في السوق النظرية لنتمتع به كسلعة في حد ذاتها.

فكر كم من الوقت تستغرق في كتابة فكرة. هل تود بعد إنفاق أيام عديدة على كتابة فقرتين أن يأتي من يقرأ الفقرتين في دقيقتين ثم يقول إن الفكرة هنا “غلط” أو “رديئة” أو “لا معنى لها”؟ ناهيك عن تقديره للفكرة بأنها “غبية” أو “حمقاء”. هذا العمل هو عمل تراكمي أيضًا. فليس الجميع على نفس المستوى من التمتع بمقروئية عالية ومن التعقد الفلسفي. قد أبدو نخبويًا فيما سأقوله، لكن إذا جلست لتقرأ نصًا لمفكر معتبر وشعرت بحاجته إلى كورس تعريفي بـ “السببية الاجتماعية” أو “الحتمية” أو خلافه، فعليك أن تفكر جيدًا، مرتين وثلاث مرات، قبل أن تعتنق هذا التصور عنه، إذ ربما كانت المسألة أنك لم تفهم ما قاله بوضوح، وليس أنه لا يرقى لمستواك الذهني. ربما إذن المطلوب هو قراءة العمل نفسه مرة ثانية. من حيث “الاستعراض”، يحتاج النقد إلى وقت ومجهود عمل أقل، ويؤدي إلى رأس مال ثقافي أكبر ومسحة “المُنظّر الكول” مقارنة بـ “الفهم”. لذا فمن المفهوم كيف ينزع المرء إلى الخروج بمقولات قاطعة وجذابة ومفعمة بالسلطة من قبيل “ليس عند بيير بورديو نظرية تغيير”، بدلًا من السعي لفهم مستوى تعقيد نظرية بورديو عن إعادة الإنتاج.

وبعدين إنت ليه محتاج تقول “بورديو معندوش نظرية تغيير” معلش يعني؟ لو كنت عايز نظرية تغيير روح لفلان ولّا علان اللي أنت شايف إن عنده نظرية تغيير وسيبك من بورديو من الأساس. هذا التعسف وكأنك تقول “جوديث باتلر مش بتعرف تعمل برجر حلو” (أنا الحقيقة معرفش إذا كانت جوديث باتلر بتعمل برجر حلو ولا وحش، بس أنا بأخمن…).

إذن لاكتساب منظور أخلاقي في التعامل مع النظرية واستخدامها، عليك بعد هذا السيمنار أن تقرأ الكاتبات والكُتاب الذين يرقون إلى مستوى الاحترام النظري، وهم حتى ولو كانوا في تنظيرهم ناقدين لكُتاب آخرين، فسوف تجدهم دائمًا قادرين على فهم واستيعاب حجم وجودة العمل المنفق على الاجتهاد النظري الذي يستهلكوه وينقدوه. هم في الأساس نُقاد يرون في المُنظّرين الآخرين زملاء “في الصنعة” ويربطهم بهم همّ مشترك. لا عجب أن هذا المنظور الأخلاقي في التعامل مع النظرية واستخدامها حاضر بقوة – إن لم يكن سائدًا بالكامل – في أوساط الكُتاب/الكاتبات النسويات، ولننظر مثلًا إلى أعمال لورين بيرلانت أو جوديث باتلر أو مارلين ستراثيرن، وسنجده أقل حضورًا – هذا الاحترام – في كتابات أنصار باديو وبورديو ولاتور من والاهم في كل مكان. لكن ثمة أيضًا منظرين ذكور مختلفين. فأنا أجد مثلًا نقد إيفانز-بريتشارد لـ ليفي-برول مثالًا طيبًا. كما يعجبني كثيرًا كيف قدم جورج ستينميتز عمله “خط يد الشيطان” وكيف واجه في المقدمة سعيد ببورديو بلاكان وكيف “ضربهم ببعضهم” للوقوف على منطق الكولونيالية الألمانية.

.

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s