سكة معارف: الخوف والمشاعر والصورة.. كيف نقرأ المجتمع؟

حضرها وأعدها – عمرو خيري

نُشر أيضًا على موقع سكة معارف.

هذه تغطية لجلسة ضمن سلسلة لقاءات سكة المعارف. المدون أدناه لا يعكس بدقة تامة الكلمة التي ألقاها هاني السيد، رئيس قسم القانون في الجامعة الأمريكية، ولا يعدو كونه تغطية لموضوع الجلسة وقد تكون به بعض الأخطاء، وهي مسؤولية كاتبها.

 مساء الخير. جلسة اليوم هي عن كيف ممكن نتناول الخوف في العلوم الاجتماعية، في سياق “كيف نقرأ المجتمع المصري اليوم؟”. هو سؤال إجاباته متعددة، يسعى لإزاحة السحر عن العالم. بمعنى أن نترك موقعنا “كمتفرجين” وننتقل إلى موقع “الكواليس”، إننا نشوف أيه اللي بيشكّل هذا المشهد. تكلمنا الجلسة الماضية عن دور المشاعر المختلفة (الخوف، الأمل، التفاؤل، التضامن، الانفعال) في فهم المجتمع المصري، إزاي المشاعر دي جزء من هويتنا. الأدوات النظرية اللي تم طرحها الجلسة الماضية كانت جزء من “إزالة السحر” عن تجربة المجتمع المصري في وضعه الحالي.

بعض المنتجات الإعلامية بتكون لها تبعات كبيرة على الرأي العام. هناك مثلا صورة الولد السوري الميت على الشط.. نعرف من أين جاء، من أي قرية، ماذا حدث له، سياق الواقعة. وإن بعد نشر الصورة في 2016 في شبكة أخبار تركية تحولت الصورة إلى حدث أيقوني موجود في كل الجرائد والمواقع الإخبارية في العالم. وكثير من الناس اعتبروا الصورة المذكورة نجاح مهني وأخلاقي، لأنها أدت إلى زيادة وعي الناس في العالم بما يصادفه اللاجئون، وقد تكون سببًا في تغيرات طرأت على سياسات اللجوء في الاتحاد الأوروبي. وفي نفس الوقت هناك باحث حقوقي عمل “ريتويت” للصورة فانتشرت، كتب مقال يحاول يبرر سبب نشره للصورة. قال مثلا إنها جذبت تضامن الناس بطريقة أو بأخرى. كل هذه السلسلة من الأحداث: نشر صورة، اعتبارها تجاوز أخلاقي، ثم تحقيقها لمكاسب سياسية للاجئين، كيف حدثت؟

مثال آخر: صورة البنت اليمنية التي تعاني من المجاعة.. أثارت تعاطف الناس مع القضية وسأل الكثيرون كيف حدثت المجاعة، وبعد أسبوع توفت البنت، وتم نشر مقال على موقع الجريدة التي نشرت الصورة يبرر لماذا نشروا الصورة.

1036486144.jpg

وهناك عموما قصة متكررة.. الصحفي الذي عليه توثيق عذابات الآخرين مع وقوفه على الحياد، مجرد مصور لحوادث مُفجعة، ولماذا لم يتدخل، وما مدى أخلاقية التقاطه لصور الضحايا، الأطفال مثلا.

وهناك شيء ذات خصوصية في وجود صور الأطفال المفجعة في الإعلام. لحظة الدراما والإحساس بالخسارة. لحظة “الانفعال” Affect التي بتولدها الصورة.

كل ما حكينا فيه، كيف نربطه بمسألة “إزالة السحر عن العالم”؟ هذا النمط: صورة، تعبئة وتضامن، ثم تغيير: من أين جاء هذا النمط؟ لاحظت إننا نقدر نضع أيدينا على لحظة التضامن مع الأسى أو الحزن الفردي تُعبر عنها صور مأساوية. لحظة تشكل جمهور بخصوص صور تعبر عن عذاب الآخرين.

في 1862 نشرت نيويورك تايمز مقالاً عن معرض صور في نيويورك، عُرضت فيه صور للقتلى في معركة من معارك الحرب الأهلية الأمريكية. المصور من المصورين المشهورين في تلك الفترة، واشتهر بمساهماته الكبيرة في تحويل التصوير الفوتوغرافي إلى مهنة صحفية. كان يستخدم الكاميرات القديمة، الصورة تُطبع على ألواح زجاج. الصورة المعروضة في ذلك المقال عبارة عن أرض معركة فيها عدد كبير من القتلى. لأول مرة في حياة الكثير من القراء فهم الرأي العام إن الصورة فتحت أمامه مجال لشيء جديد يقدر يحكي فيه. لأول مرة وكأن هذا المصور جلب القتلى ووضعهم أمام الجمهور، في مداخل بيوتهم، حتى يتفرجوا عليهم. تخيلوا في ذلك الزمن، أن يشعر الإنسان أن هناك من جلب جثة ووضعها أمام باب بيته. في تعليقه على نفس المعرض، قال قاضي مشهور في المحكمة الأمريكية العليا، في مقال شهير له، اسمه “أفعال أشعة الشمس” وكان يشير إلى فعل التصوير السحري… حكى كيف أنه عندما رأى الصورة المذكورة وجد نفسه في ساحة المعركة. إذن هذه التجربة الشخصية لأفراد محددين، بسبب الصورة، تحولت إلى تجربة جماعية للكل. وكأنه حشد المعنى الحديث لإعادة تغيير ما هو مُشترك في المجتمع.. تشكل الجمهور، أو الرأي العام، من خلال علاقة معينة مع عذابات الغير، المجهولين لهذا الجمهور.

ننتقل إلى مثال آخر. هذه المرة، من أوائل القرن العشرين. ليوبولد الثاني ملك بلجيكا، بالإضافة لكونه ملك بلجيكا فهو كان نصاب كبير. ومن مهاراته في النصب إنه تمكن من إقناع الدول الأوروبية في مؤتمر برلين (1884) بالاعتراف بدولة الكونغو المستقلة بصفتها المُلك الشخصي له، لليوبولد الثاني. كيف من منطلق القانون الدولي تكون دولة ملك شخصي لفرد؟ حتى ليوبولد في كلامه مع مواطنيه كان يقول الكونغو عزبتي الشخصية.. ملكي أنا. وقام بتقسيم الكونغو إلى إقطاعيات ومنها إقطاعية فيها الشركة الهندية البلجيكية لاستخراج المطاط، وكانت نظمهم وتدابيرهم قاسية للغاية، وارتكبوا فظائع ومجازر.. ملايين الناس ماتوا. في هذه الاقطاعية تحديدا كان من النظم المعمول بها “كل قرية عليها إعطاء كمية معينة من المطاط وإلا جنود الشركة يمارسوا على أهلها أعمال القتل وتقطيع الأطراف بل وحتى أكل لحوم البشر”. في ذلك المكان، تلك الإقطاعية تحديدا، ذهب أليس وجون هاريس ضمن حملة تبشيرية. فوجئا سنة 1904 بأن جائهما شخص معه صرة صغيرة، وجدوا فيها قدم ويد صغيرتين، لابنة الشخص حامل الصُرة، قتلها الجنود وشوهوها. قامت أليس هاريس بتصوير الرجل ومعه أطراف ابنته (الصورة). جون هاريس لما رأى الصورة بعث بخبرها إلى رئيسه في البعثة التبشيرية. في تلك الأثناء شهدت إنجلترا حملة ضد العبودية شملت أنحاء العالم. ولم تكن حملة نشطة للغاية، كان صعب استثارة تعاطف الناس مع الحملة، لكن فجأة ظهرت الصورة فعكست تجربة إنسانية فظيعة، فتحولت إلى أداة تخدم هدف سياسي محمود، هو القضاء على العبودية.

picture-2.jpg.jpg

من 1905 إلى 1910 عمل جون وأليس هاريس حوالي ثلاثمائة محاضرة في السنة، عرضوا فيها صور من فظائع العبودية في الكونغو، وقاما بتوعية الجمهور بالاستناد إلى هذه الصور. المحاضرات حضرها آلاف البشر، من ألفين إلى خمسة آلاف في المحاضرة الواحدة. إذن على مدار خمس سنين انشغلا بالدفاع عن قضية آمنا بها باستخدام صور ضحايا بشعة. ونجحت الحملة في العالم. كتب عنها مارك توين عن طريق كتاب سخر فيه من الملك ليوبولد بالتركيز على ممارسات الاستغلال والعبودية. الكتاب محاولة ساخرة.. ليوبولد في الكتاب يستكشف كيف فهم الناس لفظائع اللي ارتكبها وتعجب من غضب الناس منه.. وفي الكتاب صورة لكاميرا مسلطة على الملك، ومعها تعليق “هي الشاهد الذي لم أستطع أن أخفيه بالرشوة”، وكأنها عدوه اللدود. تعليق مارك توين في الكتاب يدور حول القدرة السحرية للصورة، كيف إنها جعلت القوي، الملك نفسه، يرتعد رعباً. قد تقول الكثير عن مسألة توثيق الفظائع. وكل ما حكيناه يدور في إطار كيف تكون الجمهور في إطار سياسي في تضامن مع عذاب الآخرين. وفي الوقت نفسه، ثمة شيء آخر غائب عن هذه القصة، لماذا يحاول المصورون أو الناشرون تبرير نشرهم للصور البشعة المذكورة.

نذهب لمثال آخر. منذ سنة 1941 بدأت الجيوش المشاركة في الحرب العالمية الثانية في إنشاء وحدات لتوثيق مجريات الحرب بالصور الفوتوغرافية. الصور التي تم إنتاجها أصبحت جزءاً من فهمنا حاليًا لما حدث في مخيمات الأسرى النازية. الصور وثقت أشخاص/أسرى بين الحياة والموت. والمشترك بين المصورين في شهاداتهم عن الموضوع أنهم شهدوا على شيء لم يسبق لهم مواجهته. بالنسبة للمصورين كانوا أمام خيار أخلاقي صعب: من جهة فهم كانوا بحاجة للوصول إلى طريقة لتعريف العالم بفظاعة ما حدث، ومن جهة أخرى كيف يعرضوا هذه الفظائع على العالم. لكن وصل بعض المصورين لقناعة إن الأمر ضروري، بموجب واجب أخلاقي لكشف ما حدث للعالم، لكن هناك مصور كندي مثلا قال لا: لا يمكن التعدي على الضحايا وخصوصيتهم.

Approaching_Omaha

الصور القادرة على إثارة مشاعر وانفعالات قوية، وجزء من عملية إنتاجها هو النزاع الأخلاقي عند المصورين. رأيي إن التصوير لنقل وتوثيق عذاب الآخرين له بنية ثابتة نسبيًا تستمر بالرغم من كل التغيرات السياسية والتكنولوجية عبر التاريخ. الناس تمر بنفس التجربة مع الصورة، مع نشرها، والتعامل مع عذابات الآخرين. وضروري نقف هنا قليلا لتحليل الموضوع. ماذا نفعل عندما نحاول أن نوثق بالصورة مصيبة الغير؟

الشخص لما يقف أمام فظائع ويرى إنه مُلزم بتوثيقها، بالتصوير، ما الذي يفعله عندما يتخذ هذا القرار؟ عند وقوفه أمام حدث معين لتوثيقه، ينتج موثقه شيء جديد، هو الصورة في حالتنا. سوزان سونتاج تحدثت عن إن “فظاعة” الصورة تتمثل في اختيار الشخص لمادة تصويره بشكل تعسفي، فيه قدر من العنف، في اختياره للمشهد الذي تثبته الصورة. تلك القوة الساحرة للصورة: رغبة المرء في التقاط شيء فظيع يؤدي إلى شراكة المصور بشكل أو بآخر في إنتاج المشهد أو حدوث تلك الفظائع. ونحن كمتفرجين عندما نرى الصورة وكأننا جزء من هذا الالتباس الأخلاقي، وكأننا شركاء في الشيء الذي نستهلكه، الصورة المعبرة عن فظائع.

Susan_Sontag_1979_©Lynn_Gilbert_crop

سوزان سونتاج

وهناك أمر آخر. من الأمثلة المذكورة، هو ما حكينا عنه في البداية، وهو أثر صور الحرب الأهلية على الناس في أمريكا. عملية نشر الفظاعات والتضامن مع المعرضين للمآسي، هذا جزء من عملية تكوين التضامن بين الناس من خلال إعادة تشكيل ما هو منظور (مثال: المعركة لم تعد تجربة شخصية لأفراد إنما مأساة يشترك فيها الجمهور الأعرض). وهناك – ثالثاً – مسألة الإيمان المهيب بقوة الصورة. إن الصورة لها القدرة على التأثير على السياسة. ولو كان هذا التقدير غير سليم في الأحوال كافة، يعني مثلا لم تتوقف الفظاعات في الكونغو بسبب الصورة، إنما بسبب تغيرات في إنتاج المطاط. لكن على الأقل شعر رأي عام عريض بالمأساة عن طريق الصورة، وهناك إيمان عريض بقوة الصورة. وأخيرًا مسألة التضارب الأخلاقي عند المصور وعند الجمهور المشاهد للصورة.

من المذكور، من الأمثلة والاستنتاجات أعلاه.. نظرا لأن الصور قد أصبح لها هذا الدور في تشكيل هويتنا الجمعية في تضامننا مع عذاب الآخر. هل هي صدفة أن في مرحلة معينة من القرن التاسع عشر حدثت تغيرات كثيرة في العالم لآليات الحكم والسلطة السياسية، معنى سلطة الدولة على المواطن وسلطة الحاكم على الأفراد. حكى في هذا التغير كثيرون، منهم ميشيل فوكو في كتابه “العقاب والمراقبة”، وهناك إدوارد سعيد في كتابه “الاستشراق” عن كيف شهدت آليات الحكم تغيرات جذرية في القرن التاسع عشر.. وهناك كتب تخص مصر، منها “كل رجال الباشا” لخالد فهمي… وتيموثي ميتشل “استعمار مصر”، تناولوا مثلاً تغيرات علاقات الناس ببعضها وعلاقة ذلك بالسلطة السياسية. فوكو غيّر فهمنا لطبيعة السلطة السياسية من شيء تستحوذ عليه طبقة حاكمة إلى كونه شيء معمم وجزء من سلسلة آليات صغيرة متبادلة بين الناس في كل المؤسسات من خلالها يُعاد تشكيلنا كأفراد وعلاقتنا بأنفسنا وفهمنا لحياتنا المشتركة في مجتمع.

هذه السلطة السياسية من أساسياتها مسألة آليات تشكيل الفرد، وعي الفرد بذاته ووعيه بنفسه كعضو في المجتمع وتفاعله مع الغير من الأفراد. بمعنى لم يعد موضوع “السيطرة” مقتصر على سيطرة السلطة على جسد الإنسان (العقاب البدني وغيره) لكن تحولت السيطرة كموضوع للسلطة إلى ما يخص علاقات الأفراد ببعضهم في المجتمع. هذا تغير جديد منذ القرن التاسع عشر بحسب فوكو. ما نأخذه من فوكو وميتشل وخالد فهمي وغيرهم، هو إن الجمهور أو عموم الشعب أصبح أيضا ككل مستقل عن الأفراد المكونين له موضوعا للحكم.

في حالة الحداثة السياسية الحالية، الجمهور ككيان سياسي وكموضوع لأدوات الحكم والسلطة السياسية تم تشكيله من خلال آليات للقوة تتحكم بخلق علاقة جمعية مع عذاب الآخرين.

حتى انفعالنا وتفاعلنا مع مآسي الغير هو في نهاية الأمر منتجات سياسية. التصوير كفعل هو تحديد ما يدخل ضمن إطار الصورة. قد يكون قرار بسيط لكنه مهم جدا.. التأطير معناه اتخاذ قرار ما يدخل في الصورة وما يقع خارجها. تُقرر من خلال الصورة ما هو الشيء الذي سيصبح جزءا من حياة الجموع وما سيبقى غير منظور. هو قرار جمالي وسياسي في الوقت نفسه، بمعنى إن هناك آليات قائمة دائما لتحديد ما يدخل في الإطار وما يقع خارجه. لما نسأل سؤال كيف نقرأ المجتمع المصري اليوم وكأننا نسأل كيف ننظر، التأطير… ما هي الصورة التي يجب أن نراها وهي محجوبة عنّا أساسًا. كيف نصل إلى استنتاج نتيجة لقراءتنا.

جوديث باتلر قالت في مقال لها: “في نهاية الأمر الهدف هو الوصول – كمشاهدين – إلى حالة أن نكون كمشاهدين للمشاهدين، أي لا نطيع قرار التأطير، أن نخالفه ونخالف ما سُمح لنا برؤيته وما لم يُسمح لنا برؤيته”.

.