إعداد – عمرو خيري
في 28 أغسطس/آب استضافت مكتبة مالمو العامة، في أقصى جنوب السويد، الروائي الأمريكي بول أوستر، في حوار مع الكاتب والأكاديمي والمُترجم السويدي آريس فيوريتوس. وُلد الأخير لأب يوناني وأم نمساوية، ونشأ بمدينة يوتيبوري ثاني أكبر المدن السويدية.
ترجم لبول أوستر إلى السويدية عملين، هما “اختراع العُزلة” و”الكراسة الحمراء” عامي 1992 و1993 على التوالي. كما ترجم عملا لجاك دريدا الذي درس معه في الجامعة في باريس، فضلاً عن سبعة أعمال لفلاديمير نابوكوف. شغل فيورتوس منصب المستشار الثقافي بالسفارة السويدية في برلين لعدة سنوات، وهو حالياً أستاذ علم الجمال في جامعة سودرتورن في ستوكهولم.
كان المُقرر أن تبدأ الفعالية في السابعة مساء، وأن تنتهي في الثامنة والربع، لكن نحو الساعة 5:45 وأنا أدخل المكتبة كانت نصف مقاعد القاعة الكبرى في مكتبة مالمو العامة قد شغلها رواد الفعالية، وفي السابعة إلا الربع نبهت موظفة بالمكتبة على الحضور، الذين كانوا قد شغلوا جميع المقاعد الخمسمائة فضلاً عمّن وقفوا على الدرج وفي الطوابق الأربعة العليا المُطلة على القاعة، أن أبواب المكتبة ستُغلق في تمام السابعة وعليه فمن سيخرج من المكتبة لن يتمكن من العودة.

قاعة مكتبة مالمو الرئيسية قبل ساعات من بداية النقاش
كُل الحضور تقريباً – على النقيض من التركيبة السكانية الفسيفسائية للمدينة – من السويديين “التقليديين”، لو صح اللفظ، مع غياب شبه تام للسويديين العرب الذين يشكلون نسبة غير هينة من سكان المدينة. وأغلب الحضور من النساء في أواسط العمر وأكبر سناً، باستثناء مجموعات قليلة من الشباب.
دخل آريس فيوريتوس ومعه بول أوستر. أعلن الأول أن لديه 32 سؤالاً للأخير قبل أن يطرح عليه 4 أسئلة عن روايته الأخيرة “4321”. الأسئلة والإجابات التالية هي جزء من النقاش الذي دار لساعة وربع الساعة تقريباً، ولم أتمكن من تسجيلها كاملة. وقد ركزت في الاستعراض التالي للنقاش على ما يمسّ الكتابة والأدب والسياسة.
فيوريتوس: سؤالي الأول عن الزمن. أنت بلغت عُمر الأنبياء كما أعلنه الكتاب المُقدس، سن السبعين، قضيت من عُمرك خمسون عاماً تكتب. حدثنا عن هذه الأعوام الطويلة. ولو كنت قد اخترت قديماً أمراً غير الكتابة فما عساه يكون؟
أوستر: في سن الخامسة عشرة عرفت أنني لا أريد سوى الكتابة. ربما لو كنت اخترت غيرها، كنت لأختار الموسيقى، لكن ليس عندي المهارات اللازمة لها. لا، ليس سوى الكتابة. لا أعرف كيف أمضيت هذه السنوات الطويلة منكباً عليها، لكن لعل إحساس الخيبة والإحباط هو السبب. بعد كل كتاب جديد أرى عيوبه، وأقول لنفسي سأكتب كتاباً أفضل المرة القادمة، وهكذا أستمر، في محاولات متكررة. أنا ما زلت في مرحلة “ما زلت في الطريق”.
فيوريتوس: لكن مؤكد أن هناك كتاباً بعينه شق هوّة صنعت ما قبل وما بعد.. نقطة تحول بعينها. في رأيي مثلاً كتابك “اختراع العُزلة” كان النقطة التي انطلقت بعدها في الأعمال الروائية.
أوستر: عندي حوالي ألف صفحة، هي شظايا وأجزاء من روايات عكفت عليها وأنا صغير. في سن الثامنة عشرة، وحتى الثانية والعشرين تقريباً. كنت ساذجاً، تخيلت وقتها أنني قادر على كتابة رواية. ثم توقفت، وعكفت على الشعر، كتبت الشعر طيلة مرحلة العشرينيات من عمري، ومقالات، وترجمت عدة أعمال [عن الفرنسية]. ثم فجأة وفي سن الحادية والثلاثين انهار زواجي الأول، ومات أبي، وأفلست تماماً، ضربات متتابعة والفاصل الزمني بينها قصير. وجدت نفسي فجأة أكتب عن أبي، كتبت “اختراع العزلة” على جزءين. عندما انتهيت منه كنت قد أثبتّ لنفسي أنني قادر على إتمام كتاب نثري كامل.
ثم إنني عُدت إلى كتاباتي السابقة. وكنت قبل إتمام “اختراع العُزلة”، وأنا عاكف عليه، اتصل بي شخص يسأل عن مكتب تحريات خاص ذات يوم، فرددت عليه بأن الرقم خطأ. وأتصل في اليوم التالي فقلت له الشيء نفسه، ثم وبخت نفسي، لماذا لم أقل له إنني مكتب التحريات وأسمع منه ما يريده من التحري الخاص؟ وانتظرت أن يتصل مرة ثالثة، ولم يفعل. ومن هنا بدأت فكرة “مدينة الزجاج” [أول أجزاء ثلاثية نيويورك]. بعد الانتهاء من “اختراع العزلة” ونشره عكفت على “مدينة الزجاج”، وكان شقاً كبيراً منها مأخوذاً من كتاباتي السابقة، من الألف صفحة التي ذكرتها، انطلاقاً من تساؤلاتي عن المُتصل بمكتب التحريات الذي كلمني بالخطأ مرتين. ومن بعدها، استفادت كثيراً رواياتي الخمس الأولى مما كتبت في مطلع العشرينيات من أجزاء وشظايا لم تكتمل.

بول أوستر على المنصة مع آريس فيوريتوس
فيوريتوس: أرى في أعمالك كلها هوساً شديداً بالوحدة.
أوستر: لا، عذراً. عندنا في الإنجليزية كلمتين: الوحدة –loneliness والعُزلة –solitude. الوحدة لها دلالات سلبية، مسألة حزينة. العُزلة محايدة. أن تكون وحدك. لم أحس بالهوس بالوحدة، إنما ربما شعرت بالهوس بالعُزلة. العُزلة مصير. قالت لي زوجتي قبل أيام مقولة رائعة: يولد البشر جميعاً من بشر آخرين، ويموتون جميعاً في عُزلة.
أنا أعمل وأمامي حائط أبيض. عالمي هو الورقة البيضاء. هذا هو مقاس العالم عندي طيلة سنوات العمل الطويلة التي ذكرتها.
فيوريتوس: بعض الأسئلة القصيرة. صف لنا بول أوستر في العشرينيات من عمره في سبع كلمات.
أوستر: ههههه. أهذا برنامج مسابقات؟ طيب: مُشتعل – خجول – مغرور – غبي – مُحبِط – صبور. الصبر أنقذه.
فيوريتوس: طفولتك كانت سعيدة أم تعيسة؟
أوستر: هذا وذاك.
فيوريتوس: أكثر كلمة تحبها في اللغة الإنجليزية؟
أوستر: لا أعرف. قالت صديقة ذات مرة إنه إذا كان عند أي كاتب كلمة واحدة يحبها دون غيرها فهو كاتب في ورطة.
فيوريتوس: لو كنت خُلقت حيواناً، فماذا تُفضل؟
أوستر: وأنا في الخامسة كنت أتخيلني سنجاباً. لكن من بعدها، لا شكرا، أفضل أن أبقى إنساناً.
فيوريتوس: القلم الرصاص أم الكمبيوتر أو الآلة الكاتبة؟
أوستر: القلم الرصاص.
فيوريتوس: على مدار سنوات عملك الخمسين، كم صفحة تقريباً كتبتها ولم تُنشَر؟
أوستر: حوالي 2000 صفحة، بما يشمل الألف صفحة التي كتبتها ولم أنشرها وأنا شاب.
فيوريتوس: الرياضة والكتابة والقصص البوليسية.
أوستر: الكتابة والرياضة.. لا أعرف. ألبير كامو قال إنه تعلم الجدية في الكتابة من لعبه كرة القدم. بيكيت كان لاعب كريكيت ممتاز طيلة عمره. أنا لعبت بيسبول حتى الأربعينيات من عمري تقريباً، وهي رياضة فيها أمرين هامين. أولاً، المباراة غير محددة بزمن. تنتهي عندما يفوز فريق من الفريقين. ثانياً، أفضل فرق البيسبول على الإطلاق نسبة فوزها لا تتجاوز 57 في المائة، أي أن أفضل فريق بيسبول في العالم هُزم بواقع 43 في المائة من مبارياته. هي فضيلة تقبل الفشل. الفشل جزء لا يتجزأ من الحياة، أن تفشل فأنت حي تتنفس.
فيوريتوس: هل تصف أي من أعمالك بالفشل؟
أوستر: لا. لا أشعر بالفشل في أي من أعمالي المنشورة. لكن مقابلها هناك أعمال كتبت فيها مثلاً مائة صفحة أو خمسين صفحة ثم توقفت. عندما أشعر بالنصّ يحيد عن مصيره أتخلى عنه وأتوقف.
فيوريتوس: كيف تدخل خبراتك الشخصية إلى أعمالك؟
أوستر: بكل السبل. كتابي الجديد مثلا، 4321، أحكي فيه عن أربع حيوات محتملة لشخص واحد. لست أنا هذا الشخص. هو يشاركني في أمور قليلة. لكن مثلاً عندما كتبت طفولته في حيواته الأربع عدت إلى طفولتي، إلى سن الرابعة وسن السادسة، كان ضرورياً أن أستحضر طفولتي. أستحضرت بيت جدي وجدتي في نيويورك. استحضرت ذكريات أخرى ووجدت لنفسها طريقها على الورق في صيغ أخرى. بكل السبل.
فيوريتوس: كتابك الجديد مختلف. هو رواية تاريخية، وأسلوبك تغير. أصبحت جملك وفقراتك أطول بكثير. حدثنا عنه.
أوستر: وجدت نفساً جديداً. الجملة الطويلة، التي قد تصل أحياناً إلى صفحتين وثلاث صفحات، آمل وأنا أكتبها أن تكون سلسة، رحبة ومريحة، أتنفس فيها وأرجو أن يتنفس فيها القارئ. عُدت للتاريخ الأمريكي في القرن العشرين وأخذت منه الكثير دون صلة مباشرة بحيوات بطل الرواية الأربع، لكن لنقل أنها رواية عن “الحياة في الزمن”.
وأنا أكتب كنت أرتجل، من عقلي إلى الورق مباشرة. لم أضع خطة أو خريطة للأحداث والشخصيات. أنت قلت إنني قضيت خمسين عاماً في الكتابة. بعد كل هذه السنوات لم أعد بحاجة إلى خرائط، يدي تعرف الطريق، أرتجل وتعرف يدي متى أحيد عن الصواب فتتوقف وتعود لنقطة آمنة تلتقط منها الخيط الصائب. أصبحت يدي تعرف الكلمة الخطأ، والخيط الخطأ. أصبحت الكتابة في دمي.
فيوريتوس: أنت وترامب. ما هو قرارك الأول لو أصبحت رئيساً لأمريكا؟
أوستر: سألغي عقوبة الإعدام. [صوت تصفيق حماسي في القاعة].
فيوريتوس: ولو أصبح ترامب كاتباً بدلاً منك، عم سيكتب؟
أوستر: ترامب لا يقرأ. ترامب لا يقدر على القراءة ولا يحب رائحة الكتب. لا يحتمل رائحة الكتب ولا يتصور وجودها إلى جواره. ترامب لا يستطيع الكتابة ولن يقدر عليها، فرجاء دعنا لا نضيع وقتاً في تصورات عن المستحيل.
فيوريتوس: وماذا قد يكتب الأدب عن ترامب؟
أوستر: الأدب يحتاج إلى وقت طويل حتى يمتص الحقيقة، الواقع. نحن لسنا صحفيين. ربما بعد 15 أو 50 سنة قد تصدر روايات عن سنوات ترامب، عن هذا الحدث. لكن بإمكان الروائي أن يوثق ما يحدث، علماً بأن الأدب الحقيقي يأتي فيما بعد، من تأمل كل ما حدث بعد أن يحدث كاملاً، بعد كثير من التأمل والتفكير. لكن بالطبع نحتاج إلى توثيق ما يفعله هذا المخبول، هذا السافل. ترامب أصاب أمريكا بانهيار عصبي. هو نرجسي مُزمن وحاد. يتفرج عليه الجميع ويعلقون على كل كلامه وقد يبدو على السطح متوتراً وأخرق ومثيرا للشقفة، لكن من داخله، في نفسه، هو في أسعد حالاته، يعيش أسعد أوقات حياته.
فيوريتوس: أمريكا تشهد نزاعاً قد يؤدي إلى انقسامها، يعود إلى نهايات الحرب الأهلية. ما الذي يحدث؟
أوستر: أفضل شيء فعلناه مؤخراً كان انتخاب أوباما رئيساً. لكن كان انتخابه صدمة لكثير من المتعصبين العنصريين في أمريكا. أشعل في قلوبهم نار العنصرية، كيف يحكمنا أسود؟ فوجدوا في ترامب المُخلص. نحن كدولة لم نتعامل بالقدر الكافي مع ميراث العبودية ولم نعالجه. منذ انتهاء الحرب الأهلية وحتى الآن ونحن ننكل بالسود. لو كنت من السود، كنت سأحمل للمجتمع الأمريكي كراهية شديدة.
نحن أمام ميراث ضخم وصعب طفى إلى السطح وأشتعل. ترامب كشخص مسألة حقيرة، لكنه ليس السبب الوحيد لما تشهده أمريكا حالياً من تجليات للعنصرية.