ديفيد هارفي (4): نظام البنوك يبيع المستقبل ويخلق الوهم الرأسمالي

محاضرات ديفيد هارفي 4

حضرها وأعدها يوسف رامز

دي المحاضرة الرابعة في سلسلة محاضرات ديفيد هارفي، جزء من سيمنار “ضد الرأسمالية أفكار وأفعال” المحاضرات دي مفتوحة للجمهور وفي نفس الوقت بتتقدم ضمن سيمنار (كورس Credited course) لطلبة الدكتوراه في قسم الأنثروبولوجي، كل يوم أربع في مركز الدراسات العليا بجامعة مدينة نيويورك GC-CUNY. “الهضم” ده للمحاضرات بيتقدم على قراءات بموافقة هارفي وجيف منسقي السيمنار.

في المحاضرة دي، هارفي بيتكلم عن نظام التمويل والبنوك، والعمليات المشابهة زي “المكسب بالتشريد”،[1] واستخراج القيمة ودورهم في خلق رأسمال وهمي – خيالي ملوش أي علاقة بالواقع. هارفي هيشرح إزاي مفهوم “الفايده” أو الفوايد في النظام الرأسمالي هو عملية تخزين للعمل، اللي المفروض يحصل في المستقبل، في الحاضر. يعني بنجيب المستقبل وناخده نحبسه في الحاضر، وإزاي العملية دي سبب أساسي في أزمات الرأسمالية لأن ببساطة المستقبل مش تحت أمرنا ولا تحت أمر تصورتنا الوهمية للنظام الرأسمالي. في أخر المحاضرة هارفي بيتكلم عن أفكار بديلة لتعديل ملكية البنوك كخطوة لاستغلال أزمات النظام الرأسمالي وللتخلص منه.

هارفي بيقول: أول ما ابتديت شغل على الماركسية في السبعينيات، كانت فيه كتابات قليلة جدا في التقاليد الماركسية عن الفلوس والتمويل. باستثناء كتاب واحد في العشرينيات مكنش فيه نصوص مهمة. في نهايات الستينيات لما البنوك أفلست وكان فيه مطالب بفرض رقابة الدولة على القطاع المالي ابتدت تظهر كتب عن أزمة الدولة، لكن كتب قليلة هي اللي اهتمت بدراسة نظام التمويل ودوره في النظام الرأسمالي.

آدم سميث كان متفائل للغاية بفكرة البنوك وكان معتبرها أفضل وسيط مالي ممكن. ده انتهى بعد الحرب العالمية التانية. لغاية السبعينيات كانت الحسابات الوطنية ما بتاخدش في اعتبارها البنوك. بمعنى إن نشاط البنوك كان بيتشاف كوسيط مش كنشاط منتج في حد ذاته وبالتالي ما بيتحسبش في الإنتاج القومي. للأسف حركة احتلوا وول ستريت ما أخدتش في اعتبارها النقطة دي (إن ممكن جدا نشوف كل قطاع التمويل والبنوك كمجرد وسيط مش نشاط منتج!). في الاقتصاد البريطاني الحالي فيه مراجعات بتحصل للموضوع ده، لغاية فين ممكن نعتبر البنوك والتمويل نشاط منتج للقيمة. فيه كتاب مهم صدر السنة دي لمارينا مازو Mariana Mazzucato اسمه “قيمة كل شيء”   بيسأل إزاي كتير من الأنشطة اللي بنعتبرها منتجة للقيمة هي في الأصل غير منتجة لقيمة.

img-1.jpg

طيب إيه أهم صور المشكلة؟ إن نظام التمويل حوالين العالم بيضخم النظام الرأسمالي بشكل غير حقيقي. الرسمة دي في النص اللي فوق بتوضح حجم ديون الصين، شايفين اللي بيحصل من 2007! دين الصين يساوي 245 مرة مجمل إنتاجها القومي! في الصورة الأولانية الرسمة اللي تحت عن ديون الأفراد – مش الشركات والمؤسسات الحكومية، فقط الأفراد ـ قبل 2013 كان ممنوع الأفراد ياخدوا قروض، طيب لما اتسمح للأفراد بالاستدانة شايفين! طيب الصين مديونة لمين! يمكن لأمريكا! لأ في الرسمة اللي تحت دي ديون أمريكا 70 تريليون دولار!

img-2.jpg

حكاية إن الناس اتفاجئت باللي حصل في 2007 مش صحيحة [الأزمة الاقتصادية العالمية]، اقتصاديين كتير كانوا عارفين عن الأزمة قبلها بكتير، بس محدش كان مستعد يصدق. طب إحنا خرجنا إزاي من أزمة 2007، ما خرجناش. كل حاجة اتضاعفت والنظام تضخم شكلأ.

الصين راحت تبني واستهلكت أسمنت في سنة واحدة قد اللي الولايات المتحدة استهلكته في 100 سنة، عشان تداري الأزمة وتحولها لمباني مفيش حد قادر يشتريها، فالناس تاخد قروض فالنظام يتضخم ونعمل نفسنا عدينا الأزمة وهكذا.

ماركس في الكتاب التاني من رأس المال بيدينا طرق مهمة لفهم الحكاية دي، لأن السؤال مش في التمويل لكن في كل دايرة الإنتاج الرأسمالي. والنقطة المهمة هنا هي إزاي دورة رأس المال (المعتمدة على التمويل والبنوك) بتشتغل على إيجاد ” رأسمال وهمي “، بتخلق رأسمال مالي وهمي وتدخلها في دايرة الإنتاج.

 اللي ماركس أخد باله منه إن الفلوس ليها قيمة استعمالية ممكن تتحول لرأسمال يدخل في عملية الإنتاج، وبالتالي الفلوس نفسها بتتحول لسلعة، وكل سلعة لها تمن. وهنا ندخل في الدايرة الجهنمية لأن الفلوس هي تعبير مادي عن القيمة الرمزية. لما تتحول الفلوس لسلعة (ليها قيمة) نبقى قصاد حالة ملهاش أي معنى، لأن كده إحنا بنتكلم عن قيمة القيمة! (عن تمثيل رمزي لعلاقة رمزية). وماركس هنا بيقول آه فيه قيمة بتتحرك هنا في الدايرة بتاعتنا ومع تحول الفلوس لسلعة لما تروح لحد ممكن ينتج بيها ويحقق فايدة. الفلوس ليها سعر لكن المفروض ملهاش قيمة. سعر الفلوس هو اللي احنا بنسميه “الفايدة” (زي فوايد البنوك كده). ماركس بيقول إن فيه حاجتين بيضخموا الفوايد: حالة المنافسة، والعرض والطلب. وده اختلاف في كلام ماركس في الكتاب التاني عن الكتاب الأول من رأس المال. لأنه في الكتاب الأول بيقول إن العرض والطلب ما بيشرحوش أي حاجة. وكمان ” المنافسة” في الكتاب الأول بيقول كمان إنها ما بتشرحش حاجة. في الكتاب التاني فجأة بنلاقي الحاجتين دول – حالة المنافسة، والعرض والطلب –  هما اللي بيشرحوا موضوع الفايدة.

سعر الفايدة ملوش دعوة بالوقت الاجتماعي اللازم للإنتاج، فقط بالمنافسة وبتوفر الفلوس. ودي مسألة مهمة لأن ماركس بيتكلم عن فرصة لتغيير نمط الإنتاج نفسه. دورة الفايدة مختلف عن كل حاجة تانية في دايرة الإنتاج وبتحصل بشكل منفصل. بتنتشر في النظام الرأسمالي لكنها عندها ديناميكيتها الخاصة. وأحنا عارفين إن من زمان ومن قبل النظام الرأسمالي مسألة الفايدة دي موجودة، فاكرين رواية تاجر البندقية! اللي ماركس بيقوله إن المكونات دي سابقة على رأس المال بس وظيفتنا إننا نعرف إيه دورها في النظام الرأسمالي.

التناقض الأساسي إنه الرأسمالية ملهاش حل من غير نظام تمويل، بس بمجرد ما نبدأ حكاية التمويل دي ما نقدرش نسيطر عليها، ونوصل للي حصل في 2007، و2008.

فيه إدراك للمشكلة وأن ده نظام لا يمكن السيطرة عليه. طب إيه أدوار نظام التمويل في الرأسمالية؟ إنها بتجمع الفلوس المتوزعة في حلقة الإنتاج وبتنقل الإنتاج من قطاع للتاني عشان تحقق أعلى كفاءة ممكنة.

VOE-US

ماركس في فصل الماكينات في الكتاب الأول بيؤكد إن مفيش حاجة اسمها اَله بتنتج القيمة. الماكينة رأسمال ثابت ما بينتجش قيمة، لكن ممكن تساعدك في رفع القيمة النسبية لما الماكينة تبقى متطورة الوقت الازم لانتاج السلعة هيقل. وبالتالي سعرها يقل والرواتب تقل لأن العامل بقا بينتج اكتر في وقت أقل (او بالتحديد قيمة الراتب الفعلية – الشرائية – هي اللي بتقل). دي نفس حكاية نظام التمويل الـ credit  system  ، التمويل ما يولدش قيمة لكن بيسهل رفع القيمة النسبية من خلال زيادة الإنتاج وتكثيفه في المناطق اللي بتكسب أكتر. إزاي نظام التمويل بيعمل ده؟ في الجزء الثاني من رأس المال بيكلمنا ماركس عن إزاي نظام التمويل بيعدل الزمن. لو القطن بيطلع مره في السنة وصناعة القطن محتاجة تستمر طول السنة نحل فرق الزمن ده إزاي؟ من خلال نظام التمويل. نظام تمويل فعال بيخلي الاقتصاد ناعم. تاني حاجه هو السرعة والاستمرار، والسؤال المهم هو قد إيه الفلوس المفروض تتحرك بسرعة، كل ما كانت حركة الفلوس أسرع كان الربح أعلى، والتسريع هنا في الزمان والمكان. يعني ممكن نتخيل نظام التمويل وكأنه الجهاز العصبي اللي بينظم حركة جسم رأس المال. نظام التمويل أساسي لنشأة النظام الرأسمالي كله واستمرار حركته.

والفايدة هي تخزين للعمل اللي المفروض يحصل في المستقبل في الحاضر. يعني بنجيب المستقبل ونحطه في الحاضر.

تعالوا نتخيل ان شركة طيران أخدت قرض وأتحدد على القرض ده فوايد، ده معناه إن لازم يبقى فيه سفر في المستقبل. طب لو الناس قررت ما تستعملش المطار ده أو شركة الطيران دي! ما ينفعش.. الناس لازم تسافر لأننا بالفعل أخدنا المستقبل وخزناه في الحاضر، وهنزق الناس إنها تسافر وتستخدم المطار بأي شكل. ومن هنا بيجي تضخم الديون لأن المستقبل مش تحت أمرنا.

طيب هل حكاية تخزين المستقبل في الحاضر دي ممكن يدفع تمنها الرأسماليين؟ لأ طبعا، الفقراء اللي بيدفعوا التمن كالعادة. فاكرين لما

مدينة نيويورك قررت تبيع سندات ديونها، لما كان فيه توقع عالي بالسداد كان الحد الأدنى للسهم 20 ألف دولار، فجأة قرروا إن الفقراء من حقهم يشتروا أسهم وبقى السهم بعشرة دولار، الناس جريت تشتري الأسهم، طب ايه اللي حصل، اللي حصل ببساطة إن بقى واضح لبتوع الاقتصاد إن الحكاية خسرانة وإن الرأسماليين لازم يخرجوا منها ويشيلوها للفقراء.

ده شبه اللي حصل في اليونان. ببساطة من سنة 1992 وده دور صندوق النقد، إن اللي يدفع تمن الخسارة الفقراء وإنه يضمن إن الرأسماليين يخرجوا من الأزمات بسلام. ده اللي حصل في امريكا في 2007 و2008، في الأزمة الاقتصادية للبنوك لما شوفنا شركات زي جنرال موتورز عندها بنوك ضخمة، ضخمه لدرجة إنها ما ينفعش تنهار، ولما أفلست البنوك دي، فقراء أمريكا دفعوا من جيوبهم مليارات الدولارات في صورة دعم من الدولة لبنوك جنرال موتورز وغيرها!

السؤال دلوقتي حوالين هل ينفع نثور على نظام التمويل ولا نعدله فقط، ماركس بيقول إن إحنا قصاد نوعين من رأس المال: رأس المال المنتج للقيمة ورأس المال التمويلي (غير المنتج للقيمة)، وكل رأسمالي هو الاتنين في نفس الوقت.. هو بينتج القيمة وهو بينتج فلوس تدخل في عمليات التمويل. ده صحيح لكل فرد منتج، كل ما يبقى معاه فلوس هيسأل على إزاي ياخد فايدة على فلوسه. ومن هنا جت فكرة الفصل بين الملكية والإدارة، المالك وجهة نظرة إنه عاوز عائد على رأس المال، المدير عاوز يوظف الفلوس وينظم العمل. طب إزاي التناقض ده بيتحل؟ الطريقة الأشهر هي الملكية الجماعية لرأس المال. سان سيمون بيقسم المجتمع لمنتجين وغير منتجين، المنتجين هما العمال والرأسمالين، غير المنتجين زي رجال الدين وأجهزة الدولة، وده طبعا عكس ماركس. ممكن نشوف إن ماركس رأيه إن التعاونيات أحد الحلول لمسألة الرأسمالية، يكون من خلال الملكية التعاونية. زي ما قولنا إعادة تنظيم جهاز الإنتاج ممكن يكون أحد الحلول. النظام التعاوني في وقت ماركس كان جديد وماركس كان مهتم بيه جدا وبفكرة العمل التعاوني. وهنا فيه فرصة لأننا نسأل السؤال إذا كان فيه طريقة بديلة لتنظيم الملكية يكون فيها العمال هما نفسهم أصحاب رأس المال. وماركس متفائل بإن تعاونيات العمال ممكن تحسن ظروفهم بشكل عام وممكن الحكاية دي تطرح نماذج مختلفة. تعاونيات الإنتاج بتوفر مساحة عشان نسأل: هل ممكن نلاقي طريقة بديلة يكون فيها العمال هما المتحكمين من خلال الملكية؟ ماركس متفائل رغم إنه عارف إن ده في حدود الرأسمالية مش هيحل المشكلة. في الكتاب التاني في الفصل عن البنوك ونظام التمويل ماركس بيقول إن الأشخاص اللي مهتمين بالدخول في مسألة التمويل ممكن يبقوا منفصلين عن طبقة الرأسماليين المنتجين. لأنه فيه طبقة هتكون مهتمة فقط بتحقيق فوايد على الفلوس اللي معاها. وهنا مهم نفرق مع ماركس بين إنتاج القيمة واستخراج القيمة (expansion of value)  وده شبه اللي اتكلمت عنه في مفهوم “المكسب بالتشريد” . وهنا نرجع لمسألة صناعة رأس المال الوهمي. لو بصينا لأنشطة البنوك وإزاي البنوك بتسلف بنوك، هنشوف إزاي خلق رأسمال خيالي أو وهمي بيحصل بمعزل عن أي إنتاج.

أنا شايف بوضوح إن هيكون فيه انهيار كبير في النظام الرأسمالي خلال 3 او 4 سنين، وهتتقال أسئلة بجد حوالين نوع التعديلات والتصحيحات اللي محتاجين نعملها في النظام. طب إزاي نغير نمط الإنتاج عشان نتحدى النظام المالي؟ مثير للانتباه إننا لأول مرة بنشوف في أوروبا، في بريطانيا، حزب اجتماعي بيطرح فكرة التمويل الجماعي لتحويل ملكية الشركات. وده شبه خطة السويد في نهاية الستينيات بتحويل كل الشركات والمؤسسات المسيطرة لملكية جماعية، ثورة من غير ما نحتاج نسيطر على الشارع. حزب العمال البريطاني دلوقتي بيتكلم عن “الملكية الشعبية “ وده مفهوم مختلف عن “التأميم” اللي بتعمله الدولة، لأ بيتكلموا عن تأسيس شركات يملكها الناس، مؤسسات رقابة يملكها الناس وهكذا. البنوك بالتحديد لازم تبقى ملك الناس مش ملك الدولة ولا رأس المال. لازم نشوف حل لإصلاح النظام الحالي، ما ينفعش نفكر بس في إننا محتاجين النظام ده كله ينهار وبعدين نبني واحد جديد، لازم كمان يبقى عندنا خطط للتعامل مع النظام الحالي لأنه انهياره كله مرة واحدة كارثة. كتير من قوى اليسار محبوسة في انتظار نهاية النظام، تمام بس هنسيطر إزاي؟ هيبقى إيه رد فعلنا لما تحصل أزمات مهولة زي 2008؟ ما ينفعش في المستقبل نضيع النوع ده من الفرص.

[1]  المكسب بالتشريد   accumulation by dispossession  مفهوم مهم عمله ديفيد هارفي في الماركسية والجغرافيا، والمقصود هنا إزاي الدولة كممثلة للرأسمالية بتخلق رأسمال وهمي وخيالي، أو بتحقق مكسب وكأنها خلقت قيمة بمجرد تنفيذها لعمليات تشريد الفقرا من بيوتهم واراضيهم، زي ما بيحصل عندنا في مصر في مثلث ماسبيرو – بولاق أبو العلا وزي ما حصل في كذا منطقة. الدولة تؤمر بإخلاء وتشريد الناس من مناطقهم القديمة اللي في الغالب بتبقى مناطق متميزة في وسط البلد وتدفع لهم ع المتر أو ع الشقة كلام فارغ وفجأة الأرض اللي كانت المتر بمية جنيه تبقى المتر بميت ألف جنيه، وتيجي طبقة الأغنياء تحل محل الفقراء وتاخد أرضهم بحجة التطوير، ودي عملية في علم العمران اسمها الجنتره Gentrification، أو زي ما الباحثة العمرانية أمنية خليل بتترجمها “الإحلال الطبقي العمراني”.

 

محاضرات ديفيد هارفي السابقة على قراءات:

المحاضرة الثالثة: ما هي النيوليبرالية: مشروع الصفوة لدعم القمع باسم الحرية

المحاضرة الثانية: كسر حاجز القيمة.. هل ينهار النظام الرأسمالي! 

المحاضرة الأولى: نمو الموت وجنون العقل الاقتصادي

.