تشارلز رايت ميلز: الخيال السوسيولوجي

هذا المُجتزأ من كتاب “الخيال السوسيولوجي” لتشارلز رايت ميلز تُرجم في إطار أعمال “معمل الترجمة والكتابة”، مشروع “سكة معارف”، موسم 2018-2019. صدر كتاب ميلز عام 1959، وهذا المُجتزأ من الفصل الأول من الكتاب ويمكن قراءته كمقال قائم بذاته.

الفصل الأول: الوعد

ترجمة: بسمة ناجي

غالبًا ما يشعر الناس في عصرنا بأن حياتهم الخاصة سلسلة من شِراك. يتلمسون ذلك في عوالمهم اليومية حين يعجزون عن تخطي مشاكلهم، وغالبًا ما يكونوا مصيبين تمامًا حيال ذلك. تتقيد المعارف المباشرة لعامة الناس وما يقدمون عليه من تجارب بأفلاكهم الخاصة التي يدورون فيها؛ فرؤاهم وقواهم مرتبطة بنطاقات العمل القريبة، والعائلة، والجيرة؛ وفي الأوساط الأخرى يمضون في الحياة عن طريق تبني وجهات نظر الآخرين، ويظلوا متفرجين. لكن كلما تنامى وعيهم – على ضبابيته – بالمخاطر والمطامح التي تتجاوز دوائرهم الخاصة، زاد شعورهم بالحصار.

 يحمل هذا الشعور بالحصار في باطنه على ما يبدو تغيرات عامة/غير شخصية في بنية مجتمعات القارة ذاتها. فوقائع التاريخ المعاصر يمكن النظر إليها بصفتها أحداث نجاح وفشل أفراد، رجالًا ونساء. عندما يتحول مجتمع ما إلى الصناعة؛ يصير الفلاح عاملًا، وينتهي دور الإقطاعي، أو يظهر كرجل أعمال. حين تنهض طبقات أو تضمحل، يوَظَف فرد أو يصير عاطلًا عن العمل؛ حين يتصاعد معدل الاستثمار أو ينخفض، ينتعش فردٌ ماليًا أو يُفلِس. عند اندلاع الحروب، يصبح مندوب شركة التأمين جُنديًا يطلق الصواريخ، ويتحول أمين المخازن إلى جندي يُشغل الرادار، وتحيا الزوجة الزوج بلا مؤنِس؛ ويكبُر الطفل دون أحد والديه. يستعصي فهم سيرة الفرد وتاريخ المجتمع دون الإحاطة بكلاهما معًا.

9781912127092

إلا أن الناس عادةً لا يُعَرِّفوا المشاكل التي يواجهونها بوضوح من حيث ارتباطها بالتحول التاريخي والتناقض المؤسسي. لا ينسبون عادةً ما يتمتعون به من يُسر إلى تقلبات المجتمعات التي يعيشون فيها. نادرًا ما يدرك العامة ماهية الصلة المعقدة بين أنماط حياتهم الخاصة والمسار التاريخي للعالم، فلا يدركون عادةً ما تمثله هذه الصلة للصنف البشري الذي سيصيرون إليه ولضروب صناعة التاريخ التي قد يمثلوا جزءًا منها. فهم لا يملكون السمات العقلية الأساسية لإدراك التبادلية بين الفرد والمجتمع، وبين سيرة الإنسان والتاريخ، وبين النفس والعالم. إنهم عاجزون عن التعامل مع مشاكلهم الشخصية بطرق تمكّنهم من توجيه التحولات الهيكلية الكامنة وراء مشاكلهم تلك في العادةً.

لا عجب من ذلك، بالتأكيد. في أي حقبة من الزمان تعرض جمعٌ من الناس لمثل زلازل التغيرات المتتابعة تلك؟ فالأمريكان لم يعهدوا مثل هذه التحولات الكارثية كالرجال والنساء من مجتمعات أخرى، بسبب وقائع التاريخ التي سريعًا ما صارت “مجرد إرث تاريخي”. الوقائع التاريخية التي تؤثر في كل فرد في العالم الآن، هي تاريخُ العالم. في إطار هذا المشهد وهذه الحقبة، وفي غضون جيلٍ واحد، يتحول سُدُس البشرية من كل ما هو إقطاعي ومتخلف إلى كل ما هو حداثي، ومتقدم، ومخيف. انفك الاستعمار السياسي، وقامت إمبريالية عصرية أكثر خِفْيَة. تشتعل الثورات؛ فيشعر الناس بالقبضة المحكمة لأنظمة حكم لها هيئة جديدة. تنهض المجتمعات الشمولية، ثم تتشظى حطامًا، أو تنجح نجاحًا أسطوريًا. بعد صعودها على مدار قرنين من الزمان، ظهرت الرأسمالية كنهجٍ وحيد لتحويل مجتمع ما إلى آلة صناعية. بعد قرنين من الأمل، حتى الديمقراطية الرسمية مازالت قاصرة على جماعة محدودة من البشر. وفي الدول الأقل تقدمًا، تتفتت أساليب الحياة الغابرة وتصبح توقعات جديدة غامضة احتياجات مُلِحَة. في الدول بالغة التقدم، تصير آليات القوة والبطش كُلية الهيمنة وبيروقراطية الهيئة. الإنسانية ذاتها ملقاة الآن أمامنا، فالدولة العظمى الكائنة لدى كل قطب من القطبين (الرأسمالي والشيوعي) تُركز جهودها المهولة المنسقة كل التنسيق تحضيرًا للحرب العالمية الثالثة.

صياغة التاريخ ذاتها تتجاوز الآن في وتيرتها قدرة الناس على الاسترشاد بالقيم العليا. وأي قِيَم؟ حتى وهم مطمئنون، غالبًا ما يرى الناس أن سُبُل الإدراك والتفكير الأقدم قد انهارت وأن الأسس الأحدث مُلتبسة لدرجة الجمود الأخلاقي. هل من عجبٍ أن يشعر أناسٌ عاديون أنهم عاجزون عن التعامل مع العوالم الكبرى التي تجابههم فجأة؟ وأنهم عاجزون عن إدراك معنى عصرهم في سياق حياتهم الخاصة؟ وأنهم – بدفاعهم عن فرديتهم – يصبحوا مغيبين أخلاقيًا، بمحاولاتهم الحفاظ على عزلتهم التامة كأفراد منبتة صلتهم عن سياق أكبر؟ هل من عجَبٍ أن يسيطر عليهم الشعور بالحصار؟

لا تعوزهم المعلومات وحدها؛ ففي عصر الحقائق هذا، تهيمن المعلومات غالبًا على انتباههم ومن كثرتها تتجاوز قدراتهم على استيعابها. ليس فقط مهارات المنطق هي ما يحتاجون إليه، رغم أن نضالهم ليصيبوها غالبًا ما يستنزف طاقتهم المعنوية المحدودة [بمعنى أنها طاقة قابلة للاستنفاد].

إن ما يفتقرون إليه حقًا، وما يلمسون حاجتهم إليه، هو سمات عقلية من شأنها إعانتهم على استخدام المعلومات وتنمية الإدراك لإحراز إحاطة واضحة بما يجري في العالم وما قد يطرأ على نفوسهم. هذه السمات التي أنا بصدد نقاشها، والتي قد تحمل الصحفيين، الباحثين، الفنانين، والعامة، العلماء، والمحررين إلى التكهن بما قد يُدعى بـ “الخيال السوسيولوجي”.

إن الخيال السوسيولوجي يتيح لصاحبه فهم المشهد التاريخي الأكبر من حيث مغزاه للحياة الخاصة والسلوك المهني الظاهري لمجموعة متنوعة من الأفراد. إنه يُمَكِنَهم من إدراك كيف يخطئ الناس غالبًا، وتمييز أوضاعهم الاجتماعية في غمرة ما يمرون به يوميًا. في خِضَم هذا التلاطم، تُنشَد بنية المجتمع المعاصر، وفي إطار هذه البنية تُصاغ سيكولوجيات رجال ونساء شتَّى. عن طريق سُبل كهذه، يتركز قلق الأفراد على مشاكل محددة فينقلب الانصراف عن الشأن العام إلى انهماك في الشأن العام.

أولى ثمار هذا الخيال – والدرس الأول من علم الاجتماع الذي ينطوي عليه – هو فكرة أن الفرد يستطيع إدراك ما يحمله من خبرات، وقياس مصيره فقط من خلال فهم وضعه كفرد في سياق زمنه، وأنه يمكن للفرد معرفة فرصه في الحياة عن طريق أن يصبح واعيًا بفرص من حوله جميعًا من أفراد ممن لهم نفس ظروفه الفردية. إنه درسٌ مرير من نواحٍ عِدة، وعظيم من نواحٍ أخرى. نحن نجهل تمامًا حدود قدرات البشر فيما يتعلق بالجهد الفائق أو تراجع الإرادة، القدرة على الحزن أو السعادة، لذة الوحشية أو عذوبة المنطق. إلا أننا قد توصلنا في عصرنا هذا لحقيقة أن حدود “الطبيعة البشرية” مطلقة بشكل مخيف. لقد توصلنا لمعرفة أن كل فرد، من جيل لجيل، في مجتمع ما؛ تتحقق في حياته سيرة الإنسان، ويحياها في سياق تاريخي ما. من واقع هذه الحياة، فهو يساهم – ولو بالنذر اليسير – في تشكيل هذا المجتمع ومساره التاريخي، وإن كان هو ذاته صنيعة المجتمع وتقلباته التاريخية.

يتيح لنا الخيال السوسيولوجي استيعاب التاريخ وسيرة الإنسان وما بينهما من صلات في إطار مجتمعي.

هذه رسالته والوعد الذي يقدمه. يعد إدراك هذه الرسالة وهذا الوعد دلالة المحلل الاجتماعي الكلاسيكي. إنه من سمات أسلوب هربرت سبينسر، المنمق، المستفيض، وإي أيه روس، الرشيق، الكاشف، الحاد، لأوجست كومت، وإميل دوركايم، وكارل منهايم المعقد المحكم. إنه السمة المميزة لكل امتياز فكري لدى كارل ماركس، السر وراء رؤى ثورستين فيبلين التهكمية المتألقة، وأساس الواقعية متعددة الجوانب لدى جوزيف شومبيتر، وهو قوام المد السيكولوجي لويليام إدوارد ليكي، وعمق وصفاء ماكس فيبر. وهو المؤشر لمعرفة أفضل الدراسات المعاصرة للإنسان والمجتمع.

545ffddb3e474576886337

إميل دوركايم

إنّ أية دراسة اجتماعية أكملت مسيرتها الفكرية قد رجعت بالضرورة إلى مشكلات سيرة الإنسان والتاريخ وتقاطعاتهما مع المجتمع. أياً كانت المشكلات النوعية للمحلل الاجتماعي الكلاسيكي، وسواء كانت سمات الواقع الاجتماعي التي قد عمل على دراستها محدودة أو واسعة النطاق، فإن من كانوا مدركين بخيالهم الوعد الذي يقدمه عملهم قد طرحوا جميعًا أنواعًا ثلاثة من التساؤلات:

  • ما هي بنية هذا المجتمع تحديدًا كوحدة متكاملة؟ ما هي مكوناته الأساسية، وكيف تتصل ببعضها البعض؟ ما الذي يميزه عن أنظمة اجتماعية أخرى؟ في نطاقه، ما الذي تعنيه أي سمة بعينها لاستمراره أو تحوله؟
  • أين يقف هذا المجتمع في تاريخ البشرية؟ ما هي الآليات التي تسهم في تحولاته؟ ما هو موضعه ودوره في تطور البشرية ككل؟ كيف أثرت وتأثرت كل سمة من التي ندرسها بالحقبة الزمنية التي تظهر خلالها؟ ما هي السمات الأساسية لهذه الحقبة؟ ما الذي يميزها عن حِقَب زمنية أخرى؟ ما هي سُبُلَه المميزة في صياغة التاريخ؟
  • ما هي صنوف الرجال والنساء التي تسود ذلك المجتمع في تلك الفترة الزمنية؟ وأي الصنوف تدنو من السيادة؟ بأي وسيلة يتم انتقائهم، وتشكيلهم، وإطلاقهم، وإخضاعهم، توعيتهم، وترويضهم؟ أي “طبيعة بشرية” تتجلى في السلوك والشخصية التي نرصدها في هذا المجتمع أثناء تلك الفترة الزمنية؟ وما الذي تعنيه كلمة “طبيعة بشرية” تحديدًا لكل سمة من سمات المجتمع الذي نرصده؟

سواء كان محل الاهتمام بلد عظمى أو حالة أدبية ثانوية، عائلة، سجن، أسس عقائدية، فهذه هي نوعية الأسئلة التي طرحها أمهر المحللين الاجتماعيين. إنها المحاور الفكرية الجوهرية للدراسات الكلاسيكية لأفراد مجتمع ما – والأسئلة التي مرت حتمًا بأي ذهن يتمتع بالخيال السوسيولوجي. لذا فالخيال هو القدرة على التحول من منظور لآخر؛ من السياسي للسيكولوجي؛ من دراسة حالة أسرة واحدة لتقييم مقارن للموازنات العامة لدول العالم؛ من مدرسة اللاهوت للمؤسسة العسكرية؛ من استقصاءات صناعة البترول لدراسات الشعر المعاصر. إنه القدرة على التنسيق بين التحولات العامة شديدة البُعد عما هو ذاتي والسمات الجوهرية لذات الإنسان وإدراك العلاقة الثنائية بينهما. وبناءً على توظيفه، هناك دومًا السعي الدءوب لمعرفة الدلالة الاجتماعية والتاريخية للفرد في المجتمع والحقبة الزمنية التي تشكلت أثناءها سماته وكينونته.

هذا، وباختصار، ما يجعل الرجال والنساء المعاصرين يطمحون إلى فهم ما يجري في العالم بواسطة الخيال السوسيولوجي، وإدراك ما ينزل بذواتهم كنقاط دقيقة تتقاطع عندها سيرة الإنسان والتاريخ في إطار المجتمع. إن أقل ما توصف به فكرة الوعي الذاتي للإنسانية المعاصرة نفسها أنها غريبة إلى حدٍ بعيد، إن لم توصف دومًا بكونها دخيلة، استنادًا إلى إدراك كامل للنسبية الاجتماعية والقوى التحويلية للتاريخ. الخيال السوسيولوجي هو الصياغة الأكثر نفعًا لهذا الوعي الذاتي. توصل من خلال ممارسته أناس كانت عقلياتهم قد انجرفت في نسقٍ من مسارات محدودة إلى الشعور بيقظة مفاجئة في منزل اعتقدوا بكونهم يألفوه. بحقٍ أو بغير حق، فهم يميلون غالبًا للشعور بأنهم صاروا قادرين على التزوُد باستخلاصات وافية، وتقييمات متماسكة، وتوجيهات شاملة. تبدو لهم الآن الأحكام الغابرة التي ظهرت سابقًا، كنتاجٍ لعقلٍ بليد. حَيَت قدرتهم على الدهشة مجددًا. إنهم يكتسبون طريقة جديدة للتفكير، يجربون إعادة تقدير القيم؛ جملة القول، من خلال فِكَرَهم الخاص ووعيهم الخاص صاروا مدركين المغزى الثقافي للعلوم الاجتماعية.

ربما يكون أنفع تمايز يعمل من خلاله الخيال السوسيولوجي هو ما بين “الاضطرابات الخاصة بالبيئة المحيطة” و”مشكلات بنية المجتمع عامةً”. هذا التمايز أداة أساسية للخيال السوسيولوجي وملمح لكل المنجز الكلاسيكي للعلوم الاجتماعية.

تطرأ المشكلات/الاضطرابات ضمن تلافيف شخصية الفرد وفي نطاق علاقاته المباشرة مع آخرين؛ فهي متصلة بذات الفرد وبتلك المناطق المحدودة من الحياة الاجتماعية التي يعيها الفرد بشكل مباشر وشخصي. وعلى ذلك، فإن كشف المشكلات/الاضطرابات والتعامل معها كما ينبغي؛ يكمن في الفرد كوحدة بيوجرافية، وفي إطار الوسط الاجتماعي القريب جدًا، الوضع الاجتماعي المُعَرَّض لتجربته الشخصية وامتداد فعاليتها. إن كانت المشكلات/الاضطرابات شأن خاص؛ فهي تهدد القيم التي يعتنقها الفرد.

تتعلق القضايا بالمسائل التي تجاوِز هذه البيئات المحلية للفرد ونسق حياته الخاصة. إنها مرتبطة بتشكيل أوساط اجتماعية عديدة لمؤسسات مجتمع تاريخي ككل، بالأساليب التي تتداخل بها أوساط اجتماعية شتى وتتشابك لتكوين الهيكل الأشمل لحياة اجتماعية وتاريخية مُتأصلة. أية قضية هي شأنٌ عام: قيمة ما تتعلق بها الشعوب إذا شعرت بالتهديد. غالبًا ما يشتعل النقاش حول ما تعنيه هذه القيمة حقًا، وحول حقيقة ما يهددها. غالبًا ما يكون هذا الجدل بلا بؤرة إذا كان فقط بسبب أن هذه طبيعة خاصة بالقضية، خلاف المشكلات المنتشرة على نطاق واسع، ذلك أنها لا يمكن تعريفها بشكل مناسب بمعطيات البيئة المحيطة بعامة الناس بشكل يومي. في الواقع، غالبًا ما تنطوي أي قضية على أزمة في التدابير المؤسسية، وغالبًا ما تنطوي أيضًا على ما يسميه الماركسيون “التناقضات” أو ” الإنكار “.

وفقًا لهذه المعطيات، انظر إلى ظاهرة البطالة. ففي مدينة يسكنها مائة ألف نسمة، حين يكون فرد واحد عاطل فهذه مشكلته الخاصة، ولحلها كما ينبغي علينا مراقبة سمات الفرد، ومهاراته، وفرصه الآنية. لكن حين تكون أمة من خمسين مليون موظف، وخمسة عشر مليون عاطل، فهذه قضية، وقد لا نأمل في إيجاد حل لها في نطاق الفرص المتاحة لكل فرد. لقد انهار هيكل الفرص ذاته. يتطلب كلًا من التعريف الصحيح للمشكلة ونوعية الحلول الممكنة أن ننظر إلى المؤسسات الاقتصادية والسياسية في المجتمع، لا الحالة الفردية أو حالة مجموعة من الأفراد.

فكر في الحرب. قد تكون المعضلة الشخصية في الحرب – حين اندلاعها – هي كيفية النجاة منها، أو الموت بشرف؛ كيف تجني المال من ورائها؛ كيف يتم تصعيدك إلى رتبة أكثر أمانًا في الجهاز العسكري؛ أو كيف تساهم في إيقاف الحرب. باختصار، وفقًا لقيم الفرد، تكتشف أوساط اجتماعية عِدة من خلالها تكون النجاة من الحرب أو جعل موت المرء ذو قيمة. لكن القضايا الهيكلية للحرب متصلة اتصالً وثيقًا بمسبباتها؛ بسمات قياداتها؛ بتأثيرها على الاقتصاد والسياسة، والعائلة والمؤسسات الدينية، وبفوضى هذا العالم المكون من “دول-أمم” غير مسؤولة.

انظر إلى الزواج. يشمل الزواج رجل وامرأة قد يواجهان مشكلات خاصة، لكن حين يصل معدل الطلاق في السنوات الأربع الأولى إلى 250 حالة من كل 1000، فهذا مؤشر لقضية هيكلية مرتبطة بمؤسسات الزواج والعائلة والمنظومات الأخرى التي تؤثر عليهم.

أو تأمل المدينة؛ التمدد الجميل الرهيب والمزعج والمهيب للمدينة الكبرى. للعديد من أفراد الطبقة العليا يتمثل الحل الشخصي لـ “مشكلة المدينة” في الحصول على وحدة سكنية بقلب المدينة بجراج خاص أسفلها، وبعيدًا عنها بأربعين ميلًا، منزل بجوار هنري هيل، وحديقة نسقها جاريت إيكوب، على مساحة مائة فدان مما يمتلكون من أراضي. في هاتين البيئتين المنظمتين – بطاقم عمل صغير في كل طرف ومروحية خاصة – يستطيع أغلب الناس حل المشكلات المتعلقة بالبيئة الفردية التي يسببها واقع المدينة. لكن كل ذلك، مهما كان باهرًا، لا يخلق حلًا للقضايا العامة التي يفرضها الواقع البنيوي للمدينة. ما بوسعنا أن نفعل لهذا المسخ البديع؟ نقسمه بالكامل لوحدات منفصلة، تجمع بين أماكن العمل والإقامة؟ نجدده ونبقي عليه قائمًا؟ أو بعد إخلائه، نفجره بالديناميت ونشيد مدنًا جديدة في أماكن أخرى وفق مخططات حديثة؟ كيف يجب أن تكون هذه المخططات؟ ومن المنوط باتخاذ القرار وتنفيذه أيًا كان ما تم اختياره؟ هذه قضايا هيكلية؛ لمواجهتها وحلها لابد أن نتطرق لمسائل اقتصادية وسياسية من شأنها التأثير على أوساط اجتماعية لا تحصى. بقدر اتزان الاقتصاد عند حدوث تلك الأزمات، تصير مشكلة البطالة عجز في الحل الفردي. بقدر تلازم الحرب مع النظام القومي للدول، وتباين صناعية العالم، فإن الفرد العادي لن تكون لديه قدرة في مجاله الخاص – بدعمٍ نفسي أو بدون – على حل مشكلات التي يفرضها عليه هذا النظام أو الفوضى أيضًا. وبقدر ما تمثل العائلة منظومة تحوِل النساء إلى جوارٍ مُحببة ضعيفة والرجال إلى مشرفين متعهدين بهن واعتماديين مدللين، ستظل قضية الزواج العادل عاجزة عن الحل الخاص المجرد. وبقدر ما تشكل المدن الكبرى والسيارات المتطورة سمات أصيلة في المجتمع المتقدم، إلا أن قضايا الحياة المدنية لن تسوَى بمهارة شخصية أو ثروة خاصة.

ما نمر به في أوساط اجتماعية مختلفة ومحددة، كما أوضحت أعلاه، يكون غالبًا بسبب تغيرات هيكلية. وبناءً عليه، فإن فهم التغيرات في أوساط شخصية عديدة، يستلزم أن ندرس ما وراءها. ويتزايد عدد وتنوع تغيرات هيكلية كهذه كلما صارت المنظومات التي نحيا من خلالها محكمة ومتداخلة مع بعضها البعض. إن إدراك فكرة البنية المجتمعية والانتفاع بها بمعقولية هو القدرة على تقفي أثر صلات كهذه بين أوساط اجتماعية شديدة التنوع كهذه. القدرة على القيام بذلك هي التحلي بالخيال السوسيولوجي.

.

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s