التاريخ الشفوي والتاريخ الرسمي… أيهما يخبرنا بالحقيقة؟

نقلًا عن موقع “سكة المعارف

متابعة ـ هيثم خيري

ما العلاقة بين الحكاية والواقع؟ هل تتشكل الحكاية وفقا للواقع؟ أم هل يتشكل الواقع وفقا للحكاية؟ هل توجد أهمية خاصة للتاريخ الشفوي في أوقات التغيير؟ وإذا افترضنا أننا جميعًا نسعى إلى اكتشاف “الحقيقة”: ما السبيل لكتابة تاريخ “موضوعي”؟ هل الموضوعية ممكنة؟

هذه محطة جديدة من مناقشات “سكة المعارف”، والأسئلة التي وردت في بداية المقال كانت “تنشيطية” للمشاركين في سيمنار حول “التاريخ الشفوي كمنهجية لقراءة التاريخ”، الذي قادت النقاش فيه الدكتورة هدى الصدة، وهي أستاذة في دراسات العالم العربي المعاصر في جامعة مانشيستر، وكاتبة معنية بالحركة النسوية. وللحق فالأسئلة التنشيطية قبل اللقاء تبعها أسئلة يصعب حصرها خلال اللقاء وبعده، وردت على أذهان المشاركين وكاتب السطور وصاحبة السيمنار نفسها.

تستند المناقشة على قراءة مسبقة لثلاثة نصوص، هي فصل من كتاب “كيف نقرأ العالم العربي اليوم؟ رؤية بديلة في العلوم الاجتماعية“، لميشيل رولف تريو، ومقال بعنوان “تشكيل تصورات عن الذات: قراءة أدبية في سيرة كوكب حفني ناصف” لهدى الصدة، ودراسة تحت عنوان “مدخل إلى البحث النسوي ممارسة وتطبيقا“، لشارلين ناجي هيسي، وبايبر بتريشا لينا ليفي.

يبدو ملفتا في تتبع التاريخ.. إن ما هو مكتوب أو مدون يحظى باهتمام أكبر مما هو شفاهي

تبدأ الدكتورة هدى الصدة حديثها من مرحلتي الخمسينيات والسيتينات، حيث بدأ التاريخ الشفوي يأخذ منحى واهتماما أكاديميا، وقد كان من قبل “يكتب التاريخ الشفوي طول الوقت وإنما في صورة غير أكاديمية”.

تتابع هدى الصدة “السيمنار”، والكلام في الفقرات التالية سيكون من نصيبها وحدها: ارتبط التاريخ الشفوي ارتباطا وثيقا بحركات التحرر الاجتماعي في الستينيات، ليه؟ تعالوا نتخيل مع بعض.. لما بلدان كتير حاولت تكتب تاريخها، بعد التحرير والاستقلال، أصبح هناك اهتمام بالتاريخ الشفوي.

وفي السياق ده، أحب أقول حاجة: إن معظم باحثي التاريخ فاهمين كويس إن كتابة التاريخ دايما بتيجي من وجهة نظر معينة بناء على أيديولوجيا أو فكرة أو نمط تفكير محدد، وبناء على محددات كتير جدا من بينها درجة قرب المؤرخ من السلطة مثلا.

في الخمسينات والستينيات قابل التاريخ الشفوي وكتّابه صعوبات كثيرة، أهمها إن فيه مدرسة قوية لكتابة التاريخ كانت شايفة إن التاريخ لازم يكتب بالفصحى، ومن خلال مصادر تاريخية وبصورة معينة، وليس استنادا على مقابلات مع شخصيات عادية، وبالتالي لازم يبقى هذا التاريخ “رسمي”.

ثنائية الشفوي والمدون

يبدو ملفتا في تتبع التاريخ، إن اللي مكتوب أو مدون يحظى باهتمام أكبر مما هو شفهي، وبالتالي يتم تهميش الشفوي على حساب المدون أو المكتوب، وهو موجود أكتر في الثقافة الغربية منه في العربية، حيث العرب لا يزال لديهم تاريخ شفهي.

نيجي لمحدد آخر في كتابة التاريخ وهو “الذاكرة” وعملية خلق المعاني.. الذاكرة انتقائية والناس بتنسي، وكان فيه فكرة عن إن الذاكرة عبارة عن مخزن وفيها معلومات والناس بتنقيها بطريقة غير محسوبة، لكن ظهرت دراسات متطورة وأصبحت الذاكرة عبارة عن تلقي معلومات وما نتحدث عنه يختلف، فتصبح ذاكرة انتقائية بالطبع لكنها تصنع المعاني.

أما فكرة أن ما يكتب هو الحقيقة وغير ذلك غير حقيقي.. فهذه الفكرة أصبحت غير ذات جدوى.

النسوية والتاريخ

المصادر الرسمية طول الوقت، أو كثيرا، كانت بتغفل دور النساء، وعشان نستعيد دور النساء أو على الأقل نحاول استجلاءه، بذل باحثين وباحثات جهد كبير جدا.. مثلا زميلتي الدكتورة أميمة أبو بكر لما اهتمت بالنساء في التاريخ العربي الإسلامي، رجعت لأمهات الكتب، ولقت أسماء نسوة مكتوبة في سطر واحد باعتبارها فقيهة مثلا أو طبيبة، وبحثت عن الشخصيات دي في كتب أخرى وبدأت تضاهيها ببعضها، وتشوف دورهن لحد ما كونت فكرة عنهن، واستطاعت الوصول لطبيبات ومدرسات وغيرهن كان لهن دور بارز وقتها.

ليه بقول الكلام ده دلوقتي؟ لأن التاريخ الشفوي وكتابته مرتبط بالفئات اللي تم تهميشها على مدى فترات طويلة من التاريخ، مثل الفلاحين والعمال والسيدات والمقهورين.

المؤرخات النسويات لهن إضافة مهمة في كتابة التاريخ الشفهي.. في بحثهن الدائم سألن: أين النساء في التاريخ؟ لماذا تم تهميشهن؟

المؤرخات النسويات لهن إضافة مهمة في كتابة التاريخ الشفهي، في بحثهن الدائم سألوا: أين النساء في التاريخ؟ لماذا تم تهميش النساء في التاريخ؟ أين المعرفة الداعمة للنساء في التاريخ الثقافي العربي؟ هل ساهمت النساء في صنع الحضارة والتاريخ؟ هذه الأسئلة استتبعها بالضرورة أسئلة أخرى مرتبطة بالبحث والتنقيب في التاريخ الشفهي.

42864298_10156739103189282_6015240601585319936_o

د. هدى الصدة

وفيه بعض الأمور المتعلقة بالمنهج النسوي باعتباره مهم جدا للتاريخ الشفهي:

فيه أسئلة طرحت نفسها على المهتمين بالنسويات وهو: “ما هي النسوية”؟ أجابت إليزابيث آندرسون، أستاذة الفلسفة، إنها نظرية معرفية، بمعنى أنها تسأل الأسئلة الأساسية: من يستطيع قراءة العالم؟ ما هي الأشياء الجديرة بأن تعرف؟ ما هي المعرفة أصلا؟.. باختصار هو موقف من الحياة يعطينا آلية للنظر بطريقة مختلفة.

النسويات قالوا إن من يعرف هو ذكوري، وبالتالي يحدد الذكوري ما هو جدير بأن يعرف، فيتجاهل أشياء ويسلط الضوء على أشياء أخرى.

مثلا عادة ما يغفل تاريخ “الأكل”، لكن النظرية المعرفية التي تأخذ في الاعتبار هذه العين الأخرى هاتقول “لأ”، المجال الخاص مهم بالتوازي مع المجال العام.

الكتابة النسوية تعتبر مثلا أن ما هو شخصي فهو سياسي بالضرورة، وفي الواقع المؤرخات النسويات نظرن للتاريخ بعين مختلفة، واستطعن توسيع بؤرة النظر ويأخذوا في اعتبارهن أشياء أخرى كان يتم إغفالها، عن ماذا يزرعون وماذا يأكلون وغير ذلك.

النسويات يسألن أنفسهن: من يملك السلطة؟ من يملك الحكاية السائدة؟ ولماذا يتم تهميش ما دونها؟ لذا فالنظرية النسوية لا تهتم بدراسة المرأة فقط، ولكن تركز مثلا على الطبقة الاجتماعية، وهي ليست محصورة على النساء فقط، وإنما هناك “تقاطعية” الموقع التاريخي والجغرافي، والبعد الاجتماعي وغير ذلك.. وكل هذه أمور مرتبطة بصناعة الرواية التاريخية بالطبع.

من الأمور التي نتحدث فيها دوما عن التاريخ الشفوي، هي “سياسات التمثيل”؛ لأن التاريخ الشفوي بينتج مصدر تاريخي، وفيه حد بيحكي حكايته ثم ينقلها عنه باحث بطريقة ما، هذا الشخص لم يكتب حكايته لوحده في سيرة ذاتية، وإنما حكاها لباحث أو غير ذلك وكل ما فعله البحث أنه أتاحها..

من هنا، تحتل سياسات اللغة أهمية كبيرة في بناء السردية، مثلا في العلاقة بين العامية والفصحي في اللغة العربية، هناك فجوة بين هذا وذاك.. تخيلوا جدلا أني قابلت 3 أشخاص حكوا باللغة العامية عن لحظة تاريخية معينة، هل أبقي على الرواية كما هي بالضبط، أما أحولها للغة عربية فصحى، أو أعمل حاجة في الوسط بين هذا وذاك.

مرة حصلت حاجة معايا، اشتغلت على بناء أرشيف شفوي وكانت السياسة التحريرية للأرشيف أننا لا نتدخل في العامية، مع شوية مراجعة بسيطة. وبعد ما بنخلص تفريغ المقابلة بنبعته للراويات، واحدة منهن زعلت جدا، وقالت أنا كده شكلي مبعرفش أتكلم عربي.

صوت المهمشين

هل نسمع صوت المهمشين؟ تنتقل الدكتورة هدى الصدة إلى سؤال آخر، وتجيب: السؤال بسيط لكنه صعب، هل نسمع بناء على ما نعرفه عنهم وفيه افتراضات كبيرة عن بعض الأشياء.

الالتباس القائم بين التجربة والحقيقة: فيه خطر بين الموازاة بين التجربة والحقيقة، التجربة أحيانا كثيرة بتبقى رؤية خاصة جدا من الحياة لما حدث، فيه خطورة على أن التجربة الواحدة بحد ذاتها هي التجربة الحقيقية بالكامل، وتعكس الحقيقة كاملة.

معظم باحثي التاريخ “فاهمين كويس” إن كتابة التاريخ تأتي من وجهة نظر معينة بناء على أيديولوجيا أو فكرة أو نمط تفكير ودرجة قرب المؤرخ من السلطة

التاريخ الشفوي فيه تفاعل إنساني، لازم يبقى فيه احترام للبني آدمين وإنهم مجرد مصادر وورق، والباحث ياخد الكلام ويجري بيه، ده سؤال مهم للمؤرخين الشفويين الآن.

كما إن الرواية الشفوية لها جوانب أخرى، مثل اللغة غير اللفظية، وهي الإشارات والضحك والتفاعل بالعين، وكل هذه الأمور تتداخل في خلق المعنى، ومن خلال تحليل اللغة غير اللفظية يمكن أن نفهم أشياء كثيرة.

سطوة التاريخ الرسمي

انتهت مداخلة الدكتورة هدى الصدة الأساسية، وبدأت الأسئلة..

أحد المشاركين توجه بسؤال: هل استطاع التاريخ الشفهي أن يكسر سطوة التاريخ الرسمي؟

تجيب الصدة: بالطبع فيه كتابات شفهية كتير غيرت سرديات عديدة عن وقائع تاريخية محددة، ومع هذا لو سألنا في استفتاء سريع لتفسير فكرة الموضوعية في كتابة التاريخ، الناس هاتجاوب بإنه لأ طبعا، وفي نفس الوقت لدى البشر نزعة بإن يبقى فيه حقيقة واحدة وثابتة حول الوقائع التاريخية.. إن يبقى فيه حقيقة واحدة ويبقى “هو ده اللي حصل”، وده مش حقيقي في حد ذاته.

لو عاوزين نبقى موضوعيين لازم منضحكش على الناس، ونشارك الناس اهتماماتنا وأيدلوجياتنا.. مشاركة القارئ الموقع والانحيازات والأيديولوجيا ربما يكون محاولة جادة للوصول إلى الموضوعية.

يبادر أحد المشاركين بسؤال عن كتابة التاريخ الشفوي أوقات الصراعات مثل الحروب والثورات، وهل يصبح التاريخ الشفوي بديلا آمنا عن التاريخ الرسمي؟

تقول هدى الصدة إن هناك مجالات للبحث الآن تسمى دراسات الصدمة، بتتكلم في الموضوع ده، والحكاية دايما بتبقى في بؤرة الصراع، للأسف غالبا يكتب التاريخ هو من يغلب، وفقا للمقولة الشهيرة جدا “التاريخ يكتبه المنتصرون”، إنما التاريخ الشفوي بيبقى الحكايات بتاعت الناس، بيبقى فيه روايات كتير متصارعة، والحقيقة دي ميزة عظيمة ومساحة أخرى يوفرها التاريخ الشفوي، ولذا يجب الاهتمام به في فترات التغيير.

يثير أحد المشاركين قضية أخرى فيقول: الفترات التاريخية الكبرى اللي الأحداث فيها تبدو بمشهدية واضحة كبيرة، مثل انتفاضة يناير 77 وغيرها.. مشاهد ميدان التحرير في ثورة 25 يناير مثلا، دي فترات يسهل الكتابة عنها.. في أوقات اللاحدث وده مهم جدا وغالبا بيحصل فيه الفعل اليومي للتعامل مع اللحظات الضخمة الكبيرة، كيف يكتب؟

ترد هدى الصدة: التاريخ الاجتماعي بشكل ما يركز على اللاحدث في حقيقة الأمر، التاريخ الشفوي بيهتم بقصة الحياة (لايف ستوري)، مش شرط توجههم لمرحلة معينة، لأن هذه المراحل بتبقى مقدمات أو نتائج لمراحل أخرى كان فيها أحداث كبيرة.

يسأل أحد المشاركين عن الاختلاف بين الشفهي والرسمي، وهل نأخذ الرواية الشفوية ونعطيها مصداقية أكثر؟

ترد هدى الصدة: إحنا في مكان تاني خالص، عندما كان يتم التشكيك في الرواية الشفوية أصلا، دلوقتي بسبب التكنولوجيا والاهتمام بالمصادر المسموعة والمرئية أعطانا دفعة غير عادية للحكي، وهنلاقي دايما فيه ناس المؤرخين التقليديين المحافظين، دايما فيه جهة ما محافظة بتحاول التمسك بعمل معايير صارمة وجامدة، هايفضلوا موجودين في الدنيا طول الوقت.. ولو تغاضينا عن هؤلاء هايبقى في رؤية مختلفة.

إحدى المشاركات تحدثت عن العلاقة بين التاريخ والأدب، وهل يصلح الأدب ليكون مصدر تاريخي موثوق فيه؟

تقول هدى الصدة: نجيب محفوظ مؤرخ مهم جدا لثورة 1919 مثلا. الرواية التاريخية أو الرواية الاجتماعية تؤرخ بشكل دقيق جدا لفترة معينة في التاريخ.

تشارك الدكتورة أمينة البنداري، أستاذ مساعد بقسم الحضارات العربية والإسلامية بالجامعة الأمريكية، بمداخلة فتقول: بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، خرج الشعب الألماني بعقد كتير جدا، وسألوا نفسهم: إزاي ده حصل؟ وكيف أننا مجتمع مفترض أن لديه وعي سمح بهذه الحرب بل وشارك فيها؟ في هذه اللحظة ظهرت “سكة” للتاريخ الاجتماعي، وبدا إنه مسلك آخر مهم جدا لمتابعة ما حدث عن قرب، وبزاوية مختلفة.

فيه حاجات بنعملها بصفة اعتيادية بتقول شيء عنا كمجتمع.. كتير من الناس بتتخيل التاريخ الشفوي كمصدر عشان يقول لنا عن حاجات كتيرة ليس لدينا مصادر عنها.

هل الحكي على الإنترنت يصلح مصدر للدراسة؟ السؤال توجهت به إحدى المشاركات وأجابت الصدة: أكيد ينفع مصدر للدراسة، فيه ناس بتكتب تاريخها بناء على “بوستات” على فيس بوك، إيه الفرق الكبير بين حد كتب مشاهدته أو نشره في جورنال أو غير ذلك؟ بالتالي مفيش أي مانع من ده، بل إنه أحيانا كتير أصبحت “بوستات” الفيس بوك مصدر لا بأس به أبدا في كتابة التاريخ.

.