خليك في البيت.. معاركنا الجندرية والطبقية التي لا تنتهي

إيمان النمر*

صار بقاؤنا في البيت شرطًا ضامنًا لبقاءنا على قيد الحياة، إنه نوع من الصراع السلبي الذي لا يتطلب أن نخوض معركة في عالمنا الخارجي، أليس في هذا مفارقة؟! فلم نعد مثل جدنا البدائي الذي يصارع في البرية ويبتكر صناعة الحجر والسهم، تساعده عضلات وعظام قوية، ثم يعود غانمًا إلى كهفه، كذا لم يلزمنا صراعنا اليوم من أجل البقاء أن نحمل بندقية أو نزحف بدبابة ولا أن نخترق مجالاً جويًا كان أو بحريًا، كل ما في الأمر التزامنا بالسكون داخل حيزاتنا الخاصة والصغيرة جدًا المسماة بالبيوت، وفي نعت آخر”واحة الأمان”.

  بيوت رأسمالية حرة وسلطة أبوية
 يعود بنا هذا النعت إلى مدن أوروبا خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، إذ أبخرة المصانع تعلو ومئات الشركات وبيوت المال وآلاف من الرجال – رأسماليين كانوا أو عمال – يشغلون الشوارع والمعامل والمكاتب ومحطات النقل وساحات المحاكم في دأب وكدّ، تدفعهم مباديء الحرية والعمل والتقدم، ولأغراض تنظيم هذا المجتمع الحديث – اقتصاديًا واجتماعيًا – تمَّ تقسيم العمل والتخصيص، كما اعتمد مبدأ الفضاءات المنفصلة حسب النوع الاجتماعي؛ فالنساء للبيت والرجال للعمل خارجه، حيث ذكاء المخاطرة والقسوة والضجيج وعوادم الدخان وساعات عمل طويلة كادحة مما لا تتحمله النساء باعتبارهن أجساد هشة وقليلات خبرة.

في تلك الظروف غدا البيت ملاذًا ومكافأة وجنة أنثوية على الأرض تضع شروطها ونموذجها المثالي الطبقةُ العليا، ومن بعدها الطبقة الوسطى في توسعها، وفي مرحلة ما بعد أن تراكمت الثروات وأصبح التاجر والصناعي متحررًا من فكرة الزهد لأجل الادخار متحولاً إلى متعة الإنفاق، صارت أناقة البيت وزينته ومساحته ومستوى ثقافة وتعليم الزوجة وعدد خدمه، كذا قدرة الزوجة السيطرة على هؤلاء الخدم، قيد المكانة الاجتماعية والتصورات التي تفرضها الطبقة المهيمنة المنتمي لها السيد رب البيت، ذلك قبل أن تتمدد الديمقراطية والثورات ونزعات الفردانية والاستهلاك والحركات الاجتماعية مثل النسوية لتحرر المزيد من المجتمع وتفتت تلك السلطة الهرمية.

  في عالمنا العربي وحتى النصف الأول من القرن العشرين، لم تتنازل النخب الحديثة رغم أوربتها وليبراليتها عن البيت الآمن والجنة الأنثوية، وكثيرًا ما توجه الخطاب العام حتى من تلك النسويات إلى النساء بوصفهن ملكات لبيوتهن، يتوقف عليهن توفير سبل الراحة وهدوء الحياة ونجاح الرجل والأولاد ومن ثمّ رفاهية وصلاح الأمة، كما من صميم مسؤوليتهن حتى لو كنّ من العاملات، أن يعتنين جيداً بأنفسهن وبأطفالهن، كي يسعدن رجالهن الكادحين ويعوضهن عن العمل الشاق، حد أن خصصت وسائط الثقافة الجماهيرية مساحات واسعة للمساهمة في تحسين هذا الدور الاجتماعي المنوطات به، لإنقاذ البيت الآمن.

عند هذا الحد نتساءل عن مدى جدية الحدود الفاصلة بين الخاص والعام، وعن مدى براءة هذا الدفاع المستميت عن البيت باعتباره العمود السليم والمكان الخاص ووجهة اللجوء حين يشتد بنا الخطر من نزعة الاستبداد والتسلط والقهر التي يصنعها ويحيلها المجتمع بتناقضات نظمه الاجتماعية والاقتصادية إلى من هو أدنى وأضعف، إذ يصير البيت هو المختبر الصغير لما يحدث في عالمه المحيط ويتشكل بمحدداته وتحولاته، بل وعلى نحو متناقض وحين المواجهة يكشف عن حمولاته الرمزية المتراكمة؛ حيث يتحول طابعه الأنثوي من جنة إلى وصمة وعلامة تخلف، لا يعود دالاً عن الراحة قدر دلالات الخضوع والعجز والهشاشة.

إذن؛ ليس مستغربًا أن يُشكل البيت مركزية صراع بين القوى الرجعية في الثمانينيات من جهة، والنسويات وجماعة التقدميين من جهة آخرى؛ يرفع الرجعيون على نحو أيدولوجي عدائي شعار “عودوا إلى البيت” في محاولة لإقصاء النساء من المجال العام، وإعادة إنتاج سلاسل التبعية الأبوية، كي ترد النسويات مثل أمينة شفيق بكتاب ” المرأة لن تعود إلى البيت”.

ولا عجب أن تغدو مقولة “من الأفضل أن تعودي إلى البيت” جزء من الثقافة العامة، تواجهها النساء حين يخفقن في تأدية عملهن المكلفات به، ثم قد يتقلص مساحة الوجود الأنثوي مختزلاً في المطبخ، والأسوأ حين تتحول البيوت إلى سجن حارس للشرف، حتى لو كانت النساء على مشارف الموت، على سبيل المثال؛ نتابع اليوم في العراق الأخبار التي تردنا عن تفشي فيروس كورونا المستجد، ومنع بعض العائلات لدواع الشرف نساءها -سيما غير المتزوجات- من تلقي العلاج والرعاية الذي يلزم الذهاب إلى الحجر الصحي!

بيوت قبور… عالم خارجي براق

باعتبار العودة الأيدولوجية المعلنة بعودة النساء إلى البيت تخلفًا، يوازيها العودة الأيدولوجية إلى البيت الفقير باعتبار الفقر دافعًا للعمل والكسب والاعتراف المجتمعي، هنا نتحدث عن بيوت المهاجرين والمغتربين وفقراء المدن في ضواحيها القديمة وأطرافها، حين يصير البيت آلية خضوع كلية للسلطة تعبر عنها وتمتثل لشروطها.

     يمكن الحديث عن ملايين البشر عبر العالم الذين تركوا قراهم وربما بيوتهم العائلية الواسعة بالريف متجهين نحو المدن يغريهم البحث عن الاستقلالية  وسحر الفردانية وفرص العمل المحدودة والأجر الذي يأملون أن يحقق تطلعاتهم أو يسد جوعهم ممن تقطعت بهم سبل الرزق التقليدية. وغيرهم ممن تكدست بهم المدن حتى دفعت بهم إلى أطرافها في أحزمة عشوائية ومساكن صفيح شُبهت بعلب الكبريت تعبيرًا عن ضيق مساحاتها المؤذية التي تنتفي لأدنى شروط الحياة العادلة أو حتى ضرورات البقاء.

  للمرء أن يتخيل بيوت الطين التي تشبه قصور الرمل تنتظر سيلاً أو موجة شديدة من الأمطار كي تهدمها فوق ساكنيها بكل بساطة وألم، أو تلك البيوت الأرضية الضيقة التي لا تتعدى كونها قبوًا تتكدس فيه كل الأشياء مهلهلة وغثة فوق بعضها، يلتصق البوتاجاز بالسرير، وكما تتكدس الأشياء يتكدس البشر باعتبارهم كوم من اللحم أو الآلات الحديدية، هنا يجوز نسيان القوانين والأعراف إذا لم يكن انعدامها، فلا يسأل أحد عن المحارم ويصرخ بالحريات، ولا يفكر كيف يتمكن الناس من أخذ مساحة اجتماعية تقيهم من عدوى المرض، ولا كيف يمكن لجهازهم التنفسي أن ينجو من اختناق الصيف والرطوبة عدا زخم الروائح الكريهة المنبعثة جراء التكدس وانعدام سبل التهوية وغيره من أدني شروط السكن المعيشي الصحي.

وتلك المساكن من نوعية عنابر العمال المغتربين في العواصم ودول النفط الغنية، وغيرها من مساكن أخرى مكتظة بعديد من العائلات المهاجرة على أمل إدخار ولو مبالغ قليلة يعودون بها إلى بلادهم، تذكرنا بقوانين الفقراء في بريطانيا الصناعية القرن التاسع عشر، حيث كانت مساكن الأبرشيات عبارة عن عنابر موت بالبطيء، يتكدس فيها البشر لأجل أن يختاروا مضطرين بين الموت والعمل بأجور منخفضة وشروط مجحفة إذا ما أرادوا الحياة بحد أدنى من الكرامة، أو الاستجابة لفرص الترقى الاجتماعي.

هؤلاء الأشخاص الذين نخاطبهم ونرجوهم بالمكوث في البيت التزامًا بإجراءات الحجر لا نعرف ولم نتخيل عنهم شيئًا سوى أنهم على أقل تقدير جهلاء وغير مسؤولين إذا ما خالفوا التعليمات، هؤلاء الناس الذي يمثل العالم الخارجي بالنسبة إليهم بمثابة هدنة مؤقتة، وانفراجة من وطأة المكان الضيق، أما فكرة البيت المريح الأنيق أو حتى الآمن ربما يعدونها على غرار الأنثربولوجيين من الغرائبيات أو حلم بعيد.

بيوت ضيقة… علاقات هشة
وفي أي لحظة اضطرارية متأزمة كالتي نعيشها اليوم، يمكن لتلك العوالم الهشة أن تنهار، بل على قدر هشاشتها المادية تكون عوالمها النفسية وعلاقاتها الاجتماعية، في هذا العالم القاتم والخفي خلف جدران خارجية صلدة لمدن تبدو أنها في منتهى الحداثة من شدة بريقها، ربما تكشف العزلة الإجبارية لأصحابها المنهكين سؤال الاستحقاق والعجز؛ استحقاقهم لعالم أفضل وعجزهم عن تحقيقه، لكن ما لا يمكن إغفاله أنها تزيد من فرص سحقهم.

يطبع ضيق المكان سماته على طباع ساكنيه، وللمرء أن يتخيل أيضًا، شكل العلاقات الاجتماعية في تلك المساحات الضيقة حتى بين صفوف الطبقة المتوسطة التي يبدو أنها في شروط معيشية أفضل، لنتخيل انعكاس الظروف الاقتصادية الضاغطة التي تدفع بالعديد أن يمتهن أكثر من عمل أو يعمل لمدد زمنية تصل إلى 18 ساعة بأجور هزيلة، ثم يأتي ذلك الحظر الجزئي أو الكلي الذي ألزم ملايين من الناس تخليهم المؤقت عن أعمالهم الليلية.

 هذا الزمن المقتطع من العمل، ناهيك عن أنه بلا تعويض مادي مناسب، صار مساحة وفرصة للتنفيس عن العنف والغضب بين أفراد الأسرة الواحدة، ولقاء إن لم يكن مواجهة إجبارية بمن هم في البيت وكان يمكن تفاديهم تحججًا بالعمل؛ هذا البيت -الذي فجأة في مثل تلك الأزمات- يطفح بمشاكله المتراكمة، عن كثير من الأسر التي كانت تؤجل مواجهاتها وتحيل اضطراب علاقاتها الداخلية إلى ضرورات الحياة وتربية الأولاد وثقافة الخضوع لأجل أن تسير المركب بسلام.

 لا ينفي هذا السرد عن بيوتنا الأمان، واستمرارها بوصفها ملجأنا حين الخطر، إلا أنها ليست بالضرورة  جنة أنثوية ولا فردوسًا مفقودًا من زمن جميل، بل على العكس أحيان كثيرة تمثل للبعض سجنًا اضطراريًا ومواجهة مؤجلة؛ مواجهة منزاحة من عالمنا الخارجي الذي تشكله أنظمتنا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بحسب مقتضاياتها وأولوياتها وأحيان أخرى عجزها.

* د. إيمان النمر، كاتبة وباحثة بمجال التاريخ الحديث والمعاصر.

فكرة واحدة على ”خليك في البيت.. معاركنا الجندرية والطبقية التي لا تنتهي

.