حضرها وأعدها – يوسف رامز
دي المحاضرة التانية في سلسلة محاضرات ديفيد هارفي، جزء من سيمنار “ضد الرأسمالية أفكار وأفعال” المحاضرات دي مفتوحة للجمهور وفي نفس الوقت بتتقدم ضمن سيمنار (كورس Credited course) لطلبة الدكتوراه في قسم الأنثروبولوجي، كل يوم أربع في مركز الدراسات العليا بجامعة مدينة نيويورك GC-CUNY. “الهضم” ده للمحاضرات بيتقدم على قراءات بموافقة هارفي وجيف منسقي السيمنار وبالتالي قراءات ممكن تفتح حوار بين قراءها وبين هارفي وجيف لو حد مهتم يسأل على حاجه محددة.
في المحاضرة التانية دي هارفي هيتكلم عن مفهوم “القيمة” وعن أفكار لثورة في مبادئ “القيمة”، وهيدعونا لتغيير وتحدي قانونها اللي هو أساس وجوهر النظام الرأسمالي، وعن الأزمات الاقتصادية اللي حصلت وهتحصل بسبب “كسر حاجز القيمة” وإزاي ممكن “كسر حاجز القيمة” يسبب انهيار النظام الرأسمالي كله.
وقبل الكلام عن المحاضرة حابب إننا نتفرج ع الخمس دقايق دول من فيلم سمسرة من انتاج 2012، الدقايق دي بتحكي باختصار عن النظام الرأسمالي الحالي إزاي بيعمل “القيمة” في هلع إنتاج الأكل.
بدأ المحاضرة دكتور جيف ماسكوفيسكي بالكلام عن البلوج المغلق حاليا على طلبة السيمنار واللي هيتفتح في وقت ما للجمهور العام عشان يشارك في المناقشات.
هارفي بدأ كلامه بأنه يقول:
أنا ابتديت مشوار الأكاديميا بإني اهتم بدراسة دعوة ماركس لـ “نظرية للقيمة” في القرن الـ 19، وعلى مدى السنين تأكدت إن المقولة دي – دعوة ماركس لنظرية للقيمة – غلط شنيع. لأن ماركس معملش كده في أي من كتاباته. والحقيقة إنه قال بوضوح إن هدفه إنه يكتب نقد للاقتصاد السياسي مش إنه يعمل نظرية للقيمة، وإنه لو كتب عن “نظرية للقيمة” فهو هدفه ينقدها مش يدعو ليها أو يروجها.
ماركس نقده بيقول: أنا هتكلم عن نظرتي لمفهوم القيمة مش عن نظرية قيمة العمل. وعشان نشوف ده أكتر تعالوا نرجع للكتاب الأول من رأس المال – وهتلاقوني كاتب عن الحكاية دي ع الموقع بتاعي . ماركس بيبدأ كتاب رأس المال بأنه يقرا الظروف والأحداث والتطورات المادية التاريخية اللي بتحدد ظروف عملية تبادل السلع، والوحدة الظاهرية بين القيمة الاستعمالية للسلع والقيمة التبادلية ليها وهنا ماركس بيسأل عن القيمة بصفتها “علاقة غير مادية”، وبيأكد على ده أكتر من مرة إننا ما نقدرش نشوف القيمة في السلعة نفسها. القيمة مش حقيقة مادية، القيمة علاقة غير مادية متجسدة في السلع، هي انعكاس للعمل الاجتماعي اللي بتحتاجه السلعة، أو انعكاس لوقت العمل الضروري اجتماعيا لإنتاج السلعة. ودي أحد أهم إضافات ماركس.. أن القيمة هي: “وقت العمل الضروري اجتماعيا لإنتاج سلعة”.
فكرة إن القيمة هي وقت العمل اللازم لإنتاج سلعة دي فكرة ريكاردو. إضافة “الضروري اجتماعياً” لنظرية القيمة هو ده ماركس. اللي حاصل إن القيمة هي “اعتياد تنظيمي” بيتواجد في السوق، وعشان الاعتياد التنظيمي ده يحصل فعلاً ويبقى اعتياد (أو عادي)، لازم مجموعة ظروف تكون موجودة، منها مبدئيا إن مفهوم “تبادل السلع” يكون موجود في السوق واعتيادي (حاجة عادية اجتماعياً). الوصول لحالة “تبادل السلع العادي” دي محتاجة قبلها عشان تحصل إن يكون مفهوم الملكية الفردية موجود وسائد وعادي.[1]
النوع ده من السوق ما ينفعش يحصل غير لو فيه حاجه اسمها فلوس (زي ما بيشرحلنا الفصل التالت من الكتاب الأول من رأس المال). الفلوس هنا تعبير مادي عن القيمة (اللي هي قولنا إنها علاقة اجتماعية رمزية غير مادية). الفلوس هي اللي بتنسق عملية التبادل، من خلال تخزين القيمة في نفسها (في الفلوس). يعني نقول إن الفلوس مش قيمة لكن تعبير مادي عن عدم مادية العلاقة الاجتماعية اللي اسمها القيمة.
السعر والقيمة حاجات مختلفة عن بعض. ماركس بيورينا في الفصول 4 و 5 و 6 أن فقط في النظم الاجتماعية اللي هدفها الأساسي إنتاج السلع، التبادل يتوجد كضرورة ويتوجد كشيء “عادي”. وهنا فقط يبدأ تبادل رأس المال (في صورة الفلوس).
حاجه تانية مهم نتكلم عنها في مسألة “القيمة” وضرورة رسوخ مفهوم “تبادل السلع العادي” في المجتمع كأساس لنشوء القيمة التبادلية للسلع، وبالتالي الفلوس وحصول فائض القيمة والنظام الرأسمالي كله. مهم نتكلم عن أن قواعد التبادل وقواعد دوران رأس المال متناقضين. التبادل المفروض بيتبني على المساواة، بينما قواعد رأس المال بتقوم على غياب المساواة – لأن لازم حد يحقق المكسب. المسألة التالتة إن عشان يحصل تبادل لرأس المال لازم “العمل”[2] يكون هو نفسه اتحول لسلعة قبل ما النظام الرأسمالي يحصل (أن العمل لازم يتفهم كسلعة ده شرط مسبق لحصول النظام الرأسمالي)، وده موضوع الفصل الثامن من الكتاب الأول اللي بيتكلم عن “التراكم – أو المكسب البدائي”. القيمة لا تتواجد في المطلق لكن داخليا بتتولد في عملية تبادل السلع وده بيحصل فقط لما نبقى في مجتمع فيه الإنتاج والتبادل هو “العادي”.
وهنا ماركس بيقدم مفهوم رأس المال كقيمة في حركة، زي حركة الدم وتبادلها داخل جسم الانسان، القيمة مش ممكن تتفهم خارج عملية التبادل، البيوت ليها قيمة فقط لما تدخل حركة تبادل رأسمال (تبادل رأس المال الفرق بينه وبين حركة الدم هو التضخم.. الدم مش هيزيد للأبد).
“القيمة” ملهاش وجود خارج نظام تبادل اقتصادي رأسمالي عنده فكرة تراكم المكسب.
ماركس أكد أن فيه حاجات ليها سعر لكن ملهاش قيمة، ماركس ما بيحاولش يستخدم نظرية القيمة عشان يفهم بيها أي حاجة عن الأسعار إزاي الأسعار بتحدد، في الحقيقة هو عنده أهداف تانية. ماركس كان شايف إن دوره الحقيقي هو إنه يشرح – في نهاية الفصل السادس – مش بس إزاي نشوف عملية انتاج رأس المال لكن أساساً نشوف إزاي الرأسمالية نفسها بيتم إنتاجها (ودي العملية اللي بيكلمنا عنها من الفصل السابع لغاية الـ 25 في الكتاب الأول).
طيب يحصل إيه لما “العمل” يتفهم كـ “قيمة”، كـ “سلعة ليها قيمة تبادلية”. قواعد السوق بتفرض نفسها على الرأسمالي نفسه لأنه مهما عمل فلوس مش هيقعد جنبها ويرتاح. لازم ينتج أكتر ويستمر في الحركة دايماً. لازم يخضع لحالة المنافسة الشرسة الدايمة. حالة المنافسة دي هي نفسها اللي بتأثر على العامل. تعالوا نفكر في يوم العمل، وإزاي الهدف في الربح بيخلي يوم العمل اطول وأطول لدرجة في كتير م الأوقات بتهدد حياة العامل نفسها. نفس قوانين المنافسة دي هي اللي بتزق رأس المال إنه يدفع التكنولوجيا والمبادرات، ينتج المكن ونظم الإنتاج الصناعي، يحرك قوى التعليم والعلم والتكنولوجيا عشان يخدم رغبته في تعظيم الفائض (مكسبه). والنتيجة النهائية لكل الهلع ده أن العامل يتم استغلاله لحدود قريبة من الموت ويعيش تحت ظروف بائسة لإعادة الانتاج الاجتماعي.
وببساطة لو كان حد طلب من ماركس إنه يختار بين نظرية للقيمة تشرح إزاي الأسعار بتحدد وبين نظرية للقيمة هتحكيلنا عن ظروف الحياة والعمل، أعتقد إن الإجابة هتكون واضحة. وده اللي بيقولنا إن نظرية ماركس للقيمة – لو كان ينفع نسميها كده – هي نظرية عن اغتراب العامل، اغترابه عن السلعة وعن القيمة اللي أنتجهم، لأن الحاجتين – السلعة والقيمة – بتوع رأس المال مش بتوعه. في نظام المصنع العامل مش متحكم في عملية العمل اللي بتحوله هو شخصيا لماكينة.
تعريف ماركس الاجتماعي لأي “عمل” أنه هو اللي بينتج فائض قيمة لرأس المال. وعشان تبقى مُنتِج الحقيقة دي مش حاجه حلوة. ده معناه إن أنت بتنتج قيمة لحد تاني (الإنتاج ليه احساس ايجابي وده مش ماركس). أخر حاجه تعوز تبقاها في العالم إنك تبقى عامل مُنتِج في نظام رأسمالي.
وإحنا هنا ما بنتكلمش عن العمل لكن عن العمل المنتج لقيمة، هو ده بس العمل اللي ماركس بيتكلم عنه (العمل اللي في النهاية بيصب في صالح حد تاني، وبالتالي بيتم استغلالنا فيه حتى لو كان الاستغلال ه شكلاً اشتغلال ذاتي Self exploitation). هنا تيجي أهمية التفكير في إعادة انتاج قوة العمل، في نظرية قيمة لإعادة الإنتاج الاجتماعي – إعادة إنتاج المجتمع، وده اللي عملته الحركة النسوية الماركسية النقدية. نظرية القيمة عند ماركس بتحاول تشرح لنا ده مش بتحاول تشرح لنا أسعار السلع بتحدد إزاي، ده مش اهتمامه.
ماركس بيشرح لنا إزاي وأنت جزء من النظام ده وجزء من قانون القيمة بتاعه، لما الحزب الشيوعي الصيني انضم للنظام الرأسمالي العالمي، كان عليه إنه يخضع لقواعد القيمة الرأسمالية، وبقت الصين مضطرة تخضع العمال لقواعد رأس المال. الرأسمالي معندوش اختيار، هو لازم يخضع لقواعد النظام، دي مش إيد السوق الخفية لأ، دي قواعد اللعبة. “القيمة” بتشتغل على اغتراب العمال. ده هو أساسها. عشان النظام يشتغل وتحصل قيمة ثم قيمة تبادلية ثم فائض قيمة – مكسب – لازم العامل يغترب عن الشيء اللي بينتجه وعن القيمة اللي بينتجها. وكذلك الرأسمالي نفسه لازم يبقى هو كمان مغترب معندوش اختيار. وهنا إحنا كأفراد وجماعات ضد الرأسمالية مهم نتدخل، إزاي نعمل ثورة في مفهوم القيمة، إزاي نستبدلها بأدوار جديدة للقيمة؟
وتعالوا نفكر أكتر في مسألة القيمة مثلاً لغاية 1970. الخدمات المالية ماكنتش بتعتبر أنشطة منتجة، في الوقت اللي كان فيه اقتصاديين بيعتبروا إن العمل في الجنس هو أكتر عمل منتج، وعشان كده الدولة لازم تنظمه وتحميه ما تمنعوش وهو دلوقتي جزء من الدخل القومي. بعد فترة مفهوم الخدمات المالية اتغير واتفهمت كأنشطة منتجه للقيمة ولفائض القيمة.
لا يوجد خارج النظام، لكن تناقضات النظام ده القوية، بتفتح مساحات خارج النظام. في 1971 بعد ما اتلغى الغطاء الذهبي، بقى عندنا نظام رمزي للقيمة بيتم التعبير عنه بنظام رمزي للنقود الرمزية، وشوفنا كمية المشاكل من ساعتها.. دول في أوضاع إفلاس زي الأرجنتين وتركيا. دلوقتي مفيش أصلا قاعدة مادية للنظام العالمي، بعد ما لغينا الذهب، دلوقتي العلاقة كلها رمزية.. رمز بيمثل رمز ! الأزمة الاقتصادية من سنة 1971 بتسافر من دولة لدولة تانية.
القيمة علاقة اجتماعية غير مادية. أنا هنا بأدّرِس في كلاس. دي علاقة اجتماعية. إزاي نقيسها بالظبط! بتحط حرف قبل اسمك (د.)! لكن ده بيتيح بعد كده وظيفة أحسن أو هتبقى أحسن وأنت ضد الرأسمالية، إزاي نقيس السعادة؟ مش ممكن!
السنة اللي فاتت تمت ترجمة الأصل (المخطط او المانسكريبت) اللي فريدريك إنجلز عمل منه الكتاب التالت من رأس المال، فيه فصل واحد في مرحلة التحقيق وهو مش منتهي، لكن إنجلز خلاه يبدو وكأنه منتهي. وإحنا بنقرا ماركس لازم ناخد بالنا خصوصا في الجزء التالت إن ده ماركس بيفكر، مش أفكار ماركس المنتهية (دي عملية التفكير نفسها مش منتهية).
لكن عموما مهم نقرا الكتاب التالت، في الأصل ده ماركس بيتكلم عن التكنولوجيا وإزاي تطورها بيقلل ” القيمة” لأنه بيقلل العمل المطلوب. تكنولوجيا أكتر معناها عمل أقل، وهي دي المعادلة الطبيعية لرأس المال. المسألة دي مهمة للغاية: تطور التكنولوجبا هيسرّع اللحظة التأسيسية لجنون النظام الرأسمالي. هيخليها تنتج فائض رأس مال ما ينفعش توظفه، وناس لا يمكن توظيفها!! اللي حصل في أزمة 2007 هو إن الصين كسرت حاجز تحقق القيمة، لأنها أنتجت بلا حدود.
ماركس شايف الأزمات في النظام العالمي – من نوع “كسر حاجز القيمة” – مش كنقاط نهاية لكن حلول عنيفة مؤقتة للتناقضات، وبالتالي لازم نمر فيها، وده شوفناه على مدى كل السنين اللي فاتت. الأزمة بتترك من مكان لمكان ومن خلال “التجارة الحرة”، الدول اللي عندها رأسمال كثيف بتتسند من الدول اللي عندها عمالة كثيفة. الصين مثلاً شغالة على التحول من كثافة العمال لكثافة رأس المال لأن ده بيكسب أكثر. أمريكا مهددة بأنها تفقد هيمنتها على السوق العالمي كدولة رأسمال كثيف والصين هي الوريث، والوريث ده مستعد يكسر حاجز القيمة!
نعمل إيه بقى في الممارسة – ممارستنا ضد الرأسمالية؟ محتاجين نفكر في لحظات الأزمات دي ومعنى “القيمة” وإزاي نخلق معاني جديدة للقيمة تكسر “العادي” الاجتماعي اللي بيعتبر القيمة التبادلية للسلع مسألة طبيعية.
[1] كتير من الناس بتعتقد ان الملكية الفردية مفهوم اجتماعي كان دايماً موجود، ماركس أهتم في كتاباته إنه يوضح إن لأ طبعا ده مش حقيقي، مفهوم الملكية الفردية مفهوم اجتماعي ليه تاريخ وتطور مش حاجه “طبيعية” ولا دايماً كانت موجودة. وبعد كده حصلت مئات الدراسات في الأنثروبولوجي والهيومان إيكولوجي والجغرافيا النقدية وغيرهم الي أكدوا على أن مفهوم الملكية الفردية مفهوم أتوجد في مجتمعات بعينها في وقت بعينه وساعد على انتشاره الاستعمار في إطار الرأسمالية. مفهوم الملكية الفردية – وبالتالي فكرة تبادل السلع (اللي بتترجم في صورة الفلوس) فكرة ما كنتش موجوده في كل المجتمعات وملهاش نفس المعنى في كل حته. الكتاب الكلاسيكي “الهدية” لعالم الأنثروبولوجي مارسيل مووز اللي صدر 1925 نموذج مهم جدا لفهم القصة دي.
[2] فكرة فهم “العمل” أو “قوة العمل” أو “القوى العاملة” أو “العمال” كسلعة لها “قيمة” و “سعر” بتعبر عنه الفلوس، هي كمان فكرة ما كنتش دايماً موجودة في مختلف المجتمعات ولا كان ليها نفس المعنى في أوقات مختلفة. ومن وجهة نظر كتير من علماء الأنثروبولوجي فإن فهمنا الآلي للعمل كسلعة ليها تمن ده فهم “حديث” ابن النظام الرأسمالي ومختلف عن فهم الناس للعمل قبل كده.