تغطية – عمرو خيري
هذا النص تغطية جزئية لمحاضرة دكتورة مديحة دوس ضمن أعمال مشروع “سكة معارف” المنعقد بالتعاون مع جمعية النهضة – الجيزويت في القاهرة. مديحة دوس هي أستاذة اللغويات في قسم الأدب الفرنسي في جامعة القاهرة. من أحدث أعمالها “العامية المصرية المكتوبة” بالتعاون مع هامفري ديفيز حول العامية المصرية منذ القرن السادس عشر حتى الحاضر. النص لا يعكس المحاضرة بالكامل ولا المناقشات التي دارت بعدها.
لما اتطلب مني أتكلم عن الخناقات في اللغة، حوالين الفصحى والعامية، على خلفية الجدل اللي دار حوالين رواية المولودة لنادية كامل، فأول خاطر كان إن فيه خلافات كتير مشابهة في اللغات والثقافات المختلفة، مش العربية فقط. وسبق إني مريت بتجربة خناقة لغوية في التسعينيات.
هأتلكم عن حاجتين، الأولى.. رواية المولودة مكتوبة بعامية صرفة، اتقدمت لجايزة ساويرس وكسبتها، وده أثار حوار وخلاف على الفيس بوك ويمكن في الصحف، حوالين مدى قبول الناس إن حد ياخد جايزة على عمل أدبي مكتوب بالعامية. هاتكلم عن الحوار اللي دار ده عن “المولودة”، مش هأحلل اللغة في حد ذاتها.
أول حاجة هي الحجج المقدمة عادة وبشكل خاص يمكن في مناقشة “المولودة”… الحجج اللي بتتقدم لمعارضة استخدام العامية في الكتابة، زمان ودلوقتي.. هي حجج متكررة، مش جديدة، دي بعض المقولات اللي لحقت أقراها ضمن بوستات الفيس بوك حوالين الموضوع.
النقطة التانية هتبقى مناقشة لمفهوم “الازدواجية”.. الازدواجية اللغوية.. وعايزة أتكلم عن إعادة النظر في المفهوم أو اعتبار إن فيه ازدواجية في اللغة. اتكتب فيه كلام كتير.
نرجع لأولاً، بالنسبة للحجج. فيه اللي قال إن الفروق بين الفصحى والعامية مش كبيرة، وإن مفيش فرق كبير بين الاتنين وليه عاملينها حكاية وبنتكلم فيها كتير، بما إن العامية في الأخر هي فصحى لكن مش واخدين بالنا إنها فصحى.. وبالتالي إن المناقشة مش مجدية. فيه قواميس بدأت تظهر من 100 سنة تقريبا جاية كدعم لفكرة إن الفصحى والعامية أصل واحد ولغة واحدة، وكأن المسألة مفيهاش “تاريخ”. الرد على الحجة دي بسيط جدا، إن الفروق كتيرة بين الفصحى والعامية، ومفهوم “الثنائية” اللي بيناقشه أنصار للفصحى وأنصار للعامية. فكرة “الثنائية” دي كتبها واحد من أكتر من مائة سنة وكانت بخصوص اللغة اليونانية. شارل فيرجسون سنة 1959 حاول يعمل نظرية: قال إن فيه 4 لغات مختلفة، اليوناني والعربي والهاييتي والسويسري.. إن الأربع لغات دي تشترك في إنها فيها سمات مشتركة، إنها بتُكتَسب في المدرسة مش في البيت.. ومش لغة أم.. وتراثها الثقافي أو الأدبي مهم جدا، فيها كلمات مثلا مزدوجة، زي “أذن” و”ودن” و”أنف” و”مناخير”.. الازدواجية دي موجودة في اللغات المذكورة اللي منها العربي، فيه فروق بين المفردات ما بين اللغة المنطوقة والمكتوبة. فيها كلمات بديلة لبعضها، وأنت بتكتب فصحى مش هتكتب “بؤ” مثلا بدل “فم”… ده القصد بالازدواجية اللي وضع لها فيرجسون نظرية في 1959.
على العكس مثلا من الإنجليزي أو الإيطالي: فيه كلمات مختلفة للتعبير عن نفس الشيء لكن متعلقة بمستويات ثقافية مختلفة للمتحدثين أو اللي بيكتبوا.
اتوجهت انتقادات كتير لفيرجسون، وهو نفسه سنة 1991 عمل مراجعة لشغله، لكن بالنسبة للعربي، فيه دكتور “السعيد بدوي” في الجامعة الأمريكية، عمل كتاب اسمه “مستويات العربية المعاصرة في مصر” سنة 1973 أعتقد، وقال مش مستويين زي فيرجسون ما قال، مش لغة “عليا” ولغة “سفلى” زي ما فيرجسون قال، إنما – والكلام لدكتور السعيد بدوي – إن فيه تعددية، السعيد بدوي طلع كذا مستوى، قال إن فيه فصحى تراث والفصحى المعاصرة، وعامية المتعلمين والمثقفين وعامية الأميين. أنا شخصيًا شايفة إن التقسيمة دي مش كافية. لأن السعيد بدوي بنى تحليله على لغة الإذاعة.. مادته البحثية كانت برامج الإذاعة، ودي طبعا مش طريقة لعمل مسح لغوي بأي شكل. تاني حاجة: شايفة إن التقسيمة ثقافية أكتر منها لغوية بشكل واضح.
فعلا فيه – في رأيي – فرق، وفيه ازدواجية ما بين لغة فصحى ولغة عامية، وإن مش صح إن الاتنين من أصل واحد.
مشكلة مناقشة الكتابة بالعامية إن ناس كتير حاولوا يعالجوها – أو يتجنبوها – في كتابتهم. أول واحد هو توفيق الحكيم. كتب مسرحية “الصفقة”، واللي همّه في فرنسا في القضية دي (أثناء تعليمه هناك) هو جمهور المسرح، إن جمهور المسرح كتير ورواد المسرح جايين من طبقات مختلفة… وبالنسبة لمصر، كان شايف إن فيه نقد شديد من “المعياريين” لفكرة كتابة نصوص مسرحية بالعامية. بعد كده ظهرت رواية “مراعي القتل” لفتحي إمبابي. وهو بيكتب كان بيتجنب قواعد معينة. واحد مستشار اسمه عثمان صبري كتب “بيت سري” و “رحلة في النيل”، وكانت كتابته فصحى لكن مخففة جداً.. يعني، كانت محاولات للكتابة بالفصحى مع تخفيف قواعدها، زي إلغاء المثنى مثلا أو نون النسوة، ولتكن اسمها “فصيحة مخففة”، أو العربية الحديثة. الخلاصة، إن ظهرت محاولات لتجنب الكتابة بالعامية والفصحى في الوقت نفسه.
نرجع لرواية المولودة. فيه حجة تانية اتقالت في النقاش حولها: فيه حد قال “العامية فقيرة في التعبير” ومتصلحش كلغة للكتابة والأدب بالذات. لكن متهيألي إن كتاب “المولودة” رد كافي على الحجة دي، لأن اللغة ثرية، عبرت عن مشاعر ومواقف كتير، بالتالي مش شايفة حكاية إنها لغة فقيرة بتيجي منين. دكتور لويس عوض كتب كتاب سنة 1947 “مذكرات طالب بعثة” وصدر في الستينيات، بعد ما اتغيرت الرقابة، واللي رفض ينشرها أول مرة سنة 1947 كانت هيئة الكتاب. سنة 2003 أو 2002 فتحية العسال نشرت سيرتها الذاتية كاملة بالعامية من الهيئة العامة للكتاب. من 1947 لسنة 2003 الأيديولوجيا اتغيرت.
المزج بين مستويات اللغة المختلفة أصبح شائع، وفي الأدب تحديدا. مثلا رواية “نائل الطوخي” الأخيرة مزج فيها بين العامية والفصحى في نفس الجملة. وبالنسبة للترجمة، فيه مصطفى صفوان، ترجم مسرحية “عطيل” لشكسبير للعامية.. لكن في النموذج ده تحديدا مقدرتش أتقبل ترجمة شكسبير لمستوى عامية بسيط جدا. مصطفى صفوان عشان مهتم بـ “لاكان” – وهو من تلاميذه – فهو مهتم باللغة المنطوقة، لغة الأم.
وبعدين فيه تجربة ترجمة “مسعود شومان” اللي ترجم شغل ابن عربي للعامية. ومثلا حلم ليلة صيف، تُرجمت مرتين للعامية، الأول عملها سيد رجب، ثم حالياً ترجمها الشاعر عبد الرحيم يوسف. وكل ما هتُترجم حاجات للعامية، هيبقى لها تراث متراكم. لكن معنديش فكرة الموضوع ممكن يحصل فيه إيه. لكن رأيي إن مش شايفة مشكلة في كتابة الأدب بالعامية.
حجة تالتة، إن الكتابة بالعامية هتتنافى مع لغة القرآن. الحجة دي مستخدمة من زمان.
والحجة الرابعة اللي شفتها هي إن استخدام العامية هيفرّق ما بين العالم العربي والناس مش هتفهم بعضها.. ودي حجة قومية. وكمان مثلا “اشمعنى اللهجة القاهري مش الإسكندراني أو الصعيدي”.
وفيه الحجج اللي بتقول “إزاي أكتب بالعامية” وهي ملهاش قواعد. أي حد لغوي هيقول لأ يعني أيه مفيش قواعد. مفيش تواصل من غير قواعد. طبعا لها قواعد، لكنها مش بتتدرس أو إن الناس بتتعلمها، لما تجنح عنها الناس هتستغرب كلامك.. زي اللي يقول مثلا “مش شفت” بدل “مشفتش”.. (ده رغم إن “مشفتش” ممكن مؤخرا بقت تتقال “مش شفت”، وهي بتتقال كده أصلا في الشرقية).. عموماً اللغة بتتطور وبتتبسط والناس بتختار الأسهل.
أنا مش بأدعو لإحلال العامية بدل الفصحى، لكن كلغوية، شايفة إن مفيش حاجة اسمها إن فيه لغة قاصرة أو ضعيفة. كل اللغات بتتطور، وبتتحول من لهجة أو لغة بسيطة للحياة اليومية، إلى لغة لها قواعد معتبرة وعليها إجماع، مع الوقت، وبشكل عضوي.
عايزة نشوف بعض النماذج للخلط بين الفصحى والعامية على مر التاريخ:
بنلاحظ من النماذج دي إن في فترة المماليك فيه كذا مثال على الخلط بين العامية والفصحى.. لقيت بعضها في بعض الحوليات “chronicles”.
في نموذج رقم 2 هنلاقي كلمة “راح” بمعنى “ذهب”. في فترة النهضة تم مثلا إسقاط كلمة “راح” من الفصحى كمرادف لـ “ذهب” عشان كان الرأي وقت وضع اللغة المعيارية هو إقصاء الكلمات المستخدمة في العامية. شيء من التطهير للغة.
نموذج رقم “3” بتحكي واقعة خناقة بين فئتين من العسكر اللي كانوا بيحموا الوالي، وحصلت عاركة كبيرة.. كانت مخطوطة شعبية كتبها واحد “مداح” مش متأكدة جمعها منين.
النص رقم “4” أكتر ألفة لنا. كتبه عبد الله النديم، وكان بيكتب جريدة “الأستاذ” بالعامية جزئيًا. هو كان قومي جدا ومهتم بالتراث العربي ومجد الماضي العظيم، إلخ… وبالتالي عنده صراع ما بين إنه عايز يكتب بالعامية لبعض الأسباب (هنقولها) والفصحى. كان بيحب يكتب بالعامية عشان الستات والأطفال والأميين يفهموه لما يتقري كلامه لهم. الفكرة إن عبد الله النديم كان عارف إن الناس أغلبهم مش هيعرفوا يقروا الجرنان، فشخص متعلم قاعد ع القهوة هيقرى للناس حواليه، فلما يقرأ الكلام الناس البسيطة تفهمه. وكان النديم رافض لما سماه “لغة الموظفين” “كتابة الجوابات المتأثرة باللغة التركية”، وكان بيدعو الناس للكتابة زي ما بتتكلم عشان الناس تفهم، بلغة عربية ممزوجة. يبقى القول إن في النص الرابع بتاع النديم استخدم ما يمكن وصفه بعامية الإسكندرية وقتها.