هذه المجموعة من المقالات بعنوان “المشي مع الآخرين” المقدمة في “قراءات” تباعاً، تأتي بإلهام من أفكار أستاذ الأنثروبولوجيا والمُنظّر تيم إنجولد، وهي أفكار سطرها في مقال له بعنوان “أنثروبولوجيا عالم واحد”. هذه المقالات “المشي مع الآخرين” تتبنى فكرة إنجولد عن فهم بديل للعالم: بدلاً من النظر للعلاقة بين شيء وآخر متصل به بصفتها رباط بين نقطتين أو جمادين (مُثنى جماد)، فلننظر إليها (أية علاقة) بصفتها الفرع يخرج من الجذع (كما في شجرة).
يقول إنجولد إن الرؤية الأولى للعلاقات بين الأشياء (كما بين جمادين منفصلين) يستتبعها أن العلاقة، أية علاقة، بين شيئين تُفهم دائماً بصفتها “بينية” أو بين الشيء وآخر، وعلينا أن ننتقل منها إلى رؤية أية علاقة من منطلق “المشي إلى جوار الشيء، أي مسايرته”. بمعنى آخر وبعيداً عن تعبيرات إنجولد المُجردة المُرهقة: بدلاً من أن أضع قضايا بعينها أو أفكار بعينها تحت الضوء وأكتب عنها بصفتها على مسافة منّي، سأكتب عما أشاء هنا وكأنني أسايره، أمشي معه وأوازيه، وأن أرى الأفكار تخرج كفروع بعضها من بعض دون مبالاة بتصنيف أو ترتيب للأفكار.. سأدع ما عندي يخرج إلى الورق وأنا أسير إلى جوار الفكرة وكأننا صديقين.
لا جديد ربما في مقال روي حتى الآن، رغم براعة التحليل، فالكثير من المحللين تناولوا وسيتناولون هذه الآثار والتفاعلات المحيطة بالجائحة. الجديد أنها قدمت مجازاً ترتاح عليه العين. قالت إن الفيروس فتح “مزق” ما بين الماضي والمستقبل، وأنه “بوابة” قادرة على فتح درب يقود إلى مستقبل مختلف بعيد عن العودة للحالة الطبيعية بما أن الحالة الطبيعية (النمو الاقتصادي المتسارع الذي يسبب التدهور البيئي، في ظل التفاوت الهائل في النصيب من الثروة في جميع أنحاء العالم) هي التي فاقمت من آثار الجائحة وجعلتها خارج السيطرة (ناهيك عن كونها السبب الجذري وراء انطلاق الفيروس قبل أشهر قليلة).
ما فعلته أرونداتي روي في مقالها هو أنها تسلحت بأدوات الأدب، بالمجاز والصورة، لتقدم للقراء حقيقة قبيحة مجردة، اعتدنا أن نراها إما في صورة إحصاءات بأعداد الموتى والمصابين وحسابات من دخلوا المستشفيات ومن خرجوا منها ونسبة هؤلاء إلى هؤلاء، أو في صورة تحليلات اقتصادية وسياسية مكتوبة بلغة “الخبير”. خلقت الكاتبة سيناريو مألوف رغم بشاعته، حكاية يمكن للناس أن تستوعبها وتتصالح معها، كوعاء مستوعب للأحداث المتجاوزة على قدرة الاستيعاب.
أليست قضايا جائحة الكورونا مثال آخر على هذا النوع من الأشياء؟
تحدث روب نيكسون عن أرونداتي روي ضمن من وصفهم بـ “الكتاب-النشطاء”، ومنهم بالمناسبة عبد الرحمن المنيف وخماسيته “مدن الملح”، (في مناقشة حول تناول نيكسون لمدن الملح، قالت صديقة إن مصطلح مدن الملح في حد ذاته يسر لها فهم معنى أن يكون الشيء “غير مستدام”: عبثي، ميت، مدينة من الملح) الذين قدموا للقراء قضايا التدهور البيئي بالاستعانة بالخيال حتى يستوعب الناس.
الكاتبة الهندية روي، في مقالها، تجاوزت التحليل الإحصائي، ولغة الخبراء، والتقديرات العلمية الحريصة، إلى هذه الصورة الوجودية العظيمة، مستندة إلى الخيال: انفتح أمامنا في جدار الزمن مزق، ثقب أسود وقعنا فيه بين الماضي والمستقبل المتوقع، ونحن نعرف هذا وذاك تمام المعرفة لكن لا نعرف هذا المزق، وأصبحنا بصدد بوابة قادرة على نقلنا إلى مستقبل بديل وماضي سنراه من الآن فصاعداً وعاءً مختلفاً بتفسيرات جديدة لأحداث قديمة.
هذا مثال غير موضوعي من جانبي بالمرة على أهمية الخيال وفن “الخطابة” القديم في هذه اللحظة العجيبة. أتمنى أن نرى استخداماً أكثر لأدوات الخيال في التحليلات والتعليقات المقبلة عن الأزمة والتحولات الكبرى التي يشهدها وسيشهدها العالم. أتمنى أن يتعلم الخبراء من الأدباء، وأن يتعلم الأدباء من الخبراء حتى نصل لموضوعية جديدة رحيمة أكثر قادرة على مخاطبة الناس على العموم، لا “قراء الأدب” ولا “جمهور الخبراء”. وفي نهاية التعقيب، أقدم هذه الفقرة من مقال روي، هذه المساحة الرحيبة للتأمل:
“لا تزال عقولنا تهرول بين هذه النقطة وتلك، تتوق إلى العودة للحظة “الحالة الطبيعية”، محاولةً لضم مستقبلنا بماضينا، رافضة الاعتراف بوجود المزق. لكن المزق موجود. وفي وسط هذه الحالة المروعة من اليأس، يقدم لنا المزق فرصة لنعيد التفكير في آلة يوم القيامة التي شيدناها لأنفسنا (النمو الاقتصادي، الوقود الأحفوري والتدهور البيئي، الظلم الاجتماعي، إلخ). لن يكون هناك أي شيء أسوأ من العودة إلى الحالة الطبيعية”.