ديفيد هارفي يناقش ما هي النيوليبرالية : مشروع الصفوة لدعم القمع باسم “الحرية”

محاضرة ديفيد هارفي (3) 

حضرها وأعدها يوسف رامز 

دي المحاضرة التالتة في سلسلة محاضرات ديفيد هارفي، جزء من سيمنار “ضد الرأسمالية أفكار وأفعال” المحاضرات دي مفتوحة للجمهور وفي نفس الوقت بتتقدم ضمن سيمنار (كورس Credited course) لطلبة الدكتوراه في قسم الأنثروبولوجي، كل يوم أربع في مركز الدراسات العليا بجامعة مدينة نيويورك GC-CUNY. “الهضم” ده للمحاضرات بيتقدم على قراءات بموافقة هارفي وجيف منسقي السيمنار وبالتالي قراءات ممكن تفتح حوار بين قراءها وبين هارفي وجيف لو حد مهتم يسأل على حاجة محددة.

في المحاضرة دي، هارفي بيتكلم عن النيوليبرالية بصفتها مشروع طبقة، أو تحديدا جهاز أيديولوجي وراه صفوة الطبقة الرأسمالية، هيحكيلنا إزاي النيوليبرالية بتتحالف مع الشعبوية والديكتاتورية والنعرات القومية للدفاع عن نفسها ولحل تناقضاتها وأكاذيبها. وبيركز على أهمية فهم “كلية العلاقات” بين ثلاثية الإنسان والتكنولوجيا والطبيعة عشان نقدر نقدم فهم ماركسي متدفق وحيوي للي عايشينه في العالم من مصر لأمريكا.

هارفي بدأ كلامه بأنه يقول:

النيوليبرالية جهاز أيديولوجي تطور في خدمة مشروع طبقي. مشاريع تحرير الإنسان والحريات المختلفة وحرية النشاط في التسعينيات (من وجهة نظر الليبرالية) كانت بهدف تأسيس ظروف التراكم الرأسمالي الضرورية عشان الطبقة الرأسمالية المسيطرة على العالم تسترد قوتها. النيوليبرالية ما نجحتش في أنها تخلي التراكم الرأسمالي يبدو قانوني، لكن نجحت في استعادة هيمنة الصفوة الرأسمالية زي ما حاصل في الصين وفي روسيا.

في ملاحظة في هامش الفصل 15 عن الآلات في كتاب رأس المال الجزء الأول، ماركس بيشرح نظريته عن التغيير الاجتماعي. وبيركز على العلاقة بين الإنسان والطبيعة والتكنولوجيا. التكنولوجيا هنا مش الآلات والبرامج بتاعت الكمبيوتر بس، لكن كمان طرق التنظيم والإدارة. كل تطور في التكنولوجيا بيكشف تطور في العلاقات الاجتماعية، ثم في المفاهيم الذهنية والترتيبات المؤسسية. قبل سنة ١٩٩٢ كان كتير من المسؤولين في صندوق النقد وفي البنك الدولي جايين من خلفية “كينزية” (Keynesian مصدقين في أهمية دور الدولة في تحقيق الرفاه الاجتماعي وضبط توحش الرأسمالية) لغاية ما جت مسؤلة كبيرة في الصندوق وقررت تغير كل الناس دي. بعد ١٥ – ٢٠ سنة من التغيير ده الموضوع بقا طبيعي، الصندوق والبنك مفهمش ناس كينزيين. رأس المال مش محتاج يروح كل مرة الأرجنتين يقولهم تعملوا أيه، لأن كده كده فيه مؤسسات تانية زي الصندوق هتقولهم، لأن اتخلق وضع فيه البنك والصندوق هيعملوا من نفسهم اللي النخبة الرأسمالية عاوزاه.  المهم هنا في الصندوق الفكرة (المفهوم الذهني) مش قوة الطبقة اللي وراه ولا قربها منه. دلوقتي فيه كلام في الصندوق على مراجعة سياسات الهيكلة الاقتصادية، وبيقولوا يمكن كنا غلطانين؟ وفيه فرص لأفكار بديلة من جوة الصندوق. عشان كده بنقول مش مهم الصندوق المهم الفكرة الذهنية إلى وراه.

IMG-0003

تصوير يوسف رامز

مش ممكن نتكلم عن أفكار حاكمة من غير طبقة اجتماعية حاكمة. رومانيا ماكنتش محتاجة طبقة مسيطرة رأسمالية لأن الصندوق قام بالمهمة. حتى في الصين اللي بيحكمها حزب شيوعي، مفيش صفوة رأسمالية بالمعنى المباشر. لكن الصين بتنفذ كل سياسات النيوليبرالية. يمكن تنشا صفوة مسيطرة في الصين. لكن هتظهر بعد ما الأفكار الحاكمة تتنفذ. ماركس بيورينا إزاي فيه سيولة في حركة الأفكار وعلاقتها بالطبيعة والتكنولوجيا والإنسان.

طيب إحنا قلنا إن النيوليبرالية نجحت في استعادة سيطرة الصفوة الرأسمالية، استعادتها من مين؟ (كل قوة اجتماعية يتم فقدها من طبقة أو مؤسسة المفروض تتفقد لمصلحة حد تاني). طب هل الطبقة الرأسمالية كانت فقدت قوتها؟! جزئيا أه. فقدتها جزئيا على الأقل لمصلحة طبقة عاملة قوية في الستينيات: الحركة العمالية كانت قوية، كتير من الأحزاب الشيوعية واليسارية كانت قريبة من السلطة، في منطقة البحر المتوسط في فرنسا، وحتى في أمريكا كانت الحركات ضد الشركات واستغلاها نشيطة، وحركات حقوق المستهلك القوية وغيرها. وده استمر حتى السبعينيات، ووصلت التحركات لحرق بنوك وإغلاق شركات.

ورأس المال كان في أزمة حقيقية لغاية بداية التمانينات. وفي الوقت ده اتجمعت الشركات وقررت إنها محتاجة شوية شرعية لدورها. وبدأ الهجوم المضاد من الطبقة الرأسمالية.

وعشان نشوف إزاي العملية دي بتحصل، وإزاي النيوليبرالية هي جهاز أيديولوجي تطور في خدمة مشروع طبقي، لازم نرجع تاني للفصل 15 عن الاَلة في كتاب رأس المال. في الفصل ده ماركس بيحكي عن عناصر “المادية التاريخية” وبيقول التكنولوجيا بتكشف علاقة الإنسان النشيطة بالطبيعة، الإنتاج المباشر لحياته، وعمليات إنتاج الظروف لعلاقات حياته الاجتماعية، والمفاهيم الذهنية اللي بتتخلق من الحياة الاجتماعية دي. وهنا ماركس بيتكلم عن “الكلية” “totality” والكلية دي، اللي فيها ثلاثية الإنسان والتكنولوجيا والطبيعة هي جوهر المادية التاريخية. ومهم هنا ناخد بالنا إن ماركس ما قالش إن التكنولوجيا بتحدد علاقة الانسان بالطبيعة، لأ ماركس بيقول إن التكنولوجيا بتكشف reveals  علاقة الإنسان بالطبيعة. ماركس مش مُفكر من بتوع الحتمية والتحديد لأنه بيتكلم عن العلاقات بين التكنولوجيا والإنسان والطبيعة: بيتكلم عن “كلية العلاقات”. العلاقة الرمزية النشطة مع الطبيعة بتتعاش من خلال التكنولوجيا وزي ما قلنا التكنولوجيا هنا مش الآلات بس لكن نظم إدارة وتنظيم وبرامج…).

تعالوا نبص ع الرسمة دي:

Untitled

ماركس بيقول لنا ازاي التكنولوجيا بتأثر على أنشطه الإنتاج وده بيأثر على إنتاج الحياة اليومية وتشكيلها، وده بيأثر على انتاج المفاهيم العقلية والذهنية عن العالم، وده بيأثر على التنظيمات المؤسسية وإنتاج العلاقات الاجتماعية… وهكذا في حالة من “كلية العلاقات”. كل العناصر دي مهمة لبعضها ومش ممكن نعمل تغيير في أي عنصر منها من غير ما نغير الباقي.

لو فكرنا مثلا في النيوليبرالية، وحطيناها في الرسمة هنا، لو فكرنا في النيوليبرالية كمشروع طبقي، بينشأ هنا في العلاقات الاجتماعية لازم يكون ليه تأثير مباشر على المفاهيم الذهنية، والترتيبات المؤسسية والإنتاج والتكنولوجيا (كطريقة للإدارة والتنظيم)، وبما إن النيوليبرالية محتاجة “عمالة مرنة”، فالتعليم اتغير، لأن المطلوب إنتاج عمال قادرين يتحركوا من شغلانة للتانية ومن مجال لمجال تاني، اتغير التعليم وبالتالي اتغيرت حاجات في علاقات إعادة إنتاج الحياة اليومية (زي التعليم) وهكذا.  في كتاب مهم طلعته ميلندا كوبر Melinda Cooper عن قيم الأسرة في النيوليبرالية، والتحولات من المرحلة الفوردية (لما كان النموذج هو مصانع فورد اللي فيها العمال بيتعينوا طول عمرهم وبيسكنوا في مساكن المصنع وعندهم تأمين ومستقرين..) إلى النيوليبرالية. ومن خلال تفاصيل كتير بتورينا التغيير في قيم الأسرة. المثير للاهتمام إنها مثلا ما بتوريناش خالص أيه اللي بيحصل في مجال الإنتاج او “الاقتصاد”،

FAMILY VALUES

هي بتركز فقط على الأسرة ومن خلال الأسرة بتورينا إزاي إن النيوليبرالية هي التحولات في إعادة الإنتاج الاجتماعي.. هي التحولات في الأسرة. ولو درسنا بس أي عنصر من عناصر الرسمة دي ممكن نفهم النيوليبرالية بصفتها إعادة ترتيب جذري لعلاقات الإنتاج، إعادة ترتيب جذري للتكنولوجيا، إعادة ترتيب جذري لعلاقات إعادة الإنتاج الاجتماعي… المهم نفكر ف كلية العلاقات دي، ولما ناخد بالنا من كلية العلاقات دي هنبطل نسأل مين فيها بيأثر على مين لأن فيه استمرارية وتدفق بين العناصر المختلفة.

نموذج تاني ممكن نفكر فيه. مع النيوليبرالية، بقا مطلوب إننا نغير مفهوم الفرد والأسرة، المطلوب إننا كأفراد نتحول لأفراد مبادرين بنفسهم، وبالتالي إحنا مسؤولين عن خلق رأسمالنا الإنساني بنفسنا – وبالمناسبة طبعا المفهوم ده بتاع رأس المال الإنساني ولا كان عند ماركس ولا آدم سميث – لما يتفهم الفرد كرأسمال يبقى مطلوب منه يقرر لو هيستخدم الفلوس اللي بيعملها في استثمار جديد ولا هيروح يتقاعد ويستمتع بفلوسه في جزر البهاما. ومش هنتفاجئ لما نلاقي الإجابة: استثمار جديد. فوكو بيكلمنا عن النيوليبرالية كنظام للحوكمة، وعن إزاي الحوكمة دي بيتم تبنيها ذاتياً وبتبقى جزء من وجدان الإنسان.

ممكن حد يقول إن تعريفات النيوليبرالية ما بتقدمش مفاهيم متماسكة، أه تمام أنا في 2005 قضيت وقت طويل في قراية تعريفات وندي براون Wendy Brown وفوكو وغيرهم، والقصة معقدة طبعا والمفاهيم مركبة، لكن في النهاية لما نفهم النيوليبرالية بصفتها مشروع طبقة ونفكر في كلية العلاقات زي ما قولنا هنشوف إزاي إن الموضوع واضح وسهل. تعالوا نفكر في ترامب، إيه القصة! هات واحد أحمق تماما، يقول إنه ضد مفاهيم حماية البيئة، هاتوا الأحمق ده رئيس لأمريكا، فنكتشف إننا قدام أكبر هيئة رسمية لحماية البيئة في أمريكا مش من حقها وممنوع تستخدم مصطلح “التغير المناخي”. هي دي النيوليبرالية. حماية البيئة موضوع الشركات بتكرهه وعاوزة تخلص منه. عمل إيه تاني ترامب؟ خفض الضرايب. وبوضوح تام خفضها لمصلحة الطبقة الرأسمالية المسيطرة. ف مش مهم خالص مين وإزاي بيحققق مصلحة الطبقة، المهم إنه يكون شغال كويس وقادر من خلال حماقته يحقق المصالح دي.

فيه ناس هتقول إن النيوليبرالية ماتت في 2007، 2008 (في الأزمة المالية)،

طبعاً لأ. اللي حصل إنها اتحركت من مكان لمكان تاني،.

النيوليبرالية عديمة المنطق ومتناقضة، هي كده دي طبيعتها، ومهم نتفرج على أزاي بتبني مفاهيم وممارسات متناقضة عشان تخبي على تناقضتها.  مثلاً “الحرية” كلمة استخدمتها النيوليبرالية دايماً في الدعاية لنفسها. وده تُرجم في حاجات من نوع “مرونة قوة العمل”. وده ارتبط بإعادة تعريف الدولة اللي بقت متورطة للغاية في دعم الرأسمالية. الدولة لما تتوقف عن التفكير في رفاهية وحماية المواطنين وتقلب تركيزها على “خلق فرص عمل”، هي ببساطة بتشتغل على إمداد الرأسمالية بمزيد من قوة العمل عشان يتم استغلالهم. وده بيخلق طبعا تحديات سياسية أولها التناقض بين مفهوم الفرد الحر وبين اغترابه عن نفسه في أي رأسمالية، وبين رغبة الناس في بناء حياة جماعية زي ما في اتحادات العمال القوية. وفي النيوليبرالية بنستبدل التنظيمات القوية زي الاتحادات بتنظيمات هشة زي مؤسسات المجتمع المدني التطوعية. ومن تناقضات النيوليبرالية المهمة كمان أنها في الوقت اللي بتدعي فيه إنها بتاعت الديموقراطية هي في الحقيقة بتسيب القرارات الأهم في أيدي مؤسسات بيحكمها “الخبراء” – بتوعها طبعاً – زي صندوق النقد، ونلاقي القرارات الأهم في حياة الناس بتقوم بيها الدولة – اللي المفروض ما بتتدخلش في الاقتصاد النيوليبرالي!! ـ والأهم إن القرارات دي أصلا في أيدي مؤسسات تانية خارج كل عمليات الديموقراطية والانتخابات والناس والدولة.

حرية الجماهير يتم تهميشها وقمعها في الممارسات النيوليبرالية.

بنشوف إزاي القمع والحكومات القمعية في خدمة مشروع “النيوليبرالية التحريري” في كل مكان في العالم. طيب النيوليبرالية بتقول إنها بتشتغل على حرية الفرد، وفي نفس الوقت بتجيب حكومات ومؤسسات تقمعه أو تلف عليه بأشكال مختلفة. طب هتعمل إيه في مشكلة إن ولاء الناس للدول اللي بتقمعها هيقل طبعا ويمكن يروح خالص؟ الحل في “القومية”. من أيام مارجريت تاتشر وهو ده الحل، تاتشر كانت نيوليبرالية للأخر وفي نفس الوقت قومية للأخر وقادت حروب ضد الأرجنتين للدفاع عن كرامة الأمة البريطانية! الموضوع ببساطة إنها كانت هتخسر الانتخابات وهتخسر تأييد الناس، طب تعمل ايه؟ تعمل قومية. السلطوية هي أساس طريقة النيوليبرالية في الدعوة لحرية الفرد. لو إن الدولة النيوليبرالية ودولتها غير مستقرة تعمل أيه؟ بسيطة.. زي ما عملت في 2004- 2005: تتحالف مع المحافظين الجدد.. تتحالف مع جورج بوش ورجالته.

النيوليبرالية عشان تواجه كوارثها وأزماتها اشتغلت على خلق “يوتوبيا نيوليبرالية” وده مثير جدا للاهتمام. في العراق في 2003، عملت إيه أمريكا: الخصخصة الكاملة للملكيات العامة بما فيها النقل، والإعلام، والبنوك …كل حاجة، فقط البترول تم استثنائه عشان يتدفع منه تكلفة الحرب. في العراق بعد الحرب الأمريكية البريطانية عليها، حرية التنظيم تم تقييدها… الإضرابات اتمنعت في القطاعات الحيوية، حرية العمال في التحرك بمرونة بين القطاعات اتحددت وتم تطبيق نظام ضرايب ضاغط وقمعي. طبعا التشكيل الجديد للنيوليبرالية ده في العراق فشل بشكل مريع.

أمريكا تخيلت العراق وكأنها مكان فاضي هتخلق فيه يوتوبيا نيوليبرالية وطبعا فشلت وسابت كارثة. وبالمناسبة الناس اللي بتتكلم كتير عن أكأذيب ترامب المتصلة، خلي بالكم دي أكاذيب مش مهمة. الكذبتين الأهم في القرن الواحد والعشرين مكنوش بتوع ترامب. بلير وبوش لما قرروا يعلنوا الحرب على العراق كذبوا أكبر كذبه في القرن. والكذبة التانية إن السوق الحرة هتقود للحرية والاستقرار، ودي الكذبة اللي اتكشفت في 2007 – 2008.

فيه ناس ممكن تتصور أن الشعبوية المحافظة اللي حاصلة في أمريكا دلوقتي وفي أماكن كتير في العالم حاجة جديدة. وممكن ناس تشوفها متناقضة مع مصالح النيوليبرالية المعلنة بتاعت حرية الفرد وحرية المبادرة الفردية وحرية التحرك والعمل المرن والكلام ده. لأ خالص، القمع جزء من النيوليبرالية من زمان. خلق الفوضى حل مناسب دايماً للتغطية على تناقضات الرأسمالية. ومن جوه الفوضى دي ممكن يجيبولنا حد زي ترامب. النيوليبرالية ما ماتتش لكن فقدت شرعيتها. وفي مواجهة فقد النيوليبرالية لشرعيتها بتتخلق شرعيات جديدة، زي المحافظين الجدد والقومية.

للمزيد:

محاضرة ديفيد هارفي 1

محاضرة ديفيد هارفي 2

فكرة واحدة على ”ديفيد هارفي يناقش ما هي النيوليبرالية : مشروع الصفوة لدعم القمع باسم “الحرية”

.