كاتبة عرض الكتاب: كاترين جوليفر
تاريخ النشر: 21 يونيو/حزيران 2018
عرض لكتاب آلن ماين المعنون “العشوائيات: تاريخ من الظلم العالمي”.
Slums: the history of a global injustice. By: Alan Mayne
ترجمة: محمد عز*، و نرمين نزار وتحرير: عمرو خيري.
تصدر هذه الترجمة ضمن أعمال “معمل الترجمة والكتابة” المنعقد على هامش مبادرة “سكة معارف” بجمعية الجيزويت في القاهرة، موسم 2018-2019.
تستدعي الكلمة “مكان عشوائي” “Slum”[1] إلى الذهن معانٍ قوية عديدة. فعند ذكرها قد يتوارد إلى الذهن مساكن القرن التاسع عشر الرثّة، أو الفقر الديكنزي [تشارلز ديكنز]. أو ربما تستدعي للذهن صور فقراء اليوم الذين يعيشون في مدن الصفيح والعشش. ويقترح كتاب آلان ماين الجديد أن نفكر في الأحياء العشوائية كظلم عالمي؛ ليس لوجود ظروف معيشية مزرية، ولكن بسبب كلمة “مكان عشوائي” “Slum” في حد ذاتها. ويعتقد ماين أن هذا المصطلح قد تم استخدامه كسلاح مُشهر في وجه الفقراء، ويجب ألا يتم استخدامه.
وقد نظم ماين أوراقه على الطاولة واختار عنوانًا فرعيا هو “تاريخ من الظلم العالمي”. وقد كان واضحًا أنه لا يعتبر العشوائيات حالة طبيعية، أو أمر حتمي بأي حال، أو أنه حدث كنتيجة للتحضر [تعمير المُدن] والتحول السريع نحو المجتمع الصناعي. وبالطبع، فإن ما يعتبر حيا عشوائيا بالنسبة لشخص ما، يعد مجتمعًا محليا بالنسبة لشخص آخر، وكذلك فإن التعريفات التي استخدمها المخططون الحضريون والمصلحون العمرانيون قد مالت إلى أن تكون محملة بافتراضات طبقية وعرقية. ولكن هذا لا يعني أن المصطلح، والمفهوم، ليس لهما مدلول تاريخي وثقافي.
لقد انتقلت الكلمة “Slum” من الإنجليزية إلى لغات أخرى، وهي مفهومة على المستوى العالمي. وعلى الرغم من ذلك، فإن تعريفها محدد ثقافيا وزمانيا. فما يشكل حيا عشوائيًا في أستراليا في القرن الحادي والعشرين، ليس هو، أو ما كان يقصد به، الحي العشوائي في أماكن أو اوقات أخرى. فكيف لنا أن نُعرِّف منطقة سكنية بأنها حيا عشوائيا؟ هل هو افتقار الوصول إلى الماء أو المرافق والخدمات الأخرى؟ الاكتظاظ العام؟ فشل محدد في تلبية قواعد معينة للبناء؟ يستعصي السؤال على الإجابة، لأن الحي العشوائي هو مفهوم نسبي دائما.
يعني ارتفاع مستويات المعيشة في الغرب الصناعي أنه وعلى الرغم من وجود الحرمان في أشكال عدة فإنه لا توجد لدينا عشوائيات؛ ليس بالمعني التقليدي على الأقل. في مدننا لا توجد أحياء بدون مياة جارية أو كهرباء (المشردون، سكان الشوارع، أو homelessness، قضية أخرى). إن كلمة “مكان عشوائي” “Slum” كثيرًا ما تُستخدم اليوم للإشارة إلى المدن في العالم النامي، مع التحول إلى التصنيع ونمو المدن/الحضر إلى هذه الأماكن. لقد ظهرت مدن الصفيح وغيرها من المستوطنات الفقيرة الأخرى على أطراف المدن الكبرى. وهذا جزء أساسي من مفهوم “الحي العشوائي” “Slum”. فالعشوائيات هي ظاهرة حديثة و حضرية/مدينية على وجه التحديد. قد يكون سكان الريف فقراء، ولكن الحي العشوائي “slum” يستلزم الازدحام المديني، ويستلزم وجود أثرياء الحضر الذين يرونه عشوائياً. العشوائيات هي دائمًا شيئًا مبهمًا: حيث يكتب ماين عن العديد من سكان الأحياء العشوائية في الهند الذين يفخرون بمنطقتهم – حتى وإن كانوا يحكمون على أشخاص آخرين بالقرب منهم (يعيشون في ظروف مماثلة) بصفتهم سكان عشوائيات. العشوائيات دائما هي حيثما يعيش الغير.
ولقد كان ماين على صواب، فالمصطلح “عشوائي” “Slum” يحمل نوعًا من الإدانة الأخلاقية لأولئك الذين يعيشون “هناك”، أو للمجتمع الذي يسمح بوجود مثل هذه الظروف المعيشية. لكن قصة العشوائيات مرتبطة أيضًا بقصة تغير الظروف الاقتصادية. لقد ظهرت الأحياء العشوائية فقط عندما وصلت المدن إلى نقطة من الترف، مع صعود الطبقة المتوسطة، كما حدث في إنجلترا بعد الثورة الصناعية. فهناك دائما فقراء يعيشون في ظروف معيشية قاسية في المدن والبلدات. ولكن حتى توجه الطبقة المتوسطة نظرتها الازدرائية إلى مساكن الفقراء وتبدأ في تصنيف منازل ومناطق بعينها كأحياء عشوائية؛ فقد احتاجت الطبقة المتوسطة للرحيل إلى أماكن أفضل. تزامنت هذه التغيرات الاقتصادية عادة مع صعود إرادة الدولة للقيام بعمل ما حيال الفقر الحضري. وبالفعل فإن الأحياء العشوائية قد بدأت بالظهور فقط مع المدن الحديثة. كانت فكرة إزالة الأحياء العشوائية مرتبطة تمام الارتباط بصعود المجتمعات الصناعية، وجلبت الدولة البيروقراطية معها خطط للمدينة. وظهر سكان العشش في لندن على ما يبدو عندما كانت هناك كتلة حرجة من الفيلات البرجوازية في باقي أنحاء المدينة. لقد أدت الرغبة في التحديث إلى ضرورة رحيل سكان العشش.
***
لقد كانت أولى الإزالات للمناطق العشوائية جزءًا من مشروعات البنية التحتية. ففي لندن تم اقتلاع منازل الفقراء لإفساح الطريق أمام خطوط السكك الحديدية، كما هو الحال في شوارع هوسمان العريضة في باريس. وفيما بعد تم تمزيق بعض الأحياء في العديد من المدن لإنشاء الطرق السريعة والجسور. ومن ثم يقدم ماين سردًا مفصلًا لتاريخ إزالة العشوائيات، وبصورة خاصة في أستراليا والمملكة المتحدة، وعلاقتها بالإحلال الطبقي العمراني Gentrification*. لكن من غير الموضوعي اقتراح – كما اقترح ماين – أن تحسن العشوائيات لا يرتبط إلا بحالة العقارات.
كانت الأحياء العشوائية تُزال عندما تقع في طريق الأقوياء، لكن إزالة هذه الأحياء من أجل المصلحة الخاصة لقاطني هذه المناطق، ومن أجل السعي لتحقيق النماء الاجتماعي، فإن ذلك ظهر تدريجيًا وتسارعت وتيرته في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. وفي الولايات المتحدة، فإن حركة إزالة العشوائيات في نيويورك، وشيكاغو، وغيرها من المدن الكبرى، احتفظت بالأهداف الإنسانية من بين دوافعها الأساسية. وقد كان نفس المصلحين الذين قاموا بحملة لإنهاء العشوائيات – ومن بينهم روزفلت – يطمحون إلى وضع حد لعمالة الأطفال وتحسين اللوائح والقوانين الصحية في نفس الوقت.
وكان هذا الاهتمام مدفوعا بما تم كشفه من فضائح عن الحرمان الحضري كتصوير جاك رايز Jacob Riss* في كتابه “كيف يعيش النصف الآخر” الصادر عام 1890، وهي الكتابات التي أظهرت بدقة طبيعة الازدحام والمشقة في تلك الأحياء، والتي كانت غالبا على بعد مسافة قصيرة من مكاتب ومنازل أثرياء نيويورك. في الثمانينات من القرن التاسع عشر، كانت منطقة الجانب الشرقي الأدني “Lower East Side” من مانهاتن موطنًا لما يُقدر بنحو 700 شخص/فدان، أي بمعدل ازدحام يندر أن يوجد مثله في العالم. وهو ما أظهرته صور جاكوب رايس، حيث أظهرت ثمانية أشخاص أو أكثر ينامون في حجرة بدون نوافذ، وأطفالًا يرتدون الخرق البالية، وأناسا تكشف أجسادهم عن سوء الصحة الناجم عن الفقر.

مؤلف الكتاب آلان ماين
لقد جعلت الصور معاناة أولئك الأفراد مجسدة أمام السلطات وفاعلي الخير من المواطنين، وقد ترتب على ذلك حدوث تغيرات حسنت من أوضاع حياتهم. وتم إدخال قوانين البناء التي تتطلب أن يكون للمباني السكنية الحد الأدني من فرص الوصول إلى الماء والإنارة. وتم معاقبة مالكي العقارات في العشوائيات. وبطبيعة الحال، جاءت مثل هذه التحسينات بنتائج سلبية للناس الأكثر فقرًا – فقد احتج بعض سكان الجانب الشرقي على هذه التحسينات؛ لأنهم أرادوا أن يظلوا يدفعون أقل قدر ممكن من الإيجار، وأن يستطيعوا إرسال بعض الأموال لأقاربهم في الخارج. وكما تحسنت المباني، فإنها أصبحت أعلى كُلفة للإيجار، وبالنسبة لبعض المالكين، لم يُصبح من المجدي اقتصاديًا على الإطلاق توفير غرف للإيجار.
***
الذين يعيشون في العشوائيات هم جزء آخر من المعادلة التي يناقشها ماين بتعاطف شديد. وكما يصف ماين، فقد ظهر مفهوم “عقلية العشوائيات “slum-mindedness” في إنجلترا في القرن التاسع عشر. وكانت الفكرة أن أولئك الذين يقطنون العشوائيات ليسوا أفقر من أي شخص آخر فقط، ولكنهم أيضًا يتصفون بنوعية معينة من العقليات. كان ذلك هو عصر الأعمال الخيرية التي تركز على الفقراء المستحقين Deserving poor، ولم يكن قاطني العشوائيات – طبقًا لاعتباراتهم – من المستحقين. لقد كانوا عقيمين للغاية أو غير مؤهلين لتسلق السلم الاجتماعي، أو ليعيشوا حياة مرتبة، أو أن يحتفظوا بوظائف لائقة. لقد كان هناك فصلًا تعسفيًا (قاسيًا) لكثير من أولئك الذين يصارعون الفقر – ومبرر لعدم مساعدتهم – ويعترف ماين أنه ربما كان هناك قدر من الحقيقة المحرجة لهذا الافتراض عن سكان العشوائيات. وقد يطلق علماء النفس على هذه الحالة في الوقت الحالي “المأسسة” “institutionalisation” وهي ميل البشر إلى البقاء في حالات الاختلال الوظيفي التي خبروها جيداً. حتى أن هناك دراسات حديثة أشارت إلى أن الفقر في حد ذاته يمكن أن يتسبب في ضعف الإدراك، مما يسبب نوعًا من صناعة القرار يمكن إرجاعة في نفس الوقت إلى “عقلية العشوائيات”.
وفي أوقات مختلفة وأماكن مختلفة، تم استخدام كلمة “عشوائي” للإساءة إلى جماعات عرقية واجتماعية معينة؛ تلك الجماعات التي لم تشكل أنماطها السكنية والعائلية وفقاً للنموذج المثالي السائد. ربما لأن أماكن نشر الغسيل الخاص بهم كانت في النوافذ أو الشوارع. ربما لم يكونوا يحترمون الأفكار والمفاهيم البرجوازية اللائقة. ربما كان لطعامهم رائحة غريبة. كانت الأجيال المتعددة والأسر الممتدة تعيش في منزل تحت سقف واحد – كما عاش البشر على مر التاريخ – يشبه العشوائيات، يصلح بالكاد لأن يكون منزلًا لأسرة واحدة من أفراد الطبقة المتوسطة. وأصبحت المساكن متعددة الأسر مرتبطة بالفقراء والمهاجرين. حتى الأحياء النظيفة والمنظمة يمكن اعتبارها أحياء عشوائية استنادًا إلى من يعيشون فيها.
وقد شهدت فترة ما بعد الحرب موجة كبيرة من إزالة العشوائيات والمساكن العامة في المملكة المتحدة. وقد أتاح الدمار الذي سببته الحرب الفرصة المثلى تقديم سكن حداثي للطبقات العاملة. بالإضافة إلى ذلك، تم إجلاء ما يقرب من 1.3 مليون شخص آخرين ما بين أوائل الخمسينات ومنتصف السبعينات لإفساح الطريق أمام المساكن الجديدة. حيث ظهرت بلوكات من الأبراج شاهقة الارتفاع لتحل محل التجمعات السكنية المكونة من العشش والبيوت المتواضعة.
وقد قامت أستراليا بتجربة نموذج يعتمد على التوسع الأفقي – وليس التوسع الرأسي كما فعلت بريطانيا – مفضلة دفع فقراء الحضر إلى ضواحي المدينة. أحد الاستثناءات الرئيسة في هذا هو مبني سيريوس Sirius في سيدني، ذلك المبني المحبوب الآن من قبل المهندسين المعماريين كمثال على فترة الشراسة والوحشية العمرانية في السبعينيات. كما هو مهدد بالهدم من أجل إعادة تنمية المنطقة. وتجدر الإشارة إلى أن وجود هذا المبنى يرجع إلى إقامته فوق الأحياء الفقيرة التي تم إزالتها.
وقد كانت معظم هذه المساكن العامة الحديثة أقل قبولًا لدى قاطنيها والجيران المحيطين. وكانت الرؤية الأصلية لمخططي هذه المدن والمهندسين المعماريين، هي أن تلك النوعية المعدلة من المساكن يجب أن تكون للجميع. وقد كان واضحًا أن هذه النمط هو النمط السوفيتي والذي كان أقل انتشارًا في الدول الاسكندنافية الديمقراطية، حيث مازال العديد من أفراد الطبقة المتوسطة يعيشون في المساكن العامة. لكن في العالم الناطق باللغة الإنجليزية، انتهى المطاف إلى أن يكون الإسكان العام المخطط مكانًا للفقراء فقط. أما الأشخاص الذين صمموا وخططوا لمثل هذه المساكن لن يعيشوا فيها أبدًا. لقد تطلب بناء هذه العنابر (المستودعات) العمودية الجديدة تدمير المجتمعات القائمة ليؤدي في النهاية إلى تحسن لا يُذكر في حياة الناس.
جزء من سبب فشل أبراج الإسكان العام هي أن التخطيط المركزي عادة ما يفشل. يجدر بنا أن نتذكر أن المنازل المتلاصقة في العصر الفيكتوري أنشئها مطورون عقاريون من القطاع الخاص وليس مؤسسات حكومية (وبالتالي فهي استجابت إلى حد ما لمتطلبات السوق). يشير ماين إلى أن هذه المنازل المتلاصقة والتي كانت في وقت ما سكنا للعمال أصبحت مرغوبة بشدة من قبل المهنيين منذ سبعينيات القرن العشرين، مع الإحلال الطبقي للأحياء الصناعية. كما أن المنازل المتلاصقة لم تختلف عن منازل الصفوة إلا في الحجم. المنازل الأفقر كانت أصغر وأكثر اكتظاظا ولكنها مميزة. أما الأبراج الأكثر قتامة ومشاريع الإسكان العام فلا يربطها إلا القليل بأي مكان يقيم فيه أفراد المجتمع الأكثر يسرا.
بالنسبة لسكان هذا النظام السكني الجديد الخاص بالقرن العشرين، لم تولد تلك الإبراج امتنانا لإحسان الدولة بل على العكس تماما ربت الكراهية واليأس. أثبت معمارها أيضا أنها تُفضي إلى الجريمة – كونها أبراج متعددة بممرات علوية توصلها ببعضها البعض يجعلها أكثر عصيانا على الرقابة الشرطية من الشوارع ذات المنازل المتلاصقة. انتهى عنصر الرقابة المجتمعية – “عين على الشارع” على حدّ تعبير جين جاكوب. كان الدواء في هذه المحاولة المعمارية لتدارك الفقر أسوأ من الداء. وهي حقيقة نالت اعترافا متأخرا حيث تمت إزالة تلك الأبراج عبر العقد الماضي واستبدالها بمشاريع منخفضة الارتفاعات بمقاييس آدمية.
كانت كلمة “عشوائيات” سلاحا استخدمه مخططو المدن لتبرير إزاحة مجتمعات الطبقة العاملة لحساب “إعادة التنظيم الحضري” – حتى وإن كان السكان راضين تماما. وكما يشير ماين، فإن بعض المناطق التي أُنقذت من منجل المطورين أصبحت الآن مرغوبة بشدة.
يُرينا ماين أيضا أنه قد تم التوقف عن استخدام كلمة “عشوائيات” في المناقشات في الغرب منذ ستينيات القرن الماضي، وقد تم استبدالها في بعض الأحيان بكلمة “جيتو”، بينما تزداد الصبغة العرقية لفقر جوف المدينة في الولايات المتحدة وتطورت المدن حول محور حدود المناطق التعليمية في شيكاجو خاصة بعد فترة “الهروب الأبيض” والتي استفحلت بسبب أولويات الحرب الباردة. كانت حكومة الولايات المتحدة قلقة على الضحايا المحتملين لضربة نووية على مدنها الكبرى وشجعت المصانع والمكاتب في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين على الانتقال إلى الضواحي، وأخذ موظفيها “البيض” معها. وجد من تم تركهم في المدن (الأقليات في العادة) فرصا أقل للعمل، بالتزامن مع تفريغ المدن.
كان الحكم على أي منطقة أنها عشوائية يجب تدميرها أو مجتمع يجب الحفاظ عليه دائما حكما منحازا. إن المنظر المؤذي للعشوائيات بالنسبة للناظر هو جزء محوري من القضية. ولم يخطئ ماين حين أشار أن الإلحاح في إزالة العشوائيات عادة ما يرتبط بالقيمة التجارية للأرض المقامة عليها ولا تؤدي بعض الإزالات – مثل إزلة مدن الصفيح في البرازيل – سوى إلى خلق عشوائيات جديدة أكثر بعدا عن المدينة. من بعض أهداف هذه الإزالات، التخلص من الأشخاص غير المرغوب فيهم بنفس قدر الرغبة في التخلص من السكن غير المرغوب فيه. (وهنا تستدعي الذاكرة أساليب بعض المدن التي تستضيف الأولمبياد حين تُبعد المشردين عن النظر – ولا يكون هذا اكتراثا بالمشردين وإنما بالزائرين الذين قد يستاؤون لرؤيتهم).
***
لا يستاء البعض من رؤية العشوائيات. بل إن البعض يبحثون عنها. تمتد مناقشة ماين للعشوائيات حتى سياحة الفقر والتي تزدهر اليوم كما كان الحال في نيويورك ولندن في القرن التاسع عشر. ظهر لفظ slumming ليصف رحلات اليوم الواحد والتي تتضمن المرفهين وهم يحملقون في سكان مدن الصفيح والأحياء العشوائية. ويقدم المشاركون فعلهم هذا على أنه بحث عن الأصالة – رغبة في رؤية ريو أو دلهي “الحقيقية” بدلا من فنادق المدينة الفخمة. وهذا بغض النظر عن أنه من غير المرجح أن يقوم هؤلاء السياح برحلات إلى الأحياء المحرومة في مدنهم – وفي بعض المدن أصبح فزعهم مما شاهدوه محفزا على الإصلاح الإجتماعي.
وكما يوضح ماين، كان هناك دائما بعض التوتر بين فكرة أن ممارسي “العشوأة” سياح مستغلين وبين كونهم وكلاء محتملين للإصلاح. ففي النهاية كان المصلحين الاجتماعين هم من ذهبوا لممارسة “العشوأة” في الحي الشرقي ] من لندن[ ليفضحوا الظروف الحياتية المتدنية في لندن. تبدو سياحة الفقر المعاصرة أقل إلهاما.
سويتو هي أكثر وجهات السياحة شعبية في جوهانزبرج حاليا بالنسبة للسياح من خارج البلاد. يوجد شيء جذاب في قشعريرة الخطر. رجفة يسببها الفقر – ثم العودة إلى السيارات المكيفة للفرار من هناك. كتب أحد المدونين التالي عن زيارته إلى سويتو:
“أظن أن من المفيد استخدام شركة سياحة تمزج بين أبرز ما في سويتو مع المعالم الأقل شهرة لأن ذلك سيعزز من التجربة الثقافية. لكن من الضروري الانتباه إلى أن أغلب المرشدين السياحيين حريصين على أن “تقابل الناس” مما يؤدي إلى أن تترك “تبرعا” أو تشتري منتجات حرفية محلية. ومع أن تلك الممارسة تضخ بعض المال إلى المناطق السكنية مباشرة، إلّا أنها كثيرا ما تترك عند السائح شعورا بأنه قد تم الضغط عليه وأنه مستضعف – فتخيل كم سيكون شعورك أسوأ إن لم يكن لديك حتى مرشد سياحي تلجأ إليه”.
نعم، تخيل كم سيكون شعورك أسوأ بدون مرشد سياحي يحميك من السكان الأصليين الشرهين الذين تتعامل مع منازلهم على أنها عرض غرائبي.
سياحة العشوائيات موجودة لأن العشوائيات تعمل في المخيلة الثقافية كأماكن يجب مشاهدتها. نعم فالحي العشوائي كلمة توحي بالاحتقار – وأيضا غير موضوعية فتختلف من وقت لآخر ومن مكان لمكان – بشكل مشابه إلى حد كبير لكون الفقر نسبي. فيمكن اعتبار “خط الفقر” في أوروبا الغربية هو وضع حياة الطبقة الوسطى في البلاد الأكثر فقرا. إن نظرتنا إلى العشوائيات تعتمد على ما نظن أنه الحد الأدنى لمستوى المعيشة (خاصة بالنسبة لمن يختلفون عنّا) أو ما نتوقعه من الدولة فيما يخص توفير المسكن.
يغضب ماين، كما يجب أن نغضب جميعا، من الظروف المعيشية في العشوائيات والمعاملة التي يلاقيها سكانها – وخاصة أن مناطق معينة تصنف على أنها عشوائية. ولكن العشوائيات في حد ذاتها ليست دليلا على تنامي الفقر بشكل عام ولكنها دليلا على نمو المدن. إن ثراء المدن – والتوظيف – هو ما يغذّي تطور العشوائيات. عادة ما يكون سكان العشوائيات نازحين جدد إلى المدينة إما من الريف أو حتى من بلد آخر. لقد أختاروا أن يأتوا في أحوال كثيرة. ولا يعني هذا أن نقول إنه لا يجب تحسين أحوالهم المعيشية ولكن هو تأكيد على أن السكن في العشوائيات ليس بالضرورة قدرا جزافيا يصيب سيئي الحظ. إحدى التصورات الخاطئة التي يبرزها ماين هي النظر إلى سكان العشوائيات على أنهم ناقصي الأهلية ومع ذلك فإنه يقدمهم في جزء كبير من طرحه على أنهم ضحايا.
يستبعد ماين فكرة أن العشوائيات في نيويورك في القرن التاسع عشر كانت محطة استقبال للمهاجرين الذين سيصعدون في المجتمع ولكن ذلك لا يعني أن ما سبق لا ينطبق على الكثيرين. قامت العائلات الأيرلندية والإيطالية واليهودية التي تزاحمت في مساكن الجانب الشرقي الأسفل في نيويورك منذ مئة سنة برحلة اقتصادية موازية للتي يقوم بها الريفيون الهنود الذين يتزاحمون في عشوائيات دلهي اليوم. الأسئلة التي يجدر أن تُسأل بدلا من النظر إلى كلمة “عشوائيات” في حد ذاتها على أنها ذم هي: لماذا لا يزال الناس ينتقلون إلى العشوائيات، لماذا ينظر إليها عادة على أنها هدف لفقراء الريف؟ وإن كانت العشوائيات تظهر عندما ينتقل الناس بشكل جماعي إلى المدن فهل يمكن أن نمنع الناس من الانتقال إلى المناطق الحضرية؟ أغلب أصحاب العقلية الليبرالية سيجيبون بـ لا. الصين تحاول عبر نظام من جوازات السفر الداخلية ومع ذلك لايزال لديها تعداد غير رسمي ومتنامي من السكان المختفين (والقاطنين في العشوائيات) في المدن الكبرى. في الكثير من الحالات منع العشوائيات أو نقل سكانها سيكون بمثابة دفعهم بعيدا عن أعمالهم.
لدي أمل أكثر من ماين في مستقبل سكان العشوائيات. العشوائيات مقترنة بالتمدن ولكنها أيضا مقترنة بالطفرة السكانية – تصادفت عشوائيات أوروبا المرتبطة بالتصنيع في القرن التاسع عشر مع زيادة في السكان. الكثيرون الذين يزدحمون في الدول النامية يعيشون اليوم بفضل انخفاض معدل وفيات الأطفال – حتى في أكثر الدول فقرا يبقى عددٌ من الأطفال على قيد الحياة أكثر مما كان عليه الحال من جيل واحد مضى. ومع ذلك وبينما يتضخم تعداد السكان حول العالم تبقى الدلائل المستقبلية جيدة. انخفض عدد الأشخاص الذين يعيشون في فقر مدقع من 1.6 مليار شخص إلى 800 مليون شخص. ولكن نسبة الفقراء الذين يعيشون في المدن نمت مع زيادة التمدن في الدول الأكثر فقرا وبالتالي ينمو عدد سكان العشوائيات.
يعاني ماين أحيانا من تناقضات أطروحته “عقلية العشوائيات”: ولكن ربما كان هناك بعض من الحقيقة خلفها. “العشوائيات بؤر جهنمية وأوكار جريمة”: تمييز ظالم، ولكن النظر إلى العشوائيات على أنها مجتمعات بديلة منتعشة هي نظرة ساذجة ومثالية. من المرجح بالفعل أن تتصف الأحياء العشوائية بمعدلات جريمة أعلى من الأحياء الأخرى. كون كلمة “حي عشوائي” هي ذميمة في حد ذاتها حسبما يرى ماين فلا يجب أن تستخدم. ولكن نظرا لطبيعة اللغة فأنا متشككة بما يكفي بأن أؤمن بأن أي لفظ سيستخدم للتلطيف يتم تبنيه سيحمل فيما بعد بنفس المدلولات التحقيرية وسيثقل بنفس الافتراضات. لقد استُبدلت عبارة العالم الثالث بعبارة “الجنوب العالمي” وهي بالإضافة لكونها تعتمد على المركزية الأوروبية بجنون (هل نصف القارة الجنوبي بأكمله متأخر؟) فهي مبهمة بشكل غير مفيد. هل يجب استبدال كلمة العشوائيات بعبارة مثل “المساحات السكنية المعوزة”؟. بالإضافة إلى ذلك فإن أيّ كانت العبارة المستخدمة، فمؤكد أن المشاكل الحقيقية لمن يعيشون هناك هي عدم توفر المياه النظيفة والمأوى الكافي – وليس أن أحدهم يصف مكان سكنهم في تقرير للأمم المتحدة بأنه “عشوائيات”.
* باحث دكتوراه في علم الاجتماع Mohammedezz2020@gmail.com
[1] يُترجم مصطلح Slum بالتبادل إلى “عشوائيات”، “عشوائي”، “مكان عشوائي”، “حي عشوائي” بحسب السياق في هذا المقال، والمعيار في اختلاف الترجمة بين المواطن المختلفة هو تقديم المعنى الأدق للمصطلح إلى القارئ [المُحرر].
* هي عملية ترميم المنازل والمحلات في الأحياء الحضرية المتدهورة من قبل الأسر ذات الدخل المتوسط والمرتفع، مما يترتب عليه ارتفاع في تكاليف الإيجار والمعيشة، الأمر الذي يؤدي بدوره إلى تشريد الأسر ذات الدخل المنخفض (فريق الترجمة).
* جاكوب رايز هو مصلح اجتماعي أمريكي من أصل دنماركي، اشتهر بتكريس مهارته الصحفية في التصوير وكتابة المقالات لإصلاح الأوضاع الاجتماعية للفئات البائسة التي كانت تعيش في الفقر المدقع في نيويورك في القرن التاسع عشر. ويعد كتابه “كيف يعيش النصف الآخر” خير مثال على ذلك، حيث وثق فيه رايز ووثق الظروف المعيشية الرديئة في الأحياء العشوائية في مدينة نيويورك في عام 1880.
تعقيب: الكلاب في الحطابة.. كيف يتعايش الإنسان والحيوان في حواري القاهرة الشعبية؟ أخبار وطنية – أخبار وطنية
تعقيب: الكلاب في الحطابة.. كيف يتعايش الإنسان والحيوان في حواري القاهرة الشعبية؟ – عاجل | نيوز بيبر