ما هي الطبقة الاجتماعية؟ “سكة المعارف” عن مفهوم الطبقات قبل كارل ماركس وبعده

عرض – هيثم خيري

الدكتورة ملك رشدي: ماركس رحل قبل أن يعرّف الطبقة.. وماكس فيبر استكمل مشروعه
الدكتورة ريم سعد: بداية التسعينيات كانت مرحلة أخطر من انفتاح السبعينيات مع التحول لـ “النيوليبرالية”

يخوض مشروع سكة المعارف هذه الأيام سجالات ناعمة من الاشتباك مع مفهوم الطبقات الاجتماعية والتدرج الاجتماعي وما يسمى بالحراك الاجتماعي.

ما الذي يدفعهم لهذا الحديث أصلا؟

الأسئلة الخاصة بالطبقات تبدو معروفة سلفا، والإجابة عنها تبدو معروفة أيضا، صحيح جدا.. أتفق مع من يرى مثلي الأمر من هذه الزاوية، لكن في السطور التي قد تقرأونها بعد قليل، هنا في هذا المقال، الذي يتابع عن كثب ما دار في جلسة سكة المعارف حول “التدرج الاجتماعي والطبقة”، قد تجدون إضافات عديدة ورؤى مغايرة لا تزال بحاجة للقراءة والبحث والتأصيل أيضا، وقد تكتشفوا أن نظرة “ميكروسكوبية” واحدة كفيلة بإنعاش عقولنا للعودة إلى التفكير والقراءة.

تبدأ الدكتورة ريم سعد، أستاذة الأنثربولوجيا بالجامعة الأمريكية التقديم للسيمنار، ثم تليها الدكتورة ملك رشدي، أستاذة علم الاجتماع بالجامعة الأمريكية كمتحدثة رئيسية، استنادا إلى ثلاث قراءات.

ريم سعد تفتح النقاش
تبدأ ريم سعد متحدثة عن سيمنار سكة المعارف، والكلام في الفقرات التالية من نصيبها:

نذكركم بالفكرة الرئيسية للقاءاتنا، وهي “كيف نقرأ المجتمع المصري؟”

img_0024

صورة أرشيفية من لقاءات سكة المعارف

نحاول قراءة أشياء نظرية ومفاهيمية، ونسعى لتطبيقها على ما نراه في المجتمع من تجليات على الأرض.. اليوم هانتكلم عن التدرج الاجتماعي، والطبقة، وأول سؤال هانحاول التفكير فيه هو “ليه؟ إشمعنى” نركز على مسألة الطبقة؟ كما سنفكر في انسحاب مفهوم الطبقة، ليس فقط على الدراسات الأكاديمية، وإنما الخطاب السياسي والاجتماعي العام.

نسمع كلمة الطبقة الوسطى في التليفزيون ووسائل الإعلام، إنما لم يعد أحد يسمع كلمة الطبقة العاملة، ولم يعد خطابا سائدا، هذا التغييب لما يسمى بالطبقة العاملة ينسحب على أسئلة أخرى لها علاقة بالعدالة الاجتماعية والظلم والمساواة.. اللامساواة تعني بالضرورة أن هناك مجموعات لديها نفاذ متفاوت للقوة والسلطة والمال.

فيما يخص مسألة الطبقة سنجد الشكل الكلاسيكي للطبقة مرتبط بالعامل الاقتصادي، وفي ذهننا فكرة “التقاطعية” فيما يخص مفهوم الطبقة، من بينها العمر والعامل المكاني (ساكن فين) وغيرها من العوامل اللي بتتقاطع وبتحدد أكتر مكان الفرد في الطبقة.

ملك رشدي واكتشاف عوالم الطبقة
اخترنا فصلا من دراسة لباحث الاجتماع المعروف أنتوني غيدنز، وهو صاحب مدرسة في علم الاجتماع، وفي رأيي إن الكتاب ده كله رائع، لأنه بياخدنا في رحلة لاكتشاف عوالم من خلال مصطلحات بشكل سهل وحي. الأمثلة اللي أعطاها بالطبع جاءت من أوروبا وبلاد أخرى، وده طبيعي، إننا نشوف ما يحدث في مجتمعات أخرى، ومن الوارد يجعلنا نشوف تجارب تانية وتجاربنا أيضا.

anthony-giddens-header

أنتوني غيدنز

التدرج الاجتماعي إشكالية مطروحة من زمان، وتسعى لفهم التركيبات الاجتماعية المختلفة عبر الأزمنة في حضارات مختلفة، وما يهمنا هو معرفة كيف يوجد لامساواة في المتجمعات، خاصة وإنها حاجة مش جديدة وتحدث طوال الوقت بدرجات مختلفة.

في العلوم الاجتماعية التدرج الاجتماعي اتقسم لأربع أنواع أساسية: مرحلة المجتمعات التي يحكمها العبودية، والمجتمعات الإقطاعية، والمجتمعات المغلقة، ثم الطبقات الاجتماعية اللي عرفناها في العصر الحديث بمفهوم الطبقة.

العبودية هي ببساطة شديدة امتلاك البشر وامتلاك حقوقهم، وبتاخد أشكال متعددة، بمعنى إن أمريكا مثلا أوقات المستعمرات كان الفرد عبارة عن شيء يتم امتلاكه كعبد، وبالتالي لم يكن له أي حقوق، ولو خدنا فترة زمنية قبلها لدى الإغريق، كانت العبودية قائمة في أثينا، لكن العبد كان له حقوق وامتيازات وممنوع عنه بعض الامتيازات مثل التجنيد والعمل بالسياسة، ثم نأتي للطائفة المغلقة وموجودة في الحضارة الهندية تحديدا، وده نظام مغلق تتحدد فيه المكانة الاجتماعية عند الميلاد وتبقى ثابتة لا تتغير مدى الحياة، ثم نظام الإقطاع واللي نشأ في أوروبا تحديدا، وساد هذا النظام في العصر الإقطاعي في أوروبا وتميز بتفاوت الحقوق والواجبات للفئات المختلفة تجاه بعضها البعض.. في هذا النظام انتقال الشخص من فئة اجتماعية لأخرى كان ممكنا ولكن بصعوبة عن طريق الزيجات تحديدا، وكان يحكم النبلاء العامة، وكان العامة لهم دور محوري في الثورة الفرنسية تحديدا.

في الفترة الحديثة ظهر ما يسمى بالطبقات، وهي ما يهمنا الآن، وتعريفها الأوّلى أنها مجموعة من الناس يشتركون في نفس الموارد الاقتصادية والتي تتحدد على أساسها أنماط حياتهم الممكنة، صحيح لا تتحدد بالقانون أو الدين، وتعتمد على التمايز الاقتصادي بين المجموعات، سواء في شكل الملكيات أو مدى إمكانية الفرد للحصول على الإمكانيات المادية.

ماركس ورأس المال
لو وضعنا الطبقة في إطار التدرج الاجتماعي، سنجد أن الطبقة ترجع بالأساس لكارل ماركس، رغم إنه لم يعرفها، لكنه عمل شروحات طويلة لها، وفي “رأس المال” كان على وشك إنه يعرّف الطبقة ثم مات، وبالتالي مسألة الطبقة فتحت مجالا واسعا جدا للمناقشات لم تنتهى إلى الآن.

Karl_Marx.png

كارل ماركس

ممكن نقول إن المفهوم الكلاسيكي للطبقة أنها تعتمد على العلاقة بين وسائل الإنتاج، وأي علاقة إنتاج قائمة على “العمالة”، وصاحب الإنتاج هو الذي يتحكم في العامل لاستخراج فائض القيمة، وما كان يهم ماركس تحديد السبب الرئيسي وراء انعدام المساواة.

ماركس يعتبر أحد التفسيرات المهمة جدا للطبقة الاجتماعية، إلا أن ماكس فيبر صديقه، كمّل المشروع، وقرر يقلب فكرة “الطبقات”، هو بالمناسبة مش ضدها، إنما شاف إن الطبقة تفسير محدود للتركيبة الاجتماعية؛ لأنه لا يرى أشياء مهمة جدا غير ملموسة ولا نستطيع توضيحها بشكل كمي أو تراكمي، كما أنها (أي الطبقة) ليست محسومة.

eow-B&W

إريك رايت

ماكس فيبر أكد على علاقات أكتر متعددة الأبعاد للتدرج الاجتماعي، بدلا من التفكير في إن الطبقة شيء موضوعي بحت، وإنها ناتجة عن ظروف اقتصادية بحتة، وبالتالي مرتبطة فقط بالعلاقات مع وسائل الإنتاج.. فيبر شاف إن هذا الأمر لا يكفي، ووضع اعتبارات كتير جدا.

المجتمعات الحديثة في تحولاتها مثلا، كيف نراها؟

فيبر قال إن فيه علامات تضعها المجتمعات نفسها تشرح المستوى الاجتماعي والمكانة، ورأى أن التزاوج مثلا ممكن يؤدي للصعود الاجتماعي، بالإضافة للعلامات الكثيرة جدا التي تدل على المستوى الاجتماعي لكل فرد، وشاف إن فيه أبعاد ذاتية كثيرة مثل نوع العربية والمظهر العام للشخص وغيرها من العلامات المهمة الذاتية الأخرى في فهم التدرج الاجتماعي.

في نفس الوقت، تشير فكرة الجماعة إلى ارتباطات الإنسان اللي ممكن يعملها وداخلة في نشاطه الثقافي والاجتماعي.. هذه الأمور مجتمعة وصّلتنا إلى محاولة تحديد هذا الكلام، حتى ندرس المجتمعات التي خرجت بعد الحرب العالمية الثانية.

في هذا السياق حدد عالم السوسيولوجيا إريك رايت حدد 3 محاور مهمة: علاقة الإنسان برأس المال، ثم علاقة الإنسان بالإمكانيات المادية المتاحة، ثم علاقته بالعمل.

واحدة زي حالاتي، أستاذة جامعية في الجامعة الأمريكية، موظفة في نهاية الأمر، لا أملك الجامعة وبالتالي لا أملك سلطة عليها، ولا أملك الموارد المادية بالجامعة ولا أشترك فيها وإنما أحصل على راتب شهري، كما أن ليس لي علاقة مباشرة بالعمال.. فيبقى إيه الوضع بقى؟

طبقة غير متجانسة
إريك قال إن الطبقى الوسطى لا تستطيع السيطرة على رأس المال والعمال والإمكانيات المادية، وفي نفس الوقت لديها سلطة أيضا بشكل ما.

ثم جاء علماء اجتماع آخرين فكروا في الطبقة المتوسطة على الأساس الوظيفي، ووصلوا في هذا الأمر لـ 7 فئات مختلفة تبدأ من المديرين الكبار ثم الأقل مكانة منهم، ثم العمالة المنتظمة وغير المنتظمة وغيرها، ودي الأفكار اللي جسدها ممارسات زي مكتب العمل والقوانين المنظمة للعمل وغيرها.

ومن خلال دراسات شبيهة بهذه الدراسة بدأ الاهتمام بالطبقة المتوسطة.

الطبقة المتوسطة مع الوقت كبرت لكنها غير متجانسة في نفس الوقت، وفيها سيولة عالية جدا، وبالتالي ممكن تتشكل أو تعيد تشكيل نفسها وتتغير حسب الظروف، كما أن مراقبتها أو متابعتها ليست عملا سهلا.

أما الطبقات الدنيا فهي الطبقات اللي مقفول عليها الطريق تماما والحراك الاجتماعي بالنسبة لها شديد الصعوبة، فهي طبقة لا تملك أدوات الإنتاج ولا رأس المال، كما أنها غير مؤهلة تعليميا أو مهنيا للصعود، وبالتالي يصعب تصعيدها لمستوى أعلى.

الآن تظهر إشكالية أخرى: هانعمل إيه في علاقة الطبقة بالثقافة مثلا؟

ولو قلنا إن الطبقة المتوسطة غير متجانسة هاتعامل معاها إزاي؟ أحد المعايير اللي ظهرت أواخر السبعينيات كانت علاقة الطبقة بالسوق وعلاقتها بالاستهلاك، وهذين عاملين دخلا في المعادلة، كعلامات لمعرفة سمات الطبقة نفسها. وهذا الاتجاه اتخذته فيما بعد الشركات لتسويق منتجاتها.

التحدي الآخر في مسألة تحديد الطبقة هو الجندر، أو النوع الاجتماعي، فالأسرة التي تعولها امرأة غير حال المرأة المعيلة، وهنا يصعب تحديد وضع المرأة داخل الطبقة الواحدة سواء الدنيا أو المتوسطة، كما إن فيه بعد آخر مهم يجعل مسألة تحديد الطبقة أكثر صعوبة وهي الحراك الاجتماعي، لأن الحراك لا يأتي فقط صعودا للأعلى وإنما أيضا نزولا للأسفل، وقد يحدث أن يتذبذب أفراد العائلة الواحدة بين هذا وذاك.

الحراك الاجتماعي له أكثر من بعد: صعودا وهبوطا، والمكاني الجغرافي، والحراك الذي يتم عبر أجيال مختلفة في نفس العائلة.

كل هذا يطرح السؤال الأخير: هل نطيح بمفهوم الطبقة؟ أم نستمر بها؟ هذا السؤال تطرحه ويندي بوترو، وترى أن مفهوم الطبقة يجعل الناس قوالب جامدة، ولذا ترى أننا يجب أن نتعالى على هذا المفهوم قليلا لتشريح “كيف نعيش الطبقة وكيف نمارسها؟”

Max_Weber_1917

ماكس فيبر

بيير بوردو بيسأل في هذا السياق: إزاي أدرس الفرد في علاقته بالبنية الاجتماعية الأوسع، اللي بتأثر على ممارسته لحياته اليومية وتخليه يبتكر أشياء ويعيد إنتاجها، وبالتالي يحدد نفسه وهويته ووضعه الاجتماعي.

تسعينيات رشدي سعيد
تعود ريم سعد لتقود النقاش، فتقول:

حين نتحدث عن المجتمع المصري المعاصر مهم أن نرجع لتاريخين مهمين: منتصف السبعينيات مع بداية الانفتاح، وبداية التسعينيات وهي البداية الحقيقية للاقتصاد الحر والافتتاح الرسمي للمرحلة النيوليبرالية. في هذا التوقيت ظهر حديث واسع النطاق عن أزمة المجتمع، وجزء كبير من الموضوع كان له علاقة بأنواع جديدة من الحراك الاجتماعي، وصعود ناس لا يصح لهم الصعود بالأساس خاصة في منتصف السبعينيات.

مع الانفتاح حصل حراك اجتماعي للصنايعية والميكانيكية والحرفيين عموما، واختلت قيمة الشهادة والمكانة الاجتماعية “المترستقة” للطبقة الوسطى، وابتدت الطبقة الوسطى تتغير، وظهر كلام كتير عن “ماذا حدث وكيف”؟

في التسعينيات كانت لحظة أخطر، رغم أنها لم تشهد أحاديث ضخمة مماثلة لفترة السبعينيات، لأنها سمحت باستحواذ مجموعة قليلة من المواطنين على كم كبير جدا من الثروة وصعودهم المفاجئ وأغلبية من المواطنين نزلوا تماما، نتيجة لسياسات فتح السوق وانسحاب الدولة من توفير الخدمات والخصخصة والهيكلة، فأصبح الناس اللي عندهم نوع من الأمان “منهم للسوق يتصرفوا معاه”، وكان مشوه جدا بالمناسبة.

2بيير-بورديو

بيير بورديو

التسعينات كان عقد غريب، والمهمومين بالسياسة كان لديهم تحفظات تجاه انعدام العدالة الاجتماعية والبؤس، ولم يكن هناك منصات كثيرة للكتابة، وتأتي مقالة رشدي سعيد في هذا السياق، وهو بالطبع كان أستاذ جيولوجيا مهم، ولديه اهتمامات عامة سياسية غير حزبية في الوقت نفسه.

مقال “الحقيقة والوهم في الواقع المصري” في هذه اللحظة استقبل بحفاوة واهتمام شديد، وأرجو أن ننظر للطرق اللي استخدمها رشدي سعيد وهو يقيس التفاوت الاجتماعي، استخدم تعبير “الكتلة الطافية” وهم اللي على وش الدنيا و”الكتلة الغاطسة” الطبقة الدنيا بالطبع.

استخدم مؤشرات ليست دارجة أو مألوفة مثل المسح السكاني الإحصائي لعدد السكان الذين لا يملكون دورات مياه في منازلهم، وعدد السكان الذين ينشر نعيهم في “الأهرام” وكانت علامة مميزة على وضع طبقي معين آنذاك، وعلى هذا الأساس استطاع إظهار أن هناك تفاوتا طبقيا كبيرا.

وقال إن الطبقة الطافية تستهلك موارد ضخمة جدا على حساب الكتلة الغاطسة، وقسم الأغنياء إلى 3 مجموعات: الأغنياء جدا، وعدد مصادر دخولهم من أنشطة مشروعة وغير مشروعة وغير مهتمة بإعادة إنتاج نفسها، وإن لديهم علاقة غير مستقرة مع الثروة (فلوسهم في الخارج مثلا)، ثم الأغنياء اللي في حالهم، ثم الشريحة الوسطى من الكتلة الطافية اللي داخل فيهم أساتذة الجامعة والصحفيين واللي بيشكلوا الرأي العام، وهم الأعلى صوتا بالمناسبة.

.