عن نشأة وتطور القومية.. من الثورات الكبرى إلى كتب المدارس – تراجع اللاتينية كلغة مقدسة كان أحد أسباب قيام الثورة الفرنسية – الحديث عن “الأمة” يستدعي فكرة الأبدية والأزلية وامتدادها عبر الزمن – خالد فهمي تعرض للانتقاد لأنه “تجرأ” على سرد تاريخ محمد علي الحقيقي.
عرض ـ هيثم خيري:
ما هي القومية؟ لماذا تكاد تجمع دول العالم على النزعة القومية؟ ولماذا تستدعي الدول كل هذه الأغنيات والمواويل والأفلام والرموز والشعارات واللافتات لاستحضار الروح القومية لدى شعوبها؟ هل تتأسس القومية على اللغة المشتركة والعرق والتاريخ المشترك فقط؟ والسؤال الذي يبدو أكثر أهمية في نقاشنا التالي: كيف نشأت القومية؟
تسعى هذه الجلسة النقاشية من مشروع “سكة المعارف“، الذي تنظمه وتستضيفه جمعية النهضة بالفجالة (مصر)، للإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها، استنادا إلى ثلاث قراءات تطرح رؤى مختلفة عن مفهوم القومية، أولها كتاب “الجماعات المتخيلة.. تأملات في أصل القومية وانتشارها” للمؤرخ بندكت أندرسون، وثانيها فصل من كتاب “محمد علي وعصره” يحمل عنوان “الجيش: دعامة مشروع محمد علي” لباحث التاريخ البارز الدكتور خالد فهمي، وأخيرا مقال للروائي عز الدين شكري فشير بعنوان “التربية القومية“.
تستعرض الدكتورة ملك رشدي، أستاذة علم الاجتماع بالجامعة الأمريكية، في النصف الأول من “السيمنار” ما طرحه بندكت أندرسن في كتابه، بينما تقود الدكتورة ريم سعد، أستاذة الأنثربولوجي بالجامعة الأمريكية، النقاش في النصف الثاني من الجلسة حول دراسة د. خالد فهمي.
في السطور التالية سيسعى كاتب هذا المقال إلى نقل النقاش بلغته العامية المصرية كما قيل، دون إضافات أو حذف قدر المستطاع.
ملك رشدي تسرد تاريخ “أندرسن”:
الموضوع اللي بيطرحه أندرسن فكر فيه بشكل غير مباشر على مدى حياته التي قضى معظمها في الغربة بين الأوطان والبلاد.. وهو “تاريخ القومية”.
معظم اللي إتعلم في المدارس المصرية أو غير المصرية قضى مراحل دراسته يغنّي النشيد الوطني ويحيّي العلم، أو اللي درس تربية وطنية وفيما بعد التربية القومية عرف ما معنى القومية.
وأنا صغيرة سألت نفسي سؤال: هل فيه معنى أني أسلم على العلم وأقول النشيد الوطني كل يوم، وليه باخد تربية قومية أو وطنية؟
الحقيقة إن أندرسن لما أصدر الكتاب وقرأته بعدها بكذا سنة، وضح لي حاجات كتير، من بينها: ليه بضطر أفكر بطريقة معينة، ورد فعلي يكون تلقائي حول مصر وقضايا خاصة بالوطن العربي، أو لما حد فينا يسمع أغنية ما بتخليه يتأثر بهذا الشكل.
نشأ أندرسن في عائلة لديها حس وطني جارف ونزعة قومية عالية، ووقت الحرب العالمية الثانية انتقل إلى أمريكا وكمّل دراسته، ودرس التاريخ والعلوم السياسية.. اطلع أندرسن بحكم دراسته واللغات العديدة التي يتحدث بها على ثقافات العالم.
سنة 1983 قام بتأليف هذا الكتاب، ولما سئل في برنامج أجراه التليفزيون الهولندي معه عن تسمية الكتاب وسبب نشره، قال: طبيعي أنا واحد في حتة مش مريحة أبدا، مليش بلد، مليش انتماء بعينه، بل لي انتماءات متعددة وكل حتة بروحها بحس إني مش عايش في بيتي.. يعني إيه أوطان أو أمة؟ من هنا جاء التساؤل عن ماهية القومية، وحاولت أبحث عن تصور وتفسير لماهية الشيء الذي لم أعيش فيه.
حضر أندرسن حرب فييتنام وشاف كل الحركات التحررية التي حدثت تقريبا آنذاك، وتأثر بها، ووجد إنه مش بالصدفة كل الحركات التحررية اللي قامت وقتها تأسست على النزعة القومية، كما إن الدول التي تبنت الاشتراكية قامت على أسس القومية.
تعود د. ملك رشدي لتسأل: ما هو الوطن، الأمة، القومية؟ متى نشأت وكيف وما الملابسات السياسية والاجتماعية التي نشأت بها؟
كتير من الفلاسفة وجدوا صعوبة في وضع تعريف للقومية، وحتى الماركسية فشلت في إعطاء تفسير لظاهرة القومية، حسب كلام أندرسن، بل إن النظرية الماركسية فيها تناقض مع القومية.. تحدث ماركس عن الصراع القائم في فرنسا وأوروبا، لكنه لما بيتكلم مع الطبقة العمالية بيتحدث بصيغة إن لازم البروليتاريا تواجه البرجوازية المحلية.
ووصل أندرسن لوضع تعريف للقومية باعتبارها نتاج ثقافة وزمان ومكان وبالتالي بتتغير تبعا للتاريخ والزمن.
الجمهورية الفرنسية مثلا حين قامت، وظهر فيها بشكل واضح خصائص الجمهورية الفرنسية والقومية الفرنسية في القرن الثامن عشر. ولأن فيه قوى تاريخية وعوامل تفاعلت مع بعضها أدت لظهور هذه التعبيرات (القومية) وارتبط بها فئات مختلفة من المجتمع وتشبثت بها ودخلتها في الوعي الذاتي.
أندرسن بيقول إن القومية هي “الجماعة السياسية ولها سيادة ومحدودة بحدود جغرافية معينة”.. هو وصل لهذا التعريف، وقبله لم يجد المفكرون تعريفا واضحا للقومية، كما أن الفلاسفة وجدوا صعوبة في تعريف القومية لأسباب جوهرية، منها أن في الفترة بين القرن الـ 19 وما بعد ذلك كان المؤرخين بيشوفوا إن القومية هي تطور موضوعي بيمشي من نقطة إلى نقطة ويمكن قياسه.
القومية هي الطرق التي نتخيل بعض بها في حيز مكاني معين، في زمن ما، ونبدأ نخلق تاريخنا والعلاقات التي تجمعنا ببعض، ومن هنا فالجماعة (الأمة) في تقدير أندرسن لها 3 أبعاد: هي بالضرورة محدودة أي لها حدود جغرافية، ومحدودة بالتجارب التاريخية المشتركة، ولازم تبقى ذات سيادة على مصيرها وحاضرها.
فكرة القومية في تقديره ظهرت قبل وأثناء القرن الثامن عشر، في عصر التنوير والثورات وهبات الشعوب ضد الملوك، كل هذه الهبات كانت تزعزع من فكرة الملكية السلالية، وكانت مصاحبة لظهور فكرة التعدديات والرغبة في إنشاء كيانات بعيدة عن السلطة الدينية، واعادة النظر في الحياة الدينية اللي شايفة إن الحاكم يحكم بأمر إلهي، والأهم تفكك اللغة اللاتينية كلغة مقدسة.
كما أن الأمة يتم تخيلها على مبدأ الأخوة بين البشر بالرغم من وجود تمايز اجتماعي في نفس الجماعة.
النصب التذكاري
كل أمة لها نصب تذكاري: يعبر عن الموت والتضحية من أجل الآخرين، فكرة النصب تعطي معنى آخر للموت لأنه يعطي صفة الخلود والاستمرارية، وأن الوطن يعيش بينما الشخص يموت.
العلامات والرموز المشتركة بين الناس تخلق نوعا من التماسك، قصدي هنا اللغة بالأساس، خاصة فيما يخص الجماعات الدينية.. انهارت هذه الفكرة حين اكتشف الأوروبيون بلدانا أخرى مغايرة في الثقافة والدين.
من وجهة نظر أندرسن فيه أمرين تسببا في سقوط الملكية: ضعف الملكية نفسها، وضعف اللغة اللاتينية كلغة مقدسة، ما سمح بانتشار الكتب واللغات وبالتالي الثقافات، وعمل تشرذم للفئات اللي هذه الفئات موجهة لها، وتحويل التعليم إلى تعليم محلي، وظهور كتاب وشعراء كتبوا بلغاتهم وليس باللاتينية مثل شكسبير وفولتير، وهو ما أدى إلى إدراك مختلف للمجتمع.
ريم سعد وسرديات الوطن
إذا كنا بنتكلم عن الأمة باعتبارها رموز وجماعات متخيلة، لا يعني أنها خيالية بالضرورة.. هي متخيلة لكن تبعاتها محسوسة وموجودة ومادية ولها رموزها ودلالاتها.
شيرين “آه يا ليل” مثلا اتحولت للنيابة لأنها شتمت مصر، وشتمت النيل، وقالت إن فيه بلهارسيا، عملت حاجة مش تبع الموجة، ولأنها قلشت.. ظهرت أصوات كتير جدا بتطالب بالانتقام منها، لأنها مست رمز من رموز الوطن اللي هو النيل.
فيه مشاكل ضخمة جدا في الكلام عن القوميات باعتبارها قوميات متصارعة، ممكن نتكلم عن الهويات القاتلة أو بمعنى أدق: القتل على أساس الهوية زي ما كتب الروائي أمين معلوف في العديد من رواياته.
عاوزة أتكلم شوية عن سرديات وجود وبناء الأمة.. واضح جدا إن الأمة غير موجودة في الفراغ الجغرافي أو التاريخي، فكرة إن فيه أمة ما سواء مصرية أو اندونيسية أو غير ذلك فهي بالضرورة لها حكي تاريخي عن ذاتها كأمة، بمعنى أنها خاضعة لشروط مرور الزمن والتاريخ وكيف يحكي عنها الناس. الأمة بتتوجد في عملية تاريخية متغيرة، يعني الأمة المصرية مؤكد اختلفت من 50 سنة عن دلوقتي، وأيضا اختلفت الصورة المتخيلة عن مصر من 50 سنة إلى الآن، والمجتمع اللي كان عايش وقتها كان شايف مصر بطريقة، والآن إحنا شايفنها بطريقة تانية ومن منظور مختلف تماما.
من أهم الملامح السردية المهيمنة عن الأمة المصرية أنها قديمة للغاية، ربما أقدم من 7 آلاف سنة، ومعظم ما يخص الأمم لابد من وجود فكرة الأبدية والأزلية وأنها ممتدة عبر الزمن.
التجرؤ على محمد علي
نرجع لخالد فهمي وكتابه الشائك، تعرض الرجل لانتقادات واشتبك مثقفين وناس معاه باعتباره يشتم رموز الدولة، بينما بيركز خالد فهمي على بناء الجيش منذ أيام محمد علي، وأنه مرتبط بمصر القومية، وإن بداية تجنيد الفلاحين أنتج بالضرورة حس وطني وقومي ونزعة قومية لمصر، وهو كان شايف إن محمد علي بيبني الدولة لتوريثها لأبنائه.
كان فيه هجوم شديد على خالد فهمي لأنه انتقد محمد علي، أتاري محمد علي أصبح من الرموز الوطنية التاريخية. هنا بقى، عاوزة نرجع شوية لما درسناه في المدرسة عن محمد علي، باعتباره باني مصر الحديثة وأقام جيش مصر القوي، وانهزم بسبب تآمر الدول الاستعمارية، وطبعا فيه ترويج لفكرة إن محمد علي امتداد قديم لعبد الناصر، هذه الرؤية لمحمد علي تكاد تكون الأقرب لرؤية الدولة الرسمية له، مع أنها مليئة بالمغالطات التاريخية الواضحة زي الشمس.
من ضمن الأسئلة اللي معنديش إجابة لها: ليه محمد علي يكون بداية مصر الحديثة، أولا، مش بداية الدولة القومية؟
فيه موجات عالية مؤخرا تنتقد وتهاجم أي شخص أو رأي يتطاول على القومية أو يتجرأ على مناقشتها بطرق مختلفة، بل نقدر نقول إن فيه حالات تحرش بأي شخص يمس القومية المصرية أو القومية العربية، ونفس هؤلاء الأشخاص “القومجية” الذين يستفزوا من أي مناقشة جادة للحديث عن تاريخ القومية أو أي مساس بها، كان عندهم موقف مريب من تيران وصنافير، وبدا إن هؤلاء القومجية “سبور” جدا مع فكرة تسليم الجزيرتين طواعية للسعودية، ودي مفارقة غريبة محتاجة لدراسة في حد ذاتها وملهاش تفسير عندي.