محاضرات ديفيد هارفي: نمو الموت وجنون العقل الاقتصادي – 1

حضرها وأعدها يوسف رامز 

دي بداية لمجموعة مقالات لـ قراءات بأقدم فيها “هضم” شخصي للقاءات عامة بيحاضر فيها المنظر الاجتماعي والجغرافي ديفيد هارفي كل يوم أربع في مركز الدراسات العليا بجامعة مدينة نيويورك GC-CUNY ، المحاضرات دي مفتوحة للجمهور وفي نفس الوقت بتتقدم ضمن سيمنار (كورس Credited course) لطلبة الدكتوراه في قسم الأنثروبولوجي، فكره كده شبه جدا سيمنار سكة معارف. السيمنار اسمه “ضد الرأسمالية: أفكار وأفعال” وبيتابع السيمنار مع هارفي دكتور جيف ماسكوفيسكي وهيتضمن جنب المحاضرات المفتوحة مجموعة محاضرات غالباً هتكون مغلقة لطلبة السيمنار هيشارك فيها مجموعة من المنظرين زي سيندي كاتز وإيريك لوت ودونالد ربوثام وغيرهم.

السيمنار مش مرتبط بكتب محددة بس بشكل عام هيدور حوالين كتاب رأس المال لـ ماركس بمرافقة كتاب ديفيد هارفي الأحدث الصادر السنة اللي فاتت (2017) وعنوان الكتاب: “كتاب رأس المال وجنون العقل االاقتصادي[1]“. المحاضرات دي بتتقدم على قراءات بموافقة هارفي وجيف منسقي السيمنار وبالتالي قراءات ممكن تفتح حوار بين قراءها وبين هارفي وجيف لو حد مهتم يسأل على حاجه محددة.

515qzOaRxiL._SX337_BO1,204,203,200_.jpg

ديفيد هارفي بدأ محاضرة الجمعة اللي فاتت بأنه يقول:

إذا كان فيه حد من الحضور مش ضد الرأسمالية (والحضور بيضحكوا) ، يمكن يحب يسأل أنا ليه ضد الرأسمالية وليه الكورس اسمه ضد الرأسمالية؟ الحقيقة أنا مش ضد الرأسمالية لأني أتولدت كده، ولا مشكله جينية ولا حاجة، أنا مشغول بحقيقة أن الرأسمالية نظام اجتماعي لما نبصلها من منظور تاريخي، النظام الاجتماعي ده نموه خطر على المستقبل، واستمراره من غير نمو معناه توقفه!

ليه الرأسمالية خطر ع المستقبل؟ لأن الأرقام بقت مهولة، حجم الاقتصاد دلوقتي ضعف حجمه سنة 2000 – خلي بالكم إننا بنتكلم على نظام عمره مئات السنين بيتضاعف في أخر 18 سنة بس! ـ الأرقام دلوقتي بالمليارات بعد كام سنه هتبقى أرقام تفوق قدرة أي حد على تصورها، وهو ده المستقبل الطبيعي للنظام الاجتماعي ده، تمدد مستمر، تمدد ناحية الموت، الصين لوحدها في 2012 و 2013 استهلكت أسمنت قد اللي استخدمته أمريكا في القرن العشرين على بعضه مره ونص تقريباً. ده حجم الاستنزاف للحياة ومواردها اللي بنعمله وده حجم التمدد ناحية الموت.

china

لو عندنا مجتمع في حالة نمو (تمدد) مستمر هنقابل مشاكل أساسية في دورة السلع والنقود، عشان يبقى فيه عوائد لكل حد في النظام ده، لازم ننتج فائض القيمة، طب ونعمل ايه بفائض القيمة؟ ننتج أكتر. طب وبعدين ندفع الإنتاج لحدود مابعد اللانهائي، وندفع الرغبة في الاستهلاك عشان تبقى أكتر من اللانهائي ده، والفلوس تزيد لأرقام مش ممكن نتخيلها.

والحاصل في الحقيقة أن الفلوس بالتحديد هي اللي بتتضخم لأرقام فوق الخيال لأن الحكاية بسيطة وده دور البنوك المركزية أنها تضيف أسفار على يمين الرقم فيتضاعف، لكن هل ده معناه نمو حقيقي؟! لأ اللي حاصل أن بنوك بتقرض بنوك ودول بتسلف دول وهكذا والقروض دي بتكسب لأنها بتحقق فوايد والنتيجة النهائية أن حجم ديون العالم للعالم أكبر من نسبة ديون دول أعلنت إفلاسها زي المكسيك! هل العالم المفروض يعلن إفلاسه! بعد أزمة الديون العقارية (لما عرفنا أن مفيش فلوس تغطي العقارات اللي موجودة) اللي حصل أن سعر العقارات زاد! اللي حاصل أن النقود اتحولت هي ذاتها لسلعة، البنك يسلف بنك ويحقق فوايد ويستلف هو من بنك تاني وهكذا. ومن هنا يجي مفهوم انعدام القيمة Anti-value لما يبقى اقتصاد الفوايد هو اللي بيحافظ على حياة حركة القيمة (بيحافظ على القيمة في حالة حركة). وهنا فيتش الرأسمالية يوضح، في فيتش الفلوس اللي بتعمل فلوس إلى ما لانهاية.

إزاي نفهم شخصية الرأسمالية؟ إزاي نغيرها؟ وإزاي نطلع بره الحكاية دي كلها؟ هي دي الأسئلة اللي هتدور حواليها سلسلة المحاضرات دي، هنتكلم عن ماركس، قال إيه، وازاي فهم الرأسمالية؟ وخلينا الأول نتفق على كام نقطة:

ـ مش كل الفلوس رأسمال، الفلوس لازم تتوجد الأول وبعدين تبقى رأسمال، هجيب فلوس عشان اعمل فلوس. لازم في أي نظام اقتصادي تكون فيه وسائل إنتاج وقوة عمل، هتنتج أد ايه ده يعتمد على التكنولوجيا.

ـ إنتاج السلعة هو إنتاج القيمة، في الخطوة اللي بعدها ممكن يحصل إنتاج القيمة المضافة من خلال التحول للفلوس، تتحول السلعة من صورة لتانية هي الفلوس وتتحول الفلوس لسلعة تالته وهكذا فتفضل القيمة في حالة حركة.

هييجي حد يقول إن الفلوس دي بترجع ضرايب ومرتبات وكده. أه صح جزء من الفلوس دي هيرجع تاني كمصاريف وجزء هيرجع كفلوس وبالتالي هيخش في عملية الانتاج من جديد.

وتعالوا نبص مع بعض على الرسمة دي:

harvey-flow-graph

كل مربع من المرسومين باللون الأحمر دول بيمثل مكون (أو مرحلة) من النظام الرأسمالي ودورته والتلات مكونات دول منفصلين – رغم اتصالهم طبعاُ- ومهم هنا نفرق بينهم، لأن قواعد اللعبة مختلفة في كل مرحلة من المراحل التلاتة دول. كتاب رأس المال لماركس في أجزائه التلاتة معتمد التقسيمة دي.

الكتاب الأول من رأس المال Das Capital بيتكلم عن خلق القيمة Valorization ، الكتاب التاني عن استمرارية العملية دي وتحقق القيمة في صورة نقود، والكتاب التالت عن التوزيع.

الكتاب الأول ـ وهو الكتاب الكامل الوحيد في أجزاء كتاب رأس المال التلاته ـ مش هتلاقي حاجه عن التوزيع مثلاً وكأن مفيش مشكلة في التوزيع، في الكتاب التاني عن تحقق القيمة realization of value هتلاقي فرضيات عن ظروف الانتاج لو مفيش تكنولوجيا، مع إن الكتاب الأول بيتكلم عن التكنولوجيا طول الوقت. ماركس خبز التلات مراحل دول في عجينة واحدة، كل كتاب هو شباك بيبص على نفس الميدان من جهة مختلفة. ومن هنا ممكن نحس التناقض بين الكتب التلاتة، الكتاب الأول هيتكلم وكأن مفيش مشكلة في السوق ولا مشكلة في تحقق القيمة في صورة فلوس، الكتاب الاول بيأكد على معدلات الاستغلال في الاجور في الصناعة، ولما توصل للفصل 25 تلاقي وصف عن ظروف ومعاناة الطبقة العاملة، وببساطة عن أن ليه الأغنياء بيبقوا أغني والفقرا بيبقوا افقر وافقر. في الكتاب التاني هتلاقي الكلام عن ان لو الرأسمالي قلل الأجور هيتولد طلب استهلاك فعال أقل وكل النظام يقف، عشان كده ماركس بيتكلم عن الاستهلاك العقلاني للعمال مش من وجهة نظر العمال لكن من وجهة نظر الرأسمالي. فيه ناس هتقول ان فيه عمال كتير اوضاعهم كويسه، هأقولهم أه تمام ده هتلاقوه في الكتاب التاني (موضوع طلب الاستهلاك الفعال) ومش هتلاقوه في الكتاب الأول خالص وهكذا.

في أوربا وأمريكا في الستينيات كانت حركة العمال قوية جدا، لو كان البرجوازيين قرروا يقروا كتاب رأس المال ويمشوا ورا “طلب (أو رغبة) الانتاج الفعال” ويقمعوا العمال تماماَ، كانوا هيقابلوا مشكلة في الكتاب التاني لأن لو مفيش أجور مفيش طلب الأستهلاك الفعال، وبالتالي مفيش تحقق للقيمة في صورة فلوس. وكانت هتقابلهم مشكلة كمان في الكتاب التالت لو مفيش اجور كفاية مفيش ضرايب كفاية، الدولة – لو معندهاش مصادر تانية – مش هتلاقي فلوس عشان تشجع الطلب الفعال، عشان تشجع الاستهلاك وتخلق فلوس.

IMG_20180905_164922182

مهم تاني نأكد أن كل مرحلة من دول مستقلة عن التانية وفي نفس الوقت مش منفصلة عنها وقواعد اللعبة في كل مرحلة غير التانية. تعالوا نتكلم عن لعبة منهم: البنوك المسؤولة عن عملية خلق النقود، ممكن تبقى أنت بنك وتسلف بنك أكتر من الفلوس اللي عندك (الودائع) على اعتبار إنك هتشيل من هنا تحط هنا ولما البنك المديون يسدد الدفعة الأولانيه يبقى يدي الفوايد للعملاء وهكذا. البنوك بتخلق النقود وتسلفها، المفروض علشان الانتاج والتصنيع، بس مفيش حد يرغم البنوك على كده. في الازمة الاقتصادية اللي فاتت البنوك اكتشفت أن من 10 ل 20 % بس من الفلوس راح للانتاج، باقي الفلوس رايح على تسقيع السلع والأراضي والعقارات وتسليف البنوك للبنوك. لو عاوزين نفهم اللي بيحصل في المجتمع، لازم نسأل فين قلب المشكلة في المراحل التلاتة دول (الانتاج وخلق القيمة، وتحقق القيمة في شكل فلوس، والتوزيع)، ولازم نركز في فهم انفصال واختلاف قواعد اللعبة في كل مرحلة منهم عشان نعرف إزاي نتحرك سياسياً في كل فرع من الفروع التلاتة دول. لو احنا من المهتمين بقضايا البيئة وفي حركة مضادة للرأسمالية قضايانا وأسئلتنا هتكون مختلفة عن لو مهتمين بالعمال وهكذا، الأسئلة مختلفة حسب اللي مهتمين بيه وحسب المرحلة من المراحل التلاتة في النظام الرأسمالي اللي قررنا نواجهها.

طيب تعالوا نبص للرسم اللي فات ده تاني، المُدخل الرئيسي هو ايه عطايا الطبيعة وقوة العمل (اللي هي كمان جزئياً من عطايا الطبيعة) بالنسبة للرأسمالي دي عطايا مجانية – صحيح في شوية عمليات لصيانة عطايا الطبيعة زي تنضيف الغيطان مثلا- لكن اجمالاً دي عطايا مجانية، طب احنا قدام نظام بيتمدد إلى ما لانهاية (عقله مبني على كده)، طب هنعمل ايه في الطبيعة؟ ماركس قال ان حكاية الطبيعة دي مش موضوعه دلوقتي، ده شغل محتاجين احنا نشتغل عليه. مهم كمان نفكر في نفس الرسم ده من فوق ع الشمال “الاحتياجات، المتطلبات، والرغبات”، طيب احنا في نظام دائم التمدد، يعني يبقى مطلوب كمان ان الرغبات تتمدد إلى ما لانهاية، وده اللي شوفناه بعد الحرب العالمية التانية، شوفنا ازاي تمت عملية تصنيع ايديولوجية للرغبات والاحتياجات والمتطلبات، إعادة تصنيع للمجتمع كله.

واحنا بنبص للرسم ده مهم ناخد بالنا أننا بنفكر في نظام بيتضخم مش في دايره مغلقة – ده فرق مهم بين هيجل وماركس – تمدد النظام ده الدايم (في تمدد متحرك مستمر وإلا يقف تماماً) اللي هي قلب منطقه وعقلانيته هي في نفس الوقت قلب جنونه، لأن استمرار تمدده ببساطة مستحيل. وكل ما تحصل ازمة زي بتاعت 2007 و 2008 يطلع حد (زي رئيس امريكا كده)، يقول انا هأحل الأزمة بس محدش عارف نعمل ايه عشان نحل الأزمة! ، هما فعلا معندهومش حل ويمكن دي تكون فرصة اليسار.

 

[1]  – الرشد، والعقل، والمنطق كلها ترجمات مستعملة لكلمة Reason  هارفي هو وكتير من الأكاديميين النقديين في العالم لما بيستخدموا كلمة Reason   بيبقوا بيشيروا لعمليات “العقلانية” زي ما ديكارت قدمها اللي هي أساس التفكير “الغربي” المعاصر. وعموما ترجمات كلمةReason  مهم نفكر فيهم، الترجمة الأولانية هي : الرشد، والترجمة التانية هي:  العقل. والفرق هنا واضح لدرجة أن اختيار واحدة من الترجمتين هو اختيار سياسي وبيعكس موقف المترجم او كاتب النص من جوهر “التفكير الغربي”. لأن زي ما هنشوف في سلسلة محاضرات سيمنار “ضد الرأسمالية” لغاية فين “العقل” (عقلانية اقتصاد الرأسمالية تحديدا) ممكن جدا تبقى غير رشيدة تماما وتسوق نفسها للموت، الترجمة التالتة “المنطق” مشكلتها الأساسية أنه فيه اتفاق أشمل على أنها تكون ترجمة لكلمة logic (اللي هي مصطلح تاني تماما عنده تاريخه اللاهوتي والفلسفي بتاعه).  نقد “العقلانية” اتجاه مهم دلوقتي في الإنسانيات النقدية، وطبعاً نقد العقلانية بدأ في حياة ديكارت نفسه على يد كتاب زي أنطون أمو وأستمر لغاية دلوقتي.

.