حضرها وأعدها – عمرو خيري. نُشر على موقع سكة معارف.
هذه التغطية لجلسة “دراسات الطعام” ضمن سلسلة لقاءات “سكة معارف” لموسم 2018-2019 لا تعكس بالضرورة ما دار في اللقاء بالكامل. التغطية تشمل كلمة دكتورة ملك رشدي، وكلمة دكتورة ريم سعد، أستاذتا الأنثروبولوجيا في الجامعة الأمريكية. تحدثت ملك رشدي عن فكرة دراسة الطعام والمجال المعرفي المسمى “دراسات الطعام”، وتحدثت ريم سعد عن مفهوم وممارسات “السيادة الغذائية” في مواجهة مفهوم “الأمن الغذائي”. بدأت ملك رشدي اللقاء فقالت:
أهلا بكم. أيه اللي جاب الأكل للخوف للتاريخ؟ التيمات والمواضيع اللي اتكلمنا وبنتكلم فيها في سكة معارف الموسم ده. القضايا اللي بنتناولها هي كأنها شبابيك بنبص منها على المجتمع المصري. مع تعدد المفاتيح، أو الشبابيك دي، إحنا بنبص من وجهات نظر مختلفة على نفس المجتمع. في الحقيقة الأكل كان من المداخل اللي اتفقنا عليها.
ملك رشدي – الأكل كممارسة اجتماعية، ومجال “دراسات الطعام”:
الأكل حاجات كتيرة جدا. مش بنفكر فيه وبنفكر فيه طول الوقت، بمعنى، مثلاً كلنا بناكل رز. كلنا بناكل عيش. معظمنا بيحب الشيكولاته، والحلويات. عمرنا بنفكر ليه؟ ليه بحب الأكلة دي، وبالطريقة دي؟ وليه بآكل في المواعيد دي؟ ليه، غالبا هو سؤال مش بنلاقي له إجابة.
معظمنا مش بيقف يسأل ليه، أو أسئلة من نوعية “لماذا” بخصوص الأكل. الأكل مشترك بين الناس كلها، وبناكل طول الوقت، كل يوم، وبناكل مع بعض، ومع ذلك الأكل حاجة صعبة شوية. على قد ما هو فعل جماعي على قد ما هو فعل فردي جدا. بمعنى: حاجة بتخش بقي، بأشمها وأشوفها.. بآكل بعيني في الأول، وبعدين أدوقها، إلخ. في الفترة دي كلها رغم إن ممكن نكون بناكل مع بعض، كل واحد فينا تجربته مع الأكل فردية.
على قد ما هو فعل الأكل فردي وحميمي وشخصي فهو فعل جماعي برضه. قريب جدًا من فعل الجنس. فعل بيقوم به فرد بمشاركة، فيه استمتاع، فيه خوف، فيه مشاعر مختلفة، وأساسي في الحياة، وبيخش فيه العنصر البيولوجي.
لو افترضنا ما سبق، هنلاقي إن الأكل وممارستنا للأكل، إنه بيستدعي منّا استخدام حواسنا الخمسة تقريبًا. بنتعلم نستطعم، بنحس بإحساس بالراحة بعد الأكلة الحلوة. إلخ. ومتعة الآكل مع الجماعة، مع الناس، بتبقى ممارسة مهمة جدا، ولذلك هي لها عناصر أو مظاهر. في المجتمعات تاريخيًا وحاليًا، هنلاقي إن المجتمعات بتقنن علاقتها بالأكل. في الأديان مثلا، الأديان كلها أو معظمها بتقنن الأكل. بتقننه بطرق مختلفة، يا إما بالتحريم أو بتزقنا ناكل حاجات معينة في أوقات معينة، أو الصوم لأسباب متعددة، ومعظم الديانات فيها صيام، وبنقدم أضحية، والأكل بيتحول في بعض الأديان لشيء مقدس.
كل الأشياء دي مش بنفكر فيها، لأن الأكل في أحيان كتير بيتشاف كأن فيه نوع من السحر. وفيه اللي ورا هذا الفعل، الشيء اللي بنستمتع به، بنعرف إن فيه حد شاطر، اللي عمل الأكل، اللي عنده “نفس” حلو في الأكل. فيه حاجات بتخلي الشخص ده اللي نقل شيء خام (لحمة نية مثلا) إلى شيء لذيذ وممتع، عملية التحويل دي بيقوم بها شخص عنده قدرات مش عندنا.
بغض النظر عن كوننا بنستمتع بالأكل كحاجة بتغذينا وتدينا طاقة وتجمعنا في قعدة حلوة، إلخ، فعلاقتنا به متوترة جدًا. متوترة لأن فيه فكرة الخوف.. لأن لما بشوف حاجة بأبلعها، لازم أبقى عارفة أنا بآكل أيه، إيه صنف الأكل اللي بأكله، لازم أعرف. فيه فكرة “الوحدة” في الأكل، الناس اللي ممكن تاكل لوحدها، مش في جماعة. الخوف من أكل الحاجة الزفرة أو اللي مش نضيفة، أو مش طاهرة.. حاجة فيها دم مثلًا. فكرة الخوف من الحرمان من الأكل، إني “مش هلاقي آكل”، أو الخوف من نقص الأكل باستمرار، في أيام الحروب مثلا. فكرة الخوف حاليًا من المبيدات اللي بتترش على الخضار والفاكهة.. الخوف من الجلوتين عند بعض الناس، إلخ.
لكن كمان نتيجة للتغيرات اللي حصلت في القرن العشرين ولحد دلوقت، بقينا نخاف إننا نفقد الشيء اللي بيربطنا ببعض وإحنا بناكل مع بعض. لمة العيلة حوالين الأكل مثلاً، المشاعر دي. الخوف من أفول العلاقات الإنسانية اللي الأكل له دور فيها.
زمان كانت مكونات الأكلة الواحدة معروف هي جاية منين. انهاردة لما اروح محل حلويات أشتري جلاش مثلا مش بابقى عارفة هو مصدره أيه. عارفة اسم المحل بس مش مكونات الجلاش ولا الدقيق بتاعه منين ولا فيه جلوكوز ولا سمنة بلدي، إلخ. كل اللي أعرفه إنها حلويات طعمها حلو أو مش حلو.
حصل انفصال بيننا وبين الأكل اللي بناكله. مبقيناش نعرف بناكل أيه. الناس خلاص بتنسى المكان اللي اتعمل منه الشيء أو حرفة عمل الأكلة دي منين.. الحكاية بتقف على اسم الحلواني أو المطعم أو السوبرماركت.
كل علاقاتنا بالأكل مرتبطة بالزمن وبالمكان وبممارسات وتجارب شخصية وجماعية. كتير بنستعمل التجارب دي ونغرسها في ذاكرتنا. كل ده بيكون في إطار اقتصادي سياسي اجتماعي. الأكل له دلالة ومعنى، حتى في اختياراتنا للأكل. بنقول عايزين الأكل ده، من غير ما نقول لنفسنا ليه.
كل دي تساؤلات وظواهر دفعت الأكاديميين يفكروا في حكاية الأكل. كل اللي حكيناه ده بيفكرني بمقولة لماركس: “البشر بيصنعوا تاريخهم لكن مش على هواهم، مش بيعملوه في ظروف من اختيارهم، بيعملوه في ظروف موجودة أصلًا، بيتم نقلها إليهم من الماضي”. بنفس الطريقة، بعض الأكاديميين فكروا في الأكل: إننا بنتخيل إننا لنا اختيارات في الأكل، لكن في الحقيقة الأكل واختياراته ناتجة عن ظروف، من صنع حاجات كتيرة جدا قد نكون طرف فيها أو لأ. فيه محددات كتيرة جدا، متصلة بالاقتصاد والسياسة والثقافة، وساعات عوامل نفسية، زي الناس اللي بتعاني من الأنوريكسيا. السؤال اللي بنسأله لنفسنا: مين بياخد قرار اللي إحنا بناكله؟ مين طور الأكلات؟ البطاطس مثلا.
البطاطس لها حدوتة تاريخية مهمة جدا. في القرن التمنتاشر الناس في أوروبا كانوا بياكلوا ورق البطاطس، لحد ما حصلت مجاعة أيرلندا في القرن التمتناشر فالناس نبشت في الأرض وكلوا الدود، وفجأة قرقشوا الـTuber لقوا إن Tuber البطاطس بيتاكل. الأزمة والصدفة هي اللي ابتكرت أكل البطاطس. وإيه اللي جابها من بيرو إلى أوروبا، في بعض المناطق بقت مستوطنة، المحصول الأساسي للبشر. زي الفول عندنا مثلا. هل هو بمزاجنا ولا فيه ظروف أخرى خلتنا نعتبره طعامنا الأساسي؟
تاريخ الطعام تاريخ معقد جدا لكنه إلى حد كبير بلا أسماء. يعني مفيش نابليون عمل كذا وكذا. ده تاريخ اجتماعي.
في القرن العشرين البشرية أنتجت أكل بكميات غير مسبوقة، وبأسعار أقل بكتير – نسبيًا – من قبل كده. لكن في المقابل فيه كارثة، 11 في المئة من البشرية عندهم سوء تغذية. هنلاقي إن في سنة 2002 15% من سكان العالم مكانوش لاقيين ياكلوا. تداعيات سوء التغذية مش بس إن الإنسان بيبقى هزيل أو معرض للأمراض، لا كمان فيه السمنة اللي سببها سوء التغذية. في مصر مثلا مع انتشار الفقر (اللي مش بيقل إطلاقًا في أضعف التقديرات عن 28%) وصلت السمنة في الأطفال بسبب سوء التغذية إلى 13%، ووصل 35% في البالغين، بحسب إحصاءات اليونيسف. فيه إحصاءات حقيقية مرتبطة بسوء التغذية. بنفس الطريقة هنلاقي الحروب زي في سوريا أو اليمن حاليًا فيه مجاعات، في حين إن في دول تانية بعض المحاصيل بتترمي في البحر. أمريكا من أهم الدول اللي عندها أعلى معدل “رمي محاصيل في البحر” علشان فيه إنتاج زائد/مفرط، ففي الحالة دي لما العرض بيكون عالي الأسعار بتنزل، فالحكومة بتدعم الفلاح وتعوض ده برمي الفائض في البحر عشان الشركات الكبيرة تفضل محافظة على الأسعار. أمريكا رمت سنة 2005 35% من إنتاج الدرة بتاعها في البحر عشان تحافظ على السعر. في 2015 رمت 15% من إنتاجها من الدرة، وبيرموا القمح وفول الصويا برضه عشان الأسواق. وكمان فيه هدر ضخم نتيجة لأن الأكل بيتم تداوله في العالم بشكل أكبر. الهدر نتيجة التخزين، والنقل، والتوزيع. شفنا من كام سنة مشكلة القمح ناتجة عن سوء التشوين.. وسوء إدارة التخزين. القضية مش في الإنتاج على قد ما هي التوزيع وفكرة إن إحنا عشنا قرن وأكتر بفكرة: أنتج انتج وشوّن.
ده كان تقديم سريع لأبعاد متعددة لماهية الأكل. لكن زي ما شفنا في القرايات اللي قرينهاها للجلسة دي، الأكاديميين اهتموا جدا بحكاية الأكل. وفيه فضل كبير في الموضوع للمؤرخين، الحق يتقال، والناس بتوع الأنثروبولوجي. المؤرخين اهتموا بالموضوع لأن الأكل شافوه انعكاس للتغير الاجتماعي. كان مدخل مهم في التأريخ. مدرسة الحوليات (الآنال) على راسهم ناس زي بروديل وغيره اهتموا باليومي والمُعاش.. رصد الأشياء اللي مش موثقة رسميًا أو تعتبر تاريخ رسمي. فطرحوا أسئلة بالنسبة لي مهمة جدا. طرحوا أسئلة زي: “الطبيخ بدأ إزاي؟ عملية تحويل شيء إلى شيء؟ إزاي البشر اخترعوا فكرة الوليمة؟ جت منين؟ أو الاحتفالات بالأكل؟ أو الأكل الممتد، إننا ناكل لمدد طويلة، إزاي بنطول مدة الوجبة؟ من إمتى بدأنا ناكل على ترابيزة، مش وإحنا قاعدين على الأرض؟ امتى بدأنا نستخدم الشوكة والسكينة بدل ما ناكل بإيدنا؟” كلها أسئلة مهمة إجاباتها متصلة بالتنوع الثقافي في التاريخ.
فيه اتجاه تاني في دراسة الأكل يهمنا أنهاردة أكتر: الاتجاه الخاص بجانب “نُظم الطعام” food systems. لأنه بيعتمد على فكرة دراسة المنظومة بالكامل، مش جزء منها. مش بس الثقافة أو التغذية في حد ذاتها، مش بس السوق، مش بس الاستهلاك. لأ: دراسة المنظومة بالكامل من أولها لآخرها. لأن لغاية قريب كنا بنبص على قمقم، على حاجات صغيرة، ونسينا إن الأكل حاجة متشعبة جدا فده مش هيساعد نحط إيدنا على المشاكل الحقيقية. بالتالي فكرة “نظم الطعام” اعتمدت على 3 حاجات:
Food systems – food regime – food networks
ده نظام قائم على الماركسية، تحليل فائض القيمة بتروح فين في منظومة الأكل.
الزراعة بتمثل 10% تقريبًا من التجارة العالمية. لسه متكملناش على الصناعات الغذائية أو تحويل الأكل processing. الزراعة + السلع الغذائية المحولة بيقال إنها بتمثل المصدر التاني في الضخامة في التجارة العالمية بعد السلاح. المنظومة دي قايمة من الزراعة للتخزين للتسويق للمستهلك، وطرق وسبل الطعام وإمكانية الحصول عليه وإمتى بناكله وإزاي وليه وتصوراتنا عنه إيه. الجزء بتاع: food regime اللي هو مش نظام، أو نظام لو اعتبرنا كلمة system هي منظومة. المهم، مرحلة الفود ريجيم بص عليها اتنين باحثين في بعدها التاريخي: علاقات الأكل مبنية على علاقات قوة، لها مركز جغرافي في أزمنة معينة، وبيبقى لها آليات تراكم معينة لرأس المال. لما بيبصوا ع القرن التسعتاشر والعشرين والواحد والعشرين، بصوا على الأوقات اللي حصل فيها أزمات غذائية. مثلا 2008 شهدت أزمة غذائية. والحرب العالمية الأولى أو بعدها شهدت أزمة غذائية. بصوا على مسببات الأزمات دي، وعلاقتها بكل الأطراف المعنية في نظام الأكل، ومن خلالها بيوصلوا ويعرفوا فائض القيمة بيروح فين في ظل الأزمة. المهم إنهم اكتشفوا إن الأزمات الغذائية بتحصل عادة في مراحل انتقالية للمجتمعات، هي لحظات نهاية وبداية. فيه خلل بيحصل أو أزمة، هنطلع منها على مرحلة جديدة. وشافوا إن عادة علاقات قوة متناقضة بتتحول في تغيرات نظام الأكل دي. مثلا كل سياسات التنمية الغذائية، وهيئات الأمم المتحدة المعنية بالغذاء، واهتمامها بالفقر، في مصر مثلًا، عملوا مركز لرصد الغذاء في مصر. وكان عندهم تحليلات مهمة جدا، كان بينزل كل شهر تقرير إحنا بالظبط بناكل أيه. كان هاجس كبير وطلعت معاه بعض الآليات علشان يحصل توازن ومنقعش في أزمة غذائية. الخلاصة:
فكرة الفود سيستم جزء من مجال دراسات الأكل لكن أهميتها إنها بتنقلنا من أول المُزارع لغاية الأكل اللي بيدخل بُقنا. في المراحل دي بنشوف علاقات القوة بين الأطراف المختلفة، ومنها الشبكة الكبيرة جدا اللي بتوصل الأكل للمستهلك. من وجهة النظر دي الأطراف مش معزولة عن بعضها، وده بيسمح لنا نفكر بجدية في دراسة المتغيرات اللي حاصلة بخصوص السيادة الغذائية مثلاً.
ريم سعد – مفهوم “السيادة الغذائية” والإنتاج الغذائي العائلي والزراعة
ملك عرضت أساسات مجال دراسات الطعام. أنا هأتكلم في جزئية معينة من موضوع دراسات الطعام. هاتكلم بمعنى واسع عن “العلاقة بين الأكل والزراعة”. هي علاقة بديهية تمامًا بس مليانة تفاصيل. الأكل بييجي من المطعم مثلا، قبل ما ييجي من المطعم كان جي منين؟ شوية وبناخد بالنا إن فيه مُزارع، أو صورة المكن الزراعي.. المهم بنوصل إن الأكل جي من الزراعة. هي علاقة مباشرة بين الأكل والزراعة، وياللغرابة ومع الوقت بدأت تفقد بديهيتها، ومن خصائص موضوع الغذاء دلوقت التباعد بين المُنتج والمستهلك. ودي من أهم الحاجات اللي بتدخل في مجال “السيادة الغذائية”.
محتاجين نفكر طول الوقت في العلاقة بين الأكل والزراعة، وهي بتوصلنا لموضوع السياسة الزراعية، وأقصد بها السياسة الزراعية بتاعت دولة من الدول. ممكن قرار يظهر بخصوص الزراعة تظهر آثاره بعدها بشوية. فيه حاجات تخص تغيير هازرع إيه ومحصول إيه هيبقى بكام، بعد كام سنة بنشوف أنواع من الفقر أو أنواع من سوء التغذية، سببها سياسات محددة. وده المشكلة في سياسات زراعية معينة، خصوصا إنها مش بتصنف على إنها مواضيع نارية وسياسية وكده. فيه تفاصيل فنية في القوانين الزراعية مثلا والقرارات الخاصة بالزراعة. نعمل إيه في الجوانب التقنية للقرارات والقوانين دي؟
السياسة الزراعية في مصر المرحلة الفاصلة فيها كانت في منتصف التمانينات تقريبًا وفي ظل سياسة التحرر الاقتصادي والتكييف الهيكلي وسياسات النيوليبرالية.. بدأت في القطاع الزراعي قبل القطاعات الأخرى. وكان التوجه من منتصف التمانينات إننا هنعمل “أمن غذائي” بإننا هنشتري الأكل. عندنا ميزة تنافسية والجو عندنا يسمح نزرع فراولة وورد، نصدرهم ونجيب الفلوس نشتري بها المحاصيل التانية. المشكلة مكانتش في التجارة وسياسة التصدير إلخ، المشكلة إن الدولة دعمت سياسة التصدير الزراعية.. الاستثمار الزراعي، حطت في الموضوع ده موارد ومياه وأراضي جديدة كتير، وحولت مياه من الوادي للصحراء.. كل ده على حساب الإنتاج العائلي اللي هو المُنتج الأساسي للغذاء. وظهرت أسطورة إن الإنتاج الزراعي العائلي ده متخلف وعقبة للاستثمار.. ممكن تبقى فيه ملكيات صغيرة لكن بتُدار كحتة كبيرة. الخطوط العريضة للسياسة الزراعية في التمانينات هي اللي بنتكلم عنها. المستثمرين استفادوا من السياسة دي، لكن مكنش عندنا طريقة نعرف بها البلد استفادت من السياسة دي ولا لأ. لكن على أي حال الوضع أصبح كالتالي: الناس بقوا على كف عفريت من ناحية الأمن الغذائي.
ده بينقلنا لتفرقة مهمة بين مصطلحين: الأمن الغذائي والسيادة الغذائية.
الأمن الغذائي فكرة محترمة لكن لها تعريفات كتيرة، لكن في النهاية بيتكلم المفهوم عن “الغذاء”: كمياته ونوعياته، إلخ، وهنأكل الناس إزاي وكده، وإن مفيش مشكلة استورد أكل.
فكرة “السيادة الغذائية” بنركز فيها على منتجي الغذاء مش بس على المُنتج نفسه اللي هو الغذاء. والأساس في فكرة السيادة الغذائية إن “نظام إنتاج الغذاء يكون في إيدين المنتجين المباشرين مش الشركات”. الفكرة دي ظهرت سنة 1996 أو 1997 على إيد منظمة “فيا كامباسينا” منظمة الفلاحة العالمية اللي ظهرت في أمريكا اللاتينية كرد فعل على احتكار الشركات على نظم إنتاج الغذاء هناك، وإزاي ده أثر سلبا على المزارعين والمجتمعات وتنظيم الزراعة كصناعة إنتاج كبير.
وقتها المنتجين المباشرين بقوا تحت ضغط إنهم مش عارفين يزرعوا، وكان بيتبص لهم على إنهم “لا دول مزارعين صغيرين مش هينفع نعتمد عليهم في الأمن الغذائي”. مفهوم “السيادة الغذائية” ظهر كإطار سياساتي، لإعادة منظومة إنتاج الغذاء لأيدي المنتجين، وهو مصطلح “ضد الشركات”.. فيه خناقة. هي فكرة راديكالية، مش فكرة نعتمد على نفسنا وناكل اللي نزرعه وكده. هي فكرة أقوى. الأساس في السيادة الغذائية فيه مجموعة مبادئ منها مثلا إن “الزراعة وإنتاج الغذاء مش مهنة زي أي مهنة”.. لازم تتشاف على إنها شغلانة مختلفة وخاصة. وفكرة “تجسير الهوة بين المنتج والمستهلك” وإعادة العلاقة وتقريب المسافة بين الطرفين.
والسيادة الغذائية فكرة مطروحة في إطار بيئي كبير. ضمن فكرة “الأجرو-إيكولوجي” الزراعة البيئية المطروحة كبديل للسياسة الاستثمارية في الزراعة (هو الاستثمار مش حاجة وحشة بالضرورة في الزراعة لكنه المنظور السائد).
التنوع الحيوي.. البذور والمرأة.. السيادة الغذائية:
ومهم كمان في السيادة الغذائية فكرة التنوع الحيوي، ومسألة “البذور”. ومسألة البذور هي صلب الموضوع. هاتكلم عن التنوع الحيوي شوية في المجال الزراعي وعلاقته بالسيادة الغذائية.
الفكرة إن الزراعة لما تبقى متصلة بالوضع المحلي، وإن الزراعة تكون مناسبة للبيئة. وهنا برضه أهم حاجة هي البذور: إن الناس تنتج البذور اللي بتزرعها بنفسها من محاصيلها وأراضيها مش تعتمد على الشركات العالمية المنتجة للبذور. وطبعا الشركات في مجال البذور، هي من أقوى الكيانات في العالم، الشركات دي ممكن تكون أقوى من شركات السلاح، وأجهزتها وعلاقاتها وطريقة عملها خاصة جدًا.
عايزة أتكلم عن بحث عملته مع زميلي الباحث حبيب عايد. جالنا طلب بعمل بحث عن علاقة الحيازات الزراعية للستات والفقر بالتنوع الحيوي. في الزراعة التنوع الحيوي معناه وجود سلالات متنوعة من النباتات: 30 نوع قمح مثلا و10 أنواع خيار. لما نزلنا نعمل البحث الميداني اتخضينا شوية. كان بقى لي عشرين سنة شغالة في الريف ولا كان عندي فكرة عن وضع التنوع الحيوي. سألنا أيه الأنواع الموجودة من السلالات الزراعية؟ على مدار عشرين سنة الأصناف المحلية اختفت تماماً، ولا يُزرع غير البذور اللي بتبيعها الشركات. البذور دي هجين، وإنتاجيتها أعلى، ع الأٌقل في الأول بتكون إنتاجيتها أعلى. الناس أٌقبلت عليها. والفلاح بياخدها من الجمعية الزراعية، مش بيروح ينقي بذور من السوبرماركت. والجمعية هي اللي بتسوق البذور. الفكرة إن البذور دي عقيمة، لا يُعاد إنتاجها، فبالتالي الفلاح معتمد على شراها بشكل متكرر. كل سنة. على ما بيعمل كده البذور البلدي تكون ماتت، والإنتاج الزراعي يعتمد على السوق، يبقى تابع له. ممكن الشركة بتاعت البذور تزود سعرها في أي وقت.

لوحة جدّ الزيتون للفنان سليمان منصور – 1988
لكن الأماكن اللي لسه فيها إعادة إنتاج للبذور البلدي، تبين من البحث إنها الأراضي اللي الستات بتزرعها، أو لها كلمة على اللي بيزرعها. عادة بتكون الأرض باسم الراجل لكن الست هي اللي بتقوم بدور مهم فيها، دي الأراضي اللي بأتكلم عنها. كتير بتكون فيه رقعة من الأرض الست تقول دي للبيت.. يعني مثلا الأرض هتنتج بنجر لكن فيه حتة صغيرة مخصوص لاستهلاك البيت، فيها خط بصل وخط توم وخط جرجير، إلخ.. بالنسبة لتقسيم العمل في الزراعة طبعا فيه اختلافات بحسب بحري وقبلي، لكن عموماً الستات بيقوموا بمعظم العمليات الزراعية، ما عدا الري شوية مثلا، يفضل متعملوش إلا لو مضطرة. الحاجات اللي فيها مكن زراعي برضه بيقوم بها الرجل، إلخ. المهم الستات مسؤولات عن عملية تخزين المحصول وتخزين البذور وتنقية البذور: الـ seed selection. إنها تختار البذور اللي تصلح كتقاوي للسنة الجاية. وبتخزن البذور، وتحط معاها مواد معينة عشان ميحصلش تسوس، إلخ، وهي معارف متوارثة.
يُقال الستات مش بتشتغل في الزراعة، لكن لأن كتير من الشغل ده بيكون في عمليات ما بعد الحصاد اللي بتتم في فضاء المنزل فده بيتصنف مثلا بصفته شغل بيت. في مناطق بعينها، عيب الراجل يبني صومعة تخزين الأغذية. الستات مسؤولة كمان عن الأكل، مش بس إنتاج الغذاء، لكن كمان تأكيل البيت. مسألة الطعم والأكل يبقى مضمون ونفسه حلو، دي حصرا مهمة الستات.
وفيه مشكلة إننا بنتكلم عن المزارعات وكأنهم مستضعفات.. ده بيحصل كتير. المزارعات بيحموا نفسهم من تقلبات السوق عن طريق تخزين التقاوي، والموضوع برضه متصل بالحفاظ على التنوع الحيوي. طيب فيه إشكالية: عشان أستعيد البذور وأحافظ على التنوع الحيوي نفضل فقراء مع الممارسات البيئية الجميلة دي؟ لأ، ده سؤال غلط: المنتجات البيتية لازم تُثمن وتبقى قيمتها عالية بصفتها “بلدي”، ودي مش حكاية الأكل “الأروجانيك”، لأ، بنتكلم عن الأكل البلدي: الفراولة البلدي مثلا، والطماطم البلدي، إلخ. فكرة تثمين المنتج الزراعي البلدي، وإنه يتسوق كمنتج خاص. حصلت مبادرات من النوع ده وحصلت مشاكل. اتباعت مثلا كحاجات شيك وغالية قوي والناس اللي بتزرعها مبقتش قادرة تشتريها. دي إشكالية: نفكر فيها.. هل فعلا ممكن تحصل مشكلات بسبب تثمين المنتجات البلدية؟ فيه مشكلتين: مشكلة الفقر، ومشكلة اختفاء البذور.
المشكلة العاجلة هنا، مشكلة استعادة البذور اللي بتختفي. تاني مشكلة: ممكن الناس اللي بتزرع أصناف بلدي أو تشتغل بالزراعة العائلية تفتقر أو تفضل فقيرة؟ أه ولأ، لأن فيه حلول، زي مثلا وجود تعاونيات زراعية، اللي هي مش مُستبعد خالص يكون لها دور كبير في دعم التنوع الحيوي وحل مشكلة البذور مع الحفاظ على الزراعة العائلية.
الأسوأ و الأوسع من مجرد موضوع التنوع الحيوي في اعتماد الفلاحين على البذور العقيمة المستوردة
هو اعتماد الفلاحين في منتجاتهم الغذائبة عموما على المدينة من خبز و ألبان و أجبان و غيرها
بالطبع هناك بقايا من البويت تنتج سمنها و عسلها !
لكن هناك ظاهرة في اعاتماد الريف على المجينة في غذاءه بدلا من الصورة التقليدية
إعجابإعجاب