ألف هورنبورج: كتابة التاريخ البيئي بنظرية النظام العالمي (المركز والهامش).. الفلوس والقيمة كمقاييس مزيفة للتبادل/التجارة

إعداد – عمرو خيري

هذه هي المحاضرة الأولى من سلسلة محاضرات نقدمها تباعاً لأستاذ الإيكولوجيا البشرية ألف هورنبورج، وهي جزء من منهج تمهيدي لطلاب ماجستير الجغرافيا البشرية في جامعة لوند، السويد، على امتداد سبتمبر/أيلول وأكتوبر/تشرين الأول 2016.

ألف هورنبورج (تُنطق مثل العدد “ألف”) يشغل منصب أستاذ الإيكولوجيا البشرية في جامعة لوند منذ 1993. حصل على درجة الدكتوراه في الأنثروبولوجيا الثقافية من جامعة أوبسالا السويدية عام 1986، ودرّس في أوبسالا وجامعة يوتيبوري. أجرى بحوثاً ميدانية في كل من بيرو وكندا وتونجا والبرازيل. مجاله البحثي الرئيسي هو الجوانب الثقافية والسياسية للعلاقات البشرية-البيئية في مجتمعات الماضي والحاضر، لا سيما من منطلق نظرية “النظام العالمي world-system theory”. دفعه هذا للتجريب في حقول معرفية إضافة إلى الأنثروبولوجيا، مثل التاريخ البيئي والاقتصاد الإيكولوجي والإيكولوجيا السياسية ودراسات التنمية. كان طموحه الرئيسي هو استكشاف تقيد الافتراضات والمعتقدات الثقافية فهم البشر للاقتصاد والتكنولوجيا والبيئة، وكيف تنزع هذه الافتراضات لشغل مكانة الأيديولوجيا التي تعيد إنتاج القوة/السلطة في العلاقات الاجتماعية.

تنبيه: التالية هي أفكار طُرحت أثناء المحاضرة وتم تدوينها بصياغة مُبسطة بالعامية المصرية، ولا تتطابق بالكامل مع ما طرحه ألف هورنبورج في المحاضرة، ولا هي تعبّر عن أفكاره تعبيراً جامعاً مانعاً.

صباح الخير..

التاريخ البيئي الحقيقي هو إنك تشوف إزاي فيه صلات قائمة بين اللي حصل للبيئة في وقت بعينه، وأثره على مكان بعينه، إنك توصل للصلة بين زمن ومكان بعينهم وتوضحها وتفسرها.

أوجه انعدام المساواة بين البشر كبيرة لدرجة إنه يبقى هبل لو إتكلمنا عن “احنا البشر دمرنا الكوكب”. إحنا مين؟ مين الكائن الموحد اللي اسمه “إحنا” اللي دمر الكوكب؟ لا، إحنا مش في مركب واحدة، دول مركبين واحدة منهم واخدة التانية على داهية.

لو هنكتب تاريخ بيني، بمعنى interdisciplinary ما بين الحقول المعرفية، يبقى هنعمل مقارنات بين سياقات ومناطق مختلفة كمقارنات في حد ذاتها؟ ولا الأحسن نبين الصلات بين مختلف السياقات والمناطق؟ ليه الأرض في أوروبا وأمريكا الشمالية مش مهمة ومش جزء من الاقتصاد؟ ليه أمرها هين عندنا وسهلة؟ ليه عندنا مساحات كبيرة، شاسعة، تمنها رخيص؟ بينما في مناطق تانية من العالم، 50 فدان مثلا يعيشوا 50 أسرة؟ الأرض بقت مختلفة لينا عما كانت لأجدادنا، الأرض دلوقت نقدر نستغنى عنها، وده طبعا له علاقة قوية وأساسية بالوقود. لو قادرين نجيب وقودنا وطاقتنا من تحت سطح الأرض، هنقلق ليه على سطح الأرض نفسه؟ من 200 سنة بس كانت مواردنا كلها هي السطح ده.. أكل الخيول، اللي هي كانت مصدر الطاقة من 200 سنة، اللي كانت بتحرت الأرض الزراعية، وفي ناس بيقولوا اليومين دول أن الحصان أكفأ من حيث الطاقة عن الجرار الزراعي. الجرار ماشي بالوقود أو بالإيثانول (وقود حيوي بيتصنع من محاصيل زراعية) بزراعة مكثفة بتدمر البيئة في البرازيل. تجيبها كده تجيبها كده يا إما بتدمر موارد أجيال المستقبل هنا في أوروبا، أو الأجيال الحالية في مكان تاني، البرازيل مثلا.

عشان نفهم “الصلات” في التاريخ ممكن نستخدم نظرية “النظام العالمي” world-system theory. فكرة ولرشتاين عن النظام العالمي إن المجتمع هو عبارة عن نظام عالمي، كل الوحدات السياسية (الدول والأقاليم) جزء من مجتمع أكبر اسمه النظام العالمي، اللي هو أكبر من الدول الأمم. فيه علاقات قوة وتبادلات غير متساوية (غير متعادلة unequal) بينهم. فيه اللي بيجمع موارد على حساب غيره. بريطانيا في القرن التسعتاشر جمعت راسمال عن طريق تبادلات غير عادلة/غير متعادلة مع مناطق أخرى من العالم. الحال كده دلوقت: اليابان، أمريكا، أوروبا.. المركز العالمي، اللي بتصب فيه رأس المال. الهامش هو اللي الحاجات فيه رخيصة، سواء عمالة، أرض، موارد، كله بالرخيص.

هل المشاكل البيئية تختلف في المركز عن الهامش؟

الإجابة تكمن في مفهوم: Environmental load displacement “إزاحة العبء البيئي”، وده مصطلح مهم خلينا فاكرينه. معناه إنك تحافظ على بيئتك وتنقل ضغطك على “البيئة” على غيرك، في مكان تاني. مثلا: لما تلاقي العربيات في أوروبا ماشية بالإيثانول، عربيات “بيوفويل” صديقة للبيئة وكده، لكن على حساب الزراعة اللي بتتدمر في البرازيل، بيزرعوا زراعة مكثفة هناك لمحصول بيتعمل منه الإيثانول ده ويستخدموا الأرض الزراعية فيه بمساحات شاسعة، على حساب الناس وعلى حساب النظام البيئي المحلي في البرازيل. ده نقل/إزاحة العبء البيئي. إحنا ضاغطين على البرازيل عشان نركب عربيات مش بتلوث البيئة في أوروبا. الثورة الصناعية في إنجلترا هي المثال البيّن والأساسي على المفهوم ده. لكن حدوتة “نقل/إزاحة العبء البيئي” دي أقدم، ترجع لأيام حضارات بين النهرين ومصر الفرعونية، استوردوا وقتها كإمبراطوريات موارد معنية من الهامش. اللي كان مش بعيد أوي عنهم زي المسافة بين أوروبا والبرازيل دلوقت مثلا. بناء على الكشوف الأثرية هتلاقي أدلة على أنشطة استخراجية: غابات اتقطعت، تآكل في التربة، إلخ. المراكز الحضرية (urban) القديمة دي كانت بترمي عبئها البيئي على غيرها. كان لها بصمة إيكولوجية متجاوزة لمساحاتها السياسية.

في العصور الوسطى.. إسكندنافيا كانت هامش لأوروبا. إنتاج الحديد قديما في الهند كان معتمد على السويد. السويد كانت بتنتج خام الحديد ونستخدم الغابات السويدية في تطويع الخام، نشتغل بإيدينا كتير عشان نصدّر الخام ده اللي بيتصنع في الهند. الخام والخشب وساعات العمل اللي راحت هدر. قصدي بالموارد دي أنها ممكن تتفهم بصفتها embodied labor, embodied energy (الطاقة داخل السلعة، ساعات العمل داخل السلعة) يعني أيه؟ يعني الكرسي ده مثلا، كل وقت العمل وكل مساحة الأرض المستغلة لتصنيع الكرسي ده مغروسة في الكرسي، جزء من تاريخه وإن كانت فكرة مجردة مش ظاهرة ع الكرسي نفسه كجماد، كشيء أو كسلعة مُستخدمة.

عشان تنتج طن حديد كنت محتاج 12 هكتار من الغابة (خشب الأشجار اللي بيستخدم كحطب لتسخين الحديد). ممكن تتحسب.. بسيطة. النوع ده من الحسابات نقدر نعمله عشان نحسب انعدام المساواة البيئية وفيه باحثين شغالين على الموضوع ده.

خريطة التجارة العالمية هي خريطة دمار الموارد الطبيعية

في القرن الخمستاشر كان فيه خريطة كبيرة لطرق التجارة شاملة العالم كله، ترابط قوي في الاقتصاد العالمي حتى من ساعة القرن الخمستاشر. العلاقات التجارية دي حققت تأثير/ضرر على البيئة في الأماكن المختلفة دي. تخيل لو كنت عايش في الصين وقتها، هتبقى عارف إن فيه طلب كبير في أوروبا على الحرير، والصين بتطلب قصاده فضة عشان تبيعه. طبعا هتزرع شجر توت عشان تنتج حرير، هتزرع شاي عشان تصدر شاي، بما يعني عدم إمكانية زراعة محاصيل تانية في نفس مساحة الأرض. هذه العلاقة التجارية الاقتصادية لها تأثير قوي على المناطق اللي بتتحرك عليها التجارة، التجارة لها أثر بيئي. خريطة انتشار طرق التجارة متطابقة مع خريطة اختفاء الغابات على مدار السنين.

السوق العالمية تطلب، والطبيعة تلبي، وتتقسم الطبيعة حسب طلب التجارة العالمية. التجارة خلقت البيئة العالمية، وخلقت اختلافات بين مناطق النظام العالمي من حيث إزاي كل منطقة أتأثرت/أتضررت.

كده مفهوم “إزاحة/نقل العبء البيئي” أحالنا على مفهوم تاني مهم: “رأس المال الأرضي”..Landesque capital. استثمار الطاقة البشرية في الأرض. معناها إن حصل تعديل ما على الأرض لزيادة إنتاجية الفدان/الهكتار، والتعديلات دي مش قابلة لعزل أرض عن أرض، مينفعش تاخد حاجة وتشيلها وتمشي، الأرض ثابتة، مش “منقولات”، هي تغيرات “دائمة” للأرض وتضاريسها. من الأمثلة: قنوات الري، قنوات الصرف، إخلاء الغابات من أشجارها للزراعة زي في أوروبا، إخراج الحجر من الأرض، تسميد الأرض بفضلات الحيوانات.

14063743_10153673618916671_1514000317251796051_n

كتاب “الإيكولوجيا العالمية والتبادل غير المُتعادل”، 2011، يطرح فيه ألف هورنبورج أغلب الأفكار الواردة في المحاضرة.

الاستثمار في الأرض خلق “التمدّن”

تاريخيا التحسينات دي للأرض كانت متصلة بتركزات البشر في الأماكن، بما يشمل تشكّل المُدن (urbanization)، كل ما يزيد الناس في منطقة كان فيه ضرورة لتكثيف الزراعة حوالين الأرض اللي مليانة بشر دي. وهي حلقة مفرغة، مثال من الأمازون: القرى بتكبر في الحجم، يمكن عشان قدرت تجذب ناس أكتر، يمكن عشان زعيم ما مثلا قادر يجذب الناس لحفلات، الناس طول عمرها بتشرب بيرة في كل حتة، المهم، عشان يستوعبوا الناس الجديدة كثفوا الزراعة، ومع تكثيف الزراعة بالتسميد وغيره بقت الأرض جذابة للجيران، بقت مورد كله عايزه، يبقى بقيت محتاج جيش يبعد الجيران عن أرضك، والجيش عايز ياكل (وديفيد جريبر في كتاب “تاريخ الاستدانة” أتكلم عن إزاي “الجيوش” هي السبب التاريخي لخلق “الأسواق”)، يبقى هتكثف الزراعة أكتر. في اللحظة دي اتخلقت الاربانيزيشن، التمدن والمدن. رأس المال الأرضي landesque capital ده كان عموما مفيد، فيه مصاطب زراعة في أمريكا الجنوبية لسه قابلة للزراعة بعد 4000 سنة. لكن بعض الحالات أدت لملوحة في الأرض لا سيما في الشرق الأوسط، لما ترفع المياه بالري بتجيب مع تحت الأرض أملاح، ده معناه إنك هيفضل لك شوية نباتات تزرعها، مش كل المحاصيل هتبقى قابلة أنها تتزرع في الأرض اللي ملوحتها بتزيد، يعني قضيت على مزروعات بعينها في سبيل تكثيف وتكرار زراعات معينة.

بناء عليه، مهم نوصل لتعريف عابر للثقافات لمفهوم تراكم رأس المال. رأيي ان “رأس المال” مبدأش من القرن التسعتاشر زي ما قال ماركس، مش من أوروبا الصناعية. عشان أقدر أقول كده محتاج لتعريف عابر للثقافات لتراكم رأس المال. نشوف تراكم رأس المال في بيرو من القرن الخمستاشر، وإنجلترا في القرن التمنتاشر. البنية التحتية للإنتاج كانت: مصاطب زراعية في بيرو، ومصانع نسيج في إنجلترا. تغييب الوعي “الثقافي” لتمرير التبادل غير المتعادل كان كالتالي: توزيع بيرة الذرة على الفلاحين في شعائر مقدسة، توزيع الإمبراطور للبيرة في شعائر دينية. الأغنياء من الإنكا يعملوا حفلات “تشيتشا”، وده اسم بيرة الدرة في بيرو، ومتوقع من الضيف، الفلاح البسيط اللي عنده أرض صغيرة، إنه يشتغل برضه في أرض الارستقراطي ده مقابل عزومة البيرة.. نعزمك وتشرب كتير، وفي نفس الوقت تشتغل كتير.

إحنا نقدر نحسب كمية الذرة اللي موجودة في البيرة اللي اتشربت، ونقارن الكمية دي بكمية الذرة اللي زرعها الفلاحين بايديهم، الفلاحين المعزومين في الشعائر الدينية دي، حفلات بيرة الدرة، وبتنعقد في المصاطب الزراعية بتاعت الأرستقراطي اللي عازمهم. ونقدر نشوف كمياً ان الارستقراطي أو الامبراطور كسب كتير. دي طريقتي في تعريف “التبادل غير العادل/غير المتعادل”: كمية الموارد اللي تم استثمارها وكمية الموارد اللي تم منحها. العملية الإنتاجية تمت في سياق “تعمية ثقافية”، cultural mystification، كان شكلها للمشاركين كالآتي: ده تبادل عادل، ده راجل كريم، بيدينا كل البيرة اللي عنده، فكده إحنا راضيين نشتغل في أرضه، ما هو ربنا خلق الدنيا والناس كده، دي الأصول! بقى شكلها علاقة تبادل عادلة بس مش عادلة/متساوية “كميا”.

نطبق الرؤية دي للرأسمالية الحديثة: كلمة “المرتب”، كلمة “المكافأة”.. دي كلمات محملة بعوالم ثقافية.. حاول تربطها بالـ “مينكا” و”آيني” كلمتين من حضارة الإنكا بيوصفوا وقائع “التعمية الثقافية” الشعائرية دي، أصول وتقاليد في حقيقتها تعمية ثقافية، اتضحك عليهم بالرخيص.. بص على نفسك بأه.. خد خطوة إضافية.. وبص على المرتب والسعر.  النظرية الاقتصادية النيوكلاسيكية هي “الشعائر”، هي التعمية المعاصرة.. مفيش حاجة تهم الاقتصادي غير “السعر”: الاقتصاد التقليدي الحالي هو الطبعة الحديثة من الـ”شعائر”.. أكثر تعقيدا وصعب تجادل معاه، لكنه “تعمية/mystification”. فيه تدفقات “مادية” كتير في النظام العالمي. بص على أمريكا في وقت العمل المستثمر في السلع الصادرة والواردة.. أمريكا بتستورد 7 أضعاف اللي بتصدره من “وقت العمل”. الاتحاد الأوروبي بيستورد 5 أمثال “وقت عمل/مساحة أرض” اللي بيصدره. بنستخدم دلوقت مقاييس تانية غير الفلوس، أركن الفلوس على جنب بصفتها وسيلة قياس للتبادل وعدله/توازنه.

لو وصلنا لتعريف مُجرد لتراكم رأس المال هيبقى: تراكم رأس المال هو علاقة جدلية بين نوع من البنية التحتية التكنولوجية وقدرة معنوية/نفوذ معنوي بتؤدي/بيؤدي لتسهيل البرشطة claiming على موارد بعض الناس.

مش كل الناس اللي بيبرشطوا دول أشرار، مش قصدي كده. إمبراطور الانكا كان فاكر نفسه ابن رب الشمس، كان مصدق.. دونالد ترامب نفسه يمكن مصدق اللي هو بيقوله حتى لو مجنون، أو عشان مجنون. بتوع الاقتصاد مصدقين/مؤمنين بالعلم اللي بيسوّقوه. المسألة مش إن فيه ناس طبية وناس شريرة، هي رؤية للعالم مدمرة للغاية على المدى البعيد بس مش حتماً فيها قصدية تدمير واستغلال.

فكرة واحدة على ”ألف هورنبورج: كتابة التاريخ البيئي بنظرية النظام العالمي (المركز والهامش).. الفلوس والقيمة كمقاييس مزيفة للتبادل/التجارة

.