المشي مع الآخرين (1): الكتابة عن الطبيعة والبشر.. تعريف تطبيقي بمجال الإيكولوجيا البشرية

عمرو خيري

هذه المجموعة من المقالات بعنوان “المشي مع الآخرين” المقدمة في “قراءات” تباعاً، تأتي بإلهام من أفكار أستاذ الأنثروبولوجيا والمُنظّر تيم إنجولد، وهي أفكار سطرها في مقال له بعنوان “أنثروبولوجيا عالم واحد”، وقرأ مسودته في محاضرة في جامعة لوند في خريف عام 2016. هذه المقالات “المشي مع الآخرين” تتبنى فكرة إنجولد عن فهم بديل للعالم: بدلاً من النظر للعلاقة بين شيء وآخر متصل به بصفتها رباط بين نقطتين أو جمادين (مُثنى جماد)، فلننظر إليها (أية علاقة) بصفتها الفرع يخرج من الجذع (كما في شجرة).

يقول إنجولد إن الرؤية الأولى للعلاقات بين الأشياء (كما بين جمادين منفصلين) يستتبعها أن العلاقة، أية علاقة، بين شيئين تُفهم دائماً بصفتها “بينية” أو بين الشيء وآخر، وعلينا أن ننتقل منها إلى رؤية أية علاقة من منطلق “المشي إلى جوار الشيء، أي مسايرته”. بمعنى آخر  وبعيداً عن تعبيرات إنجولد المُجردة المُرهقة: بدلاً من أن أضع قضايا بعينها أو أفكار بعينها تحت الضوء وأكتب عنها بصفتها على مسافة منّي، سأكتب عما أشاء هنا وكأنني أسايره، أمشي معه وأوازيه، وأن أرى الأفكار تخرج كفروع بعضها من بعض دون مبالاة بتصنيف أو ترتيب للأفكار.. سأدع ما عندي يخرج إلى الورق وأنا أسير إلى جوار الفكرة وكأننا صديقين.

استفزني موضوع كتبه مؤخراً الصحفي المعني بالزراعة والبيئة هيثم خيري (وهو أخي) حول الجِمال في صحراء مصر الغربية، للعودة إلى قضية معرفية مسستها مساً خفيفاً قبل شهور، وهي العلاقة بين الطبيعة والبشر. قبل الحديث عن مقال الجِمال “النوق الحُمر” [نُشر في الأهرام التعاوني الورقي بهذا العنوان وأعيد نشره في موقع الفلاح اليوم بعنوان مختلف] فأعتقد أن أفضل تعريف عندي بمجال “العلاقة بين الطبيعة والبشر” سأجده في مقال لأستاذة الأنثروبولوجيا السويدية برنيل جوش بعنوان “أقدام تسير وراء حوافر” وفيه كتبت برنيل (الأستاذة في جامعة لوند) بحثها الميداني وسط قبائل الغوجار في الهيمالايا، وهي قبائل من رعاة الجاموس، تسير وراء الماشية في رحلات موسمية طويلة إلى حيث تعرف الماشية أنها ستجد المرعى. تقول جوش في مطلع المقال إن “جبال الهيمالايا نحتت للعالم أشكالاً مختلفة من المشي”، ثم تمضي إلى وصف رحلتها مع “غوجار الغابة” في رحلتهم وراء القطيع المهاجر وسط سلاسل الجبال من نقطة لأخرى في الليل الأسود دائماً، على مدار ليالٍ طويلة، ثم تقول إن إضافة إلى تناغم الطبيعة والبشر في فسيفساء متصل، فهناك رواية أخرى، سياسية، عن النظر للرعاة وقطعانهم في حركتهم كمشكلة تسعى الدولة لحلها. الدولة لا تحب الرحالة.

Tim_Ingold.jpg

تيم إنجولد

قال جيمس سكوت إن انشغاله بسؤال مُحير، هو “لماذا تكره الدولة الرُحل” قاده إلى كتابه “أن ترى كدولة“، لكن الكتاب انشغل بقضية مختلفة تماماً، أو هي تنظر إلى الصورة الأشمل التي يدخلها سؤال “لماذا تكره الدول الرُحّل”: كيف تفشل الدولة، أية دولة، في تحسين الحياة البشرية عندما تخطط. في الفصل الأول يحكي سكوت عن كيف خططت الدولة الحديثة في مطلعها (في أوروبا) الطبيعة ذاتها بما يؤدي إلى أكبر مكسب ممكن لأصحاب الشأن. كيف خُططت الغابات بحيث تنتج أخشاباً مع انتزاع كل طبيعي منها بخلاف إنتاجية الأشجار للخشب، وكيف فشل هذا المشروع لأن النظام الحيوي للغابة، المعقد للغاية وغير المفهوم للعلماء والساسة، سقط مع سقوط الغابة الطبيعية وحلّ مراعي أشجار الخشب محلها. خلاصة قول سكوت في كتابه أن كل تخطيط مُخلص تماماً للمنطق والاستفادة القصوى ينتهي بالفشل الذريع، وأن التفاصيل الصغيرة التي يعرفها “أهل الخبرة” بالمكان المحلي هي التي تحافظ على بقائه. أخذ العالم بقوة مسعى فاشل من حيث التعريف. الإدارة جُهد محكوم عليه بالانهيار دائماً، لأن كل شيء في العالم الطبيعي مُعقد، والإدارة هي تبسيط بالضرورة بالقدر الكافي لجعل المعقد مفهوماً ومقروءاً لأغراض جني الأرباح.

علوم الإدارة والإحصاء ومن ورائها الحُكم والسياسة هي محاولات للتبسيط المُخلّ الظالم لتعقيد الحياة.

9780300078152.jpg

أعود إلى مقال هيثم خيري “النوق الحُمر”: كتابة جديدة عن الطبيعة والبشر في مصر.. يتحدث الكاتب عن كيف أدار أهل المكان، الصحراء، توزيع مِلكية الجمال الكثيرة عليهم، من قبائل وعائلات، في نظام معروف منذ القِدم. يتحدث جيمس سكوت عن هكذا نظام في “أن ترى كدولة”.. يدل القارئ على العنصر المفقود الذي يؤدي غيابه دائماً لفشل الدولة في الإدارة: “ميتيس”، كلمة يونانية يستخدمها لوصف المعرفة المحلية لأهل المكان بموجوداته وظواهره، وهي المعرفة المتراكمة بصورة معقدة وتلقائية عبر أجيال، دون “قصد” أو “تخطيط” أو “إدارة” لتحقيق “أعظم استفادة اقتصادية ممكنة” لصاحب شأن يرى الطبيعة “مورداً” أو مصدراً لتراكم الثروة.. مثال آخر على الميتيس لتوضيحه؟ أقدام “غوجار الغابة” التي تسير وراء حوافر قطعان الجاموس الحافظ لطريقه في الليل عن ظهر قلب، لا لبيعه أو لأكله (الغوجار نباتيون) إنما لأن هكذا هو العالم أقدام تسير وراء حوافر، في نظر أهل ذلك المكان.

pernille_stor

برنيل جوش – أستاذة الأنثروبولوجيا في جامعة لوند

فهم رؤية البعض للعالم إذن كانت غاية برنيل جوش من مقالها عن الطبيعة والبشر في الهيمالايا، والخروج بمعطيات عن التنمية والبناء بتخطيط من الدولة وتحت إدارتها كان مقصد جيمس سكوت في أن ترى كدولة.. ثم مقال هيثم خيري عن الجِمال البرية التابعة لقبائل وعشائر في الوقت نفسه من أهل المكان، والقصد منه – كما “قرأته” – كشف علاقة البشر بالطبيعة في مكان بعينه في ارتباطه بحركة المجتمع والاقتصاد.

ثم هناك مقاصد مُحتملة كثيرة لهذا الصنف من الكتابة، مثل فهم علاقة البشر بالفلوس، وفهم تاريخ البيئة أو تاريخ التغير المناخي عندما بدأ البشر في التخلي عن الدائرة الطبيعية المنتظمة للحياة وانتقلوا إلى جوف الأرض وأخرجوا الفحم والبترول وسرطنوا العالم بالتلوث.

وهناك قصد آخر قرأت مقالاً آخر ضرب في عُمقه بجمال وعفوية مذهلة، هو “في مديح الدائرة المغلقة” للمُترجم الفذ بدر الرفاعي. سأحكي عن المقال ثم أحكي عن المقصد المتصل به. المقال عن ذكريات الكاتب من طفولته في الخمسينات في قرية في دلتا مصر، يتحدث عن أشياء كثيرة، بينها الاكتفاء الذاتي والحياة بدون فلوس أغلب أيام السنة، ودورة الحياة الطبيعية من الفجر لغروب الشمس ودورة إنتاج الإنسان لحياته في ارتباط شديد بالبيئة الطبيعية، بالأرض الزراعية والحيوانات والمواسم. القصد الذي أذكره أشار إليه الكاتب في العنوان “الدائرة المغلقة”، وهو فهم معنى “الجماعة البشرية – community” انطلاقاً من فهم دورة حياة البشر مع الطبيعة قبل العولمة وبعدها. قبلها – حتى السبعينيات في بعض التقديرات بالنسبة إلى مصر – كانت الجماعة البشرية [أهل القرية الواحدة مثلاً] في دائرة شبه مغلقة من عدة أوجه في معانقة مصيرية مع الطبيعة. بعدها، تحوّلت الجماعة البشرية الواحدة إلى امتدادات وشظايا على خريطة العالم، مع هجرة البشر للعمل في مُدن الخليج، وهجرة السوق العالمية إلى البشر في الدكاكين والإعلانات والسوشيال ميديا.

11694829_10153051588802499_7540867148247752379_n

لعل ما سبق يوضح أن هذا الرافد النادر كل الندرة من الكتابة الجامعة للبشر والعالم الطبيعي ثري للغاية وواعد بتمكين القارئ من الوقوف خارج قوالب الفهم المُعلبة التي ألفناها حتى أصبحنا لا نتصور رؤية للعالم خارجها. مقال “النوق الحمر” هو عن العلاقة بين البشر والطبيعة في الصحراء، في المكان الذي نتوقع أن نجد فيه الطبيعة، لكن منهج الكتابة وتصور الكاتب للعالم هو الأهم، ولا مانع إطلاقاً من تطبيقه على حياة البشر في أحياء القاهرة العشوائية أو “الراقية”. ولا مانع من تطبيق ركائز مقال بدر الرفاعي الرائع “في مديح الدائرة المغلقة” عن الحياة في دلتا مصر الخمسينيات، على قرية أخرى في الدلتا نفسها عام 2017. ربما عندما نكتب عن البشر والطبيعة في هذه الحالات قد نرى المفقود في دوائر عمران البشر المصطنعة الخاضعة للإدارة والتخطيط و”تحقيق أقصى استفادة اقتصادية ممكنة”، سنرى حدود العمران البشري وأسباب العلل من قبيل لماذا تفشل الثورات ولماذا يزيد الفقراء فقراً ويزيد الأغنياء غنى، ولماذا يتجه العالم إلى مزيد من التطرف والجنون ساعة وراء ساعة.

بعد انتهائي من المشي، من كل ما سبق، اكتشفت أن السابق تصلح أيضا تسميته “تعريف تطبيقي بمجال الإيكولوجيا البشرية”. لكن يُرجى العلم أن كتاب جيمس سكوت لم يُصنف بصفته ضمن مجال الإيكولوجيا البشرية، ولا مقال هيثم خيري ولا مقال بدر الرفاعي، لكن للقارئ، كل قارئ، رأي مختلف في التصنيف. هذه الشجرة من الأشياء أعتبرها في زمرة الإيكولوجيا البشرية التي لم أُعرفها، لكنها الصورةالتي يرسمها ما سبق، وفي القلب منها العلاقة بين البشر والطبيعة أينما وُجدوا ووجدت.

صورة المقال الرئيسية من تصوير بدر الرفاعي. 

.