دفاعاً عن معاييرنا “العالمية” المزدوجة: الأخلاق والنقاء والارتباك والعداوة بين “نحن” و”الآخرين”

مقال لـ صامولي شيلكه على موقع أليجرا – ترجمة: عمرو خيري

أدت سلسلتا الهجمات الإرهابية التي أصابت باريس هذا العام إلى سلسلة من المناقشات والاتهامات المتبادلة، حول الحزن والهوية والمعايير المزدوجة.

لست بحاجة لسرد التفاصيل التي نعرفها جيداً: أعمال القتل ضد مجلة تشارلي إيبدو والسوبرماركت اليهودي في يناير/كانون الثاني، ثم الهجمات على عدة مواقع ترفيهية في نوفمبر/تشرين الثاني، والتي أدت مجتمعة إلى إحساس قوي وعريض بالتضامن والاصطفاف، مع تشارلي أولاً، ثم مع باريس. في حالات عدّة، كان ذلك الإحساس بالاصطفاف يأتي مصحوباً بتعبيرات عن الخوف والكراهية تجاه الأقليات المسلمة والمهاجرين واللاجئين في أوروبا. صاحبه توسّع في الإدارة الشرطية لهذه الأقليات وتوسّع في أعمال المراقبة، واشتباك أوضح لفرنسا في الحرب الأهلية السورية.

أدى هذا كله بالتبعية إلى خطاب ناقد مناوئ يركز على النفاق وازدواجية المعايير فيما ذكرت: لماذا يُعد الهجوم على مدنيين فرنسيين هجوماً على الإنسانية يتطلب هذا الاصطفاف القوي؟ في حين أن الهجوم، على سبيل المثال، على المدنيين اللبنانيين لا يؤدي لهذه المشاعر القوية بالاصطفاف؟ لماذا كل هذا التأبين لباريس وليس لبيروت؟ في نوفمبر/تشرين الثاني 2015 سعى العديد من الناس في واقع الأمر إلى تمديد تضامنهم إلى بيروت ولأماكن أخرى عانت من هجمات مماثلة شنها مسلحو ما يُدعى بالدولة الإسلامية. لكن قائمة الجرائم الرهيبة سرعان ما أصبحت أطول من دمجها في “بوست” واحد على السوشيال ميديا. لم تطرأ موجة شبيهة من الحزن والتعاطف قبل شهر ونصف عندما أطلقت السعودية صاروخاً قتل 131 شخصاً كانوا في حفل زفاف في اليمن (الجارديان 2015).

لكننا عندما نعبر عن هذا الانتقاد لازدواجية المعايير، هل نهتم حقاً بمن قُتلوا في أعمال عنف مماثلة أو أسوأ في أماكن أخرى عديدة في العالم؟ هل نتعلم حقاً الإحساس بنفس مشاعر التضامن والحزن والخوف؟

أم هل نحاول حماية أنفسنا – عاطفياً – لا أكثر، من الرعب البالغ الذي تقرّبه منّا أعمال العنف تلك (وربما أيضاً لحماية تمركزنا المريح في مواقفنا الناقدة؟) الضروري بالنسبة لي هو أن نشعر بشكل غريزي بنفس إحساس الرعب والحزن الذي شعرنا به على رواد المقهى والحفل الباريسي في حالة ضيوف حفل العرس الذين سقطوا في اليمن.

Je_suis_Charlie,_Paris_11_January_2015_(3)الصورة: Oliver Ortelpa via Wikimedia Commons, CC BY 2.0

بعد واقعة تشارلي إيبدو، أصبح ذلك الإحساس بازدواجية المعايير المشغولة حصراً بأوروبا ظاهرا للغاية، وقت الصدمة إزاء حادث القتل الجماعي بدم بارد، مختلطاً بالدفاع عن حرية التعبير والاصطفاف إلى جوار فرنسا. في أعقاب تشارلي إيبدو تذكرت سياسياً ألمانياً تحدث في الإذاعة عن “قيمنا العالمية” التي يجب أن نُدافع عنها. أي شخص يفهم المنطق سيرى مشكلة “قيمنا العالمية” فوراً: إذا كانت قيمنا، ولصيقة بنا، فهي ليست عالمية. إذا كانت عالمية، فهي لا تخص أحداً دون غيره. لكن المنطق الأخلاقي (أو ما ينظّر فيه باحثو الأنثروبولوجي مؤخراً تحت بند “الأخلاق”) لا يحتاج لأن يكون متسقاً مع المنطق تمام الاتساق. ليست حرية التعبير في حد ذاتها، إنما حرية “تعبيرنا” هي المعرضة للخطر.. لكن يتم الزود عنها بصفتها قيمة “عالمية”.

الإحساس بأن “قيمنا” عالمية وأن الهجوم “علينا” هو هجوم على الإنسانية (ذكر هذا سياسي ألماني آخر في نوفمبر/تشرين الثاني 205) هو مثال جيد على آليات هذه المعايير المزدوجة: إنها تدمج التزاماً بحقائق وقيم أخلاقية عامة (أي التزامي بفكرة أن حقيقة وقيمة أخلاقية ما أعتنقها هي حقيقة وقيمة عامة، وكذا التزامي للحياة بموجبها) بالطبيعة المنحازة “الحصرية” اللصيقة من حيث التعريف بالتضامن والهوية. كما تشتمل على قدر لا بأس به من “التفكير-المزدوج” على غرار جورج أورويل، أي القدرة المُكتسبة بالتدريب على تعمد الابتعاد عن وصل ما يجب وصله، وأن يعتنق المرء آراء متناقضة ومتضاربة، ويتنقل بين التأمل والتدبر فيها على جانب، والإنكار والنسيان والتجاهل على الجانب الآخر.

لكن ليس هذا امتيازاً حصرياً للغرب الأوروبي-الفرانكفوني-الأمريكي. إذا شاهدت الأخبار على قناة الجزيرة العربية (وبها عاملين مختلفين وسياسة تحريرية تختلف تماماً عن الجزيرة الإنجليزية)، فسوف ترى أن المسلمين تحت الهجوم طوال الوقت في شتى أنحاء العالم – المسلمون السنة على وجه التحديد. الأحداث التي يكون المسلمون فيها هم الطرف القائم بالهجوم – أو النزاعات التي لا تُترجم إلى منطق “المسلمين والآخرين” – لا تنال نفس القدر من الاهتمام. ليس هذا تلفيقاً، فهي أخبار جيدة التوثيق. إنما الأمر يرتبط بما يُختار للتركيز عليه، بما تراه السياسة التحريرية وجمهور المتلقين مهماً، وما الجرائم التي ترقى لمرتبة الجرائم ضد الإنسانية، وما الجرائم التي ليست بهذه الأهمية.

في الغرب أيضاً ليست المعايير المزدوجة هي بالضرورة إعادة إنتاج لحس التفوق الإمبريالي المشغول حصراً بالمنطلقات الأوروبية، في مواجهة الأمم الأخرى. أنا على سبيل المثال عندي معايير مزدوجة منحازة باتجاه اليسار، تعبر عن نفسها في تفاعلات عاطفية مختلفة إزاء الجرائم التي ترتكبها الأطراف المختلفة. بعد تشارلي إيبدو وهجمات نوفمبر/تشرين الثاني في باريس، أحسست بالغضب والخوف وسعيت لسبل للتفاعل لا تعيد إنتاج الكراهية الوطنية الجديدة تجاه المسلمين في أوروبا. وجهت الطاقة الفكرية والعاطفية نحو فهم الأسباب الاجتماعية للتطرف الإسلامي حتى لا أدع غضبي يتحول إلى كراهية عنصرية. في أعقاب الهجمات الإرهابية على أوسلو في عام 2011، كان رد فعلي مختلفاً. عندما تبين أن من ارتكب الهجمات هو أنديرس بريفيك، اليميني الأبيض المتطرف، تنفست الصعداء.

كان سفاحاً يتسق مع طريقة فهمي للعالم، كان عدواً يمكنني أن أرفضه وأكرهه كيفما شئت. لم أشعر بالحاجة للتمييز بين تطرف اليمين الشرير على جانب، والقوميين الأوروبيين العاديين غير الإرهابيين على الجانب الآخر، الذين يأملون في حياة مسالمة، مع الاحتفاظ بخصوصيتهم الثقافية وملكيتهم لأرض الوطن الأوروبي.

قد لا تكون قيمنا عالمية وللجميع، لكن معاييرنا المزدوجة تبدو سمة عامة من سمات “الأخلاقية”. وعندما نتهم الغير بازدواجية المعايير، فربما كان هذا وسيلة لتعزيز وحماية معاييرنا المزدوجة. لكن هذا التحالف بين الأخلاقية والتضامن لن يكون مشكلة لولا الوجه الآخر لعملة التضامن: العداوة. يمكننا أن نهتم بصدق لما هو صحيح وخيّر، وفي الوقت نفسه نقف على أهبة الاستعداد للهزيمة والتدمير، لمن يهددون بحرماننا من حقوقنا وخيرنا.

هذه سمة من سمات الأخلاقية والأخلاق تقلقني منذ فترة. تم ارتكاب العديد من كبرى الجرائم في زمننا وفي التاريخ الحديث من أجل قضايا خيّرة. لا أعني فحسب أن القضايا الخيّرة كانت واجهة مزيفة لأعمال شريرة (بالطبع يحدث هذا كثيراً أيضاً)، إنما أعني أن القضايا الخيّرة كانت دافعاً لجرائم رهيبة منظمة. نكون مخطئين كل الخطأ لو حسبنا أن متطرفي الدولة الإسلامية مهاويس أو مجانين أو منزوعي الإنسانية فحسب. الجهاد مجهود أخلاقي يهدف إلى غايات أخلاقية سامية. بالمثل، أعتقد أن الحروب التي تخوضها الولايات المتحدة وفرنسا ودول أخرى في الشرق الأوسط قد لا تُفهم أبداً، ببساطة، بصفتها سعي خبيث للسلطة والقوة. أعمال القتل التي ترتكبها هذه الدول وأطراف الأخرى لها بدورها وجه الغاية الأخلاقية التي تهدف لعدل الأعوج وتصليح ما أفسده الغير، ولإرساء النظام الأخلاقي الإيجابي الحقّ.

هذا الفهم للأخلاقية والأخلاق كمصدر محتمل للشر له جذور من تنشئتي. نشأت شيوعياً في فنلندا، وهو بلد رأسمالي كان محايداً وقت الحرب الباردة، وكانت تربطه علاقات طيبة بالاتحاد السوفيتي وفيه حزب شيوعي لا بأس به. كطفل ومُراهق، كنت أذهب كل صيف إلى معسكرات صيفية للرواد الديمقراطيين. كانت أوقاتاً طيبة. وجدت أصدقاء رائعين، وتعلمت مهارات البقاء في الطبيعة، ونقلت قبلتي الأولى، وتدربت على فهم العالم كجدل تاريخي يدور حول علاقات الإنتاج. كان تعليماً أخلاقياً (أو غرس أخلاقي، كما يصفه الأنثروبولوجيون) بقدر ما كان تدريباً سياسياً وتدريباً على التضامن الدولي والمساواة والحرية والوعي الطبقي والنضال الثوري. إلى الآن، ما زلت أثمّن كثيراً أغلب هذه القيم.

لكن تلك الحركة التي انتميت إليها يوماً – والتي ما زالت مألوفة ومريحة لي – ارتكبت أغلب وقائع الإبادة الجماعية الأبشع في القرن العشرين. ولم يحدث ذلك مرة واحدة، لكن بشكل متكرر. في روسيا والصين وكمبوديا ومناطق أخرى كثيرة.

الكثير من رفاقي اليساريين يلتفون حول هذه المشكلة ويميزون بين الاشتراكية الحقيقية الطيبة، والاشتراكية المشوهة، ستالينية كانت أو ماوية، إلخ. هذا أشبه بطريقة تفكير الليبراليين الغربيين في الليبرالية “العامة” الطيبة مقارنة بالتشوهات التي تُدخلها النظم السلطوية على الليبرالية، أو كيف يميز أتباع أية طائفة دينية بين الرسالة الحقة لدينهم والطريق غير القويم الذي يتبعه الضالون من أتباع الدين نفسه. لا يمكنني التفكير بهذه الطريقة. أرى أن كل مبدأ للحق والخير يمكن أن يتحول لأرضية للشر والضلال. ليست هذه نفس مشكلة النزاع بين القيم والتقاليد الأخلاقية، حيث ما هو عادل لشخص يعتبره غيره جريمة، رغم أن مثل هذه الخلافات هي جزء من المشكلة.

740px-JStalin_Secretary_general_CCCP_1942_flipped.jpg

ما أعنيه هو أن لحظة إدراكنا لما هو حقّ وخير، نقدم على فعل ما لا نقبله أبداً من الآخرين. أو بمعنى آخر أقل “نسبية”: وقتها نُلحق بالغير المعاناة وندمر حياتهم عمداً وبشكل ممنهج.

كباحث أنثروبولوجيا يعمل في مصر، فهذا شيء شهدت عليه كثيراً خلال السنوات الماضية.

على سبيل المثال هناك ذلك النقاش المثير للاهتمام للغاية حول تشارلي إيبدو الذي لم يحدث في أوروبا. حدث في مناطق أخرى من العالم، في مصر مثلاً: هل أعمال العنف هذه حقة ومشروعة أم لا؟ هل من الحق أو الخير – أو لا – أن تقتل أغلب العاملين في مجلة ساخرة تكررت إهانتها لقيم ورموز مقدسة وحساسة بالنسبة إليك؟ هل “الموضوع عادي” أم لا، أن تحاول قتل أكبر قدر ممكن من المدنيين لتؤذي دولة تشن حرباً على شعب تدعمه وتصطف إلى جواره؟ (لكن بالطبع هناك نقاش في الدول الأوروبية حول ما إذا كانت الحرب والمراقبة هي أفضل السبل لاستبدال تحدي وتهديد المتطرفين الجهاديين. ذلك النقاش فيه أوجه تشابه كثيرة).

قال البعض تعبيراً عن آراء مختلفة بدرجات: “نعم، يستحقوا ما حدث لهم، ها قد تعلموا درساً” ويقول آخرون: “لا، هذا غير مقبول” ويقول كثيرون: “ربما هذا غير مقبول لكن انظر ماذا يفعلون بالفلسطينيين”، ويهرب غيرهم إلى واحة أمان نظريات المؤامرة التي تعفيهم من مواجهة الضيق الأخلاقي الملازم للمرء حين يفعل شخصاً أمراً لا يراه مقبولاً لأجل شيء يؤمن به كثيراً. لا شيء مدهش فيما سبق، ونرى تفاعلات مماثلة – هيكلياً – إزاء أعمال عنف أخرى في مناطق أخرى من العالم. الجزء الأكثر إثارة للقلق هو كيف تتبدل الآراء بناء على مَن قتل مَن.

بعض من يقولون في شأن تشارلي إيبدو أنه ليس مقبولاً قتل الناس لأنهم أذوا ما تراه عزيزاً ومقدساً لديك، دعموا مؤخراً قتل مناصرين للإخوان المسلمين وإسلاميين آخرين في أعقاب ما يُسمى بالانقلاب العسكري لعام 2013 (أو الثورة المضادة كما أفضل أن أسميها). اعتمدت الثورة المضادة على إراقة دماء أعدائها ونزع صفة الإنسانية عنهم لدرجة مروعة، وهي مستمرة في هذا إلى اليوم. من الحجج الأساسية التي يتم سوقها لشرعنة قتل المؤيدين للرئيس المعزول كانت أنهم إرهابيون وخونة للأمة. لم يكن هذا يعني أنهم ارتكبوا حقاً أفعالاً إرهابية مادية. رفضهم لرؤية القيادة العسكرية، الرؤية القومية، جعلتهم إرهابيين. كانوا يؤذون ويهددون ما هو عزيز ومقدس لعدد هائل من المصريين شبوا على الإيمان بالقومية العسكرية في أعقاب ثورة الضباط الأحرار قبل 60 عاماً.

الكثير من أصدقائي من بين هؤلاء الذين – وبدرجات متفاوتة – صدّقوا سردية النضال الوطني ضد الإرهاب. بعضهم غير رأيه عاجلاً أو آجلاً. وبعضهم الآخر ظلوا صامدين على رأيهم حتى اليوم. حاولت أن أبقى صديقاً لهم. دعمهم لقتل خصومهم السياسيين كان أخلاقياً من حيث تتحدث الأنثروبولوجيا الآن عن الأخلاق: تأمل في العلاقة بين القيم والأفعال، وزرع هذه القيم على هيئة سلوكيات.

“الأخلاق” ترتبط عادة بما هو خيّر، وتعلم فعل الشيء الصحيح، وأن يكون المرء مسؤولاً تجاه الآخرين ومستجيباً لاحتياجاتهم. لكن الأخلاق لا تنحصر على أن يكون المرء إنساناً بعينه، يعيش مع الآخرين في مجتمع، وأن يكون منفتحاً ومستجيباً أيضاً تجاه الغرباء. (لكنني أتفق مع مايكل لامبك (2015) في قوله أن العالم سيكون مكاناً أفضل لو كانت الأخلاق تُعرف هكذا حقاً). الأخلاق أيضاً متصلة بالنزاع والعداوة. وعندما يتجادل الناس حول ما هو الخير والحق والعمل المسؤول كونه قتل العدو، تكشف الأخلاق إذن عن الجانب المظلم للشر الإنساني، الذي يحتاج لأن يُنظر إليه بجدية.

أن يعيش المرء بمقتضى موقف أخلاقي، يعني أن يشتبك في حالة من التأمل – وحده أو مع الغير غالباً – إزاء ما هو الفعل الصحيح، ما هو المهم، وما الواجب عمله. على المرء أن يزرع تلك التأملات في سياق من الأفعال والسلوكيات. لكن هذه التأملات الأخلاقية تتطلب أيضاً نسياناً أخلاقياً. أن يكون لديك إيماناً بشيء، فهذا يعني أن تتشكك في الأشياء التي قد تتعرض لهذا الإيمان وتقوضه. الأفضل حتى ألا يفكر المرء في هذه الأشياء بالمرة. على المرء أن يطور إحساسه وسلوكياته التي تجعله ساخراً أو متسامياً أو غاضباً تجاه الأعمال والادعاءات التي يمكن أن تنافس إحساسه بالحق والخير. على المرء أن يستعين بمعايير مزدوجة دون أن يلاحظ أنه يفعل هذا. باختصار، على المرء أن يحصن نفسه من الآراء وسبل العيش التي تزعج إحساسه بالحق والخير، وهو الإحساس الذي اجتهد كثيراً لكي يتبناه ويصبح ملكه.

تكون حالة “النسيان الأخلاقي” مهمة وقت الصراع على تعريف الحق، أكثر من أهميتها في أي وقت آخر. هذه هي لحظة المواقف الواضحة والثابتة، لحظة الفعل، لحظة النقاء. هي اللحظة التي يصبح ضرورياً فيها ألا ترى الأمور بعين عدوك، وألا تشكك في موقفك، إنما أن تمضي مع تيار الغضب الحق. النقاء مسألة قذرة.

فيما يخص الثورة المضادة في مصر، توصلت إلى نتيجة مفادها أن أحياناً ما يصبح الارتباك والضعف هما أفضل حماية ممكنة من النزوع المحتمل إلى شرّ الأهداف الأخلاقية (لا سيما النقاء الأخلاقي).

“في الوقت الذي يُستثمر خلاله كل هذا القدر من العواطف والانحياز الأخلاقي لأجل تهيئة وحماية العداوة والنقاء، قد يصبح الضعف فضيلة. أن تكون جباناً فهذا يعني إنقاذك من المواجهة الشجاعة المدمرة. الإحساس بالعجب والارتباك قد يصبح “ضد” التصميم الراسخ والنسيان لما يجب تذكره”.

بالطبع هناك جُبن سلبي، وارتباك مُدمر. لكن في عالم مزدحم بالأفكار النقية المتضادة التي تلغي بعضها البعض تماماً، فهناك أيضاً إحساس بناء بالارتباك مبعثه الفشل في الحفاظ على حدود النقاء والعداوة، يجبر المرء على النظر في عين عدوه ليرى نفسه فيها. ليس هذا ارتباكاً مبعثه إدراكاً مثالياً سعيداً بـ”الآخرين” بصفتهم أشخاص لطفاء ومتعاطفين مثلنا “نحن”. هذا الإدراك لابد لبس في تعريف كل من الطرفين في أغلب الحالات. للوصول إلى حالة من السلام، على المرء أن يدرك أولاً حقيقة العداوة. الحق أن الطريق إلى السلم قد تكون قاعدته وخطوته الأولى هي إدراك أننا “نحن” نتسم بنفس شر وعنف “الآخرين”، وأن الأمور يجب ألا تبقى هكذا”.

هذا الإدراك قد يمنعنا من محاولة تدمير حياة أعدائنا. لكنه لن يُنهي العداوة بصفتها من سبل فهمنا نحن البشر لبعضنا البعض. لن يمنعنا من أن نكون جزئيين ومنحازين في مواقفنا. لن ينعنا من اعتناق المعايير المزدوجة. الحق أن من الجيد التمتع بقدر من ازدواجية المعايير.

كنت مؤخراً طرفاً في نقاش مع باحثين أنثروبولوجيا آخرين حول إلى أي درجة علينا أن ندرك كيف تسعى مجموعة معينة من الناس إلى الكمال الأخلاقي كأنطولوجيا (ما يمكن معرفته) كاملة، وإلى أي درجة علينا أن نحلل ونستكشف هذه المساعي بسبب تبعاتها المقلقة (فاضل وفرناندو 2015؛ شيلكه 2015). كان النقاش يدور حول السلفيين تحديداً، لكن أعتقد أن الأسئلة نفسها يجب أن تُطرح أيضاً فيما يخص الشيوعيين الفنلنديين والقوميين الأوروبيين والمؤيدين للحكم العسكري المصريين.

من السبل القاطعة لتلخيص النقاش هي أن نسأل: أي طرف هو الذي يجب أن نعترف بمعاييره المزدوجة، وأي طرف علينا أن نتحدى معاييره المزدوجة؟ عندما ينعم المرء بالراحة التي تأتيه عند التحلي بالبُعد النقدي، تبدو الإجابة سهلة: يجب تحدي المعايير المزدوجة التي تفرضها الجيوش والقوى الاقتصادية بنفسها على الآخرين. والمعايير المزدوجة يعتنقها أناس يعانون من الضعف والتهميش يجب أن يتم التعامل معها بجدية بصفتها أنطولوجيا (ما يمكن معرفته) في حد ذاتها. لكن النافذين في موقع يمكن أن يكونوا مهمشين في موقع آخر، والعكس صحيح. لا يمكن أن نتوصل لإجابة عامة على السؤال، بسبب الإلحاح العاطفي للسؤال وبسبب الحاجة إلى طرحه بطريقة معينة تستند إلى موقعنا منه.

يعيدني هذا إلى عنوان مقالي: دفاعاً عن معاييرنا “العالمية” المزدوجة”. في الربيع الماضي عندما بدأ الناس ينشرون شعارات “أنا تشارلي” على السوشيال ميديا لم أفعل مثلهم. أحسست بانعدام الراحة في الدفع باتجاه الاصطفاف على خط الهوية في رسالة “أنا تشارلي”. هناك مجموعة من أصدقائي، فنانين كاريكاتير من هولندا أصبحوا جميعاً “أنا تشارلي”. إذا لم ينحازوا لهذه الرسالة كنت لأغضب منهم. بالنسبة لفنان الكاريكاتير، فألا يكون “أنا تشارلي”، فهذا يعني نقص لديه في ضرورة التضامن المهني.

دون قدرتنا على التحلي بأحاسيس قوية تجاه الشرور التي تقترب منّا، نتحول على الأرجح إلى كائنات تهكمية. لن تبقى العائلات متماسكة رغم النزاعات الداخلية. لن يبقى هنالك إحساس بالتضامن بما يتجاوز الإعلانات المبهمة عن التضامن. دون عدو تشعر نحوه مجموعة معينة بوجودها أو بقضية معينة تخصها، قد تمر الكثير من الشرور دون أن يلاحظها أحد. لكن هذا يعني أيضاً أن النضال لعالم أفضل يتولاه أشخاص يهتمون ببعض الناس أكثر من غيرهم من الناس.

1806225034_50df5b8ba4_o.png

الصورة Paul Downey, CC BY 2.0

في كتابه عن العلمانية والقانون في مصر، يذكر حسين عجرمة (2012:193) محاميا إسلاميا يدافع عن المعتقلين السياسيين الذين يشاركهم في التزامهم السياسي والديني. يقول المحامي إن النشطاء الحقوقيين اليساريين والليبراليين منافقين؛ لأن الاهتمام بالجميع على قدم المساواة غير ممكن إنسانياً: العمل الجاد يتطلب طاقة وتصميم لا يمكن أن تأتيك إلا فيما يخص ناسك والقضايا الذين تؤمن بها حقاً. في مقالها عن نشاط حراسة الحدود الأوروبية تشير داتشادينوفسكا (2014) لكيف يعبر حرس الحدود اللاتفيون عن إحساس بالتضامن تجاه رجل من جورجيا وصل إلى الحدود ولم تكن معه أوراق رسمية لأنه “واحد منا”. لكن لا تظهر نفس هذه المشاعر من حرس الحدود تجاه اللاجئين الصوماليين.

من هذا المنطلق، فالمعايير المزدوجة هي بالضرورة ملتبسة ومبهمة. من الجيد أن يتحلى بها المرء لأنها تعطينا الطاقة والتركيز لمعالجة بعض الشرور. هي خطيرة، لأنها تسهل علينا للغاية ألا نبالي بالشرور الأخرى – لا سيما الشرور التي نرتكبها “نحن”. فضلاً عن هذا – وأرى هذه أخطر نقطة – فهي تدفع باتجاه حتمية رسمنا للحدود التي تحمينا من الارتباك إزاء من هم “نحن” ومن هم “الآخرين”.

المشكلة الأعمق إذن لا تكمن في عدم اتساق مواقفنا الأخلاقية ولا في النسيان الذي نمارسه من خلال ازدواجية المعايير التي لا تتسق مع إحساسنا بالخير والشر. طالما نحن قادرون على أن نشعر وننزعج ونرتبك، يمكننا أن نغير مواقفنا وأن نتعلم، وأحياناً يمكننا حتى أن نرى أنفسنا من وجهة نظر العدو. إن مايكل لامبك (2015) حين لم يركز على لحظات العداوة، بل على لحظات “الحكمة العملية” التي تمكننا من التنقل بين التقاليد غير المنطقية، قدم نظرية أوضح لتأويلات مثل هذه المواجهات.

تركيزي على الارتباك بصفته أمر قيّم أخلاقياً يمكن اعتباره حالة محددة واضحة من حالات التأويل هذه المحتملة.

تكمن المشكلة الأعمق في عمليات المواجهة والتجذر الأخلاقي التي تتعيش على النقاء والطهارة، على الحدود المطلقة شديدة الوضوح. في عمله حول العنف في باكستان في مطلع التسعينيات أظهر أوسكار فيركايك (2004) كيف سُلط الضوء على أفكار النقاء والانقسام المطلق وتأكدت بصفتها حقة وسليمة في لحظات العنف ذاتها. في أغلب مواقف الحياة العادية، يمكننا اعتناق هذه الأفكار النقية وفي الوقت نفسه يمكننا أن نوافق على حلول وسط من حيث الممارسة، دون فقدان سلامة الأفكار. تنفيذ الأفكار يتطلب قطيعة مع العديد من الحلول الوسط غير السليمة أخلاقياً، والتي تؤدي في الحقيقة إلى السلام. الاستمرار في تنفيذها يتطلب صراعاً ضد كل القوى التي قد تقتطع منها للوصول للحلول الوسط، بما يشمل قوة قدرتنا على أن نرتبك. تطبيق مُثلنا النقية وفرض الحدود الناصعة دائماً بيننا وبين الآخرين، بين الخير والشر، يتطلب صراعاً مستمراً. كثيراً ما يأخذ هذا الصراع صورة الحرب.

في هذه اللحظة، يبدو أن الحكومة الفرنسية قد ألزمت نفسها بهذا بحذافيره: خوض حرب تؤكد حقيقة مدمرة. هي نفس الحرب التي يريد الجهاديين بطموحاتهم إلى يوم القيامة خوضها. إنها حرب – كما أخشى – تقدم المزيد والمزيد من فرص تهيئة متضادات مطلقة، وأن تدمر أكثر بكثير من المناطق الرمادية الخالية من النقاء، تلك المساحات التي قد تضايق نسياننا المتعمد لبعض الشرور، وهي نفسها المساحات التي يمكن أن يتحقق فيها السلام.

شكر وتقدير

يستند هذا المقال إلى ورشة عمل “تفسيرات أنثروبولوجية لأخلاق وجماليات العنف في أعقاب هجمات تشارلي إيبدو” في الاجتماع السنوي لجمعية الأنثروبولوجيين الأمريكية في دنفر، كولورادو، بتاريخ 19 نوفمبر/تشرين الثاني 2015. أتقدم بكل الشكر للمنظمين والمشاركين في الورشة: سيسيل داجتاس، سيرتاك سيليك-أوغلو، إليان أوليفانت، جينيفر سيلبي، إيفان ديفدسن كالمار.

المراجع

Agrama, Hussein Ali. 2012. Questioning Secularism: Islam, Sovereignty, and the Rule of Law in Modern Egypt. Chicago and London: University of Chicago Press.

Dzenovska, Dace. 2014. “Bordering encounters, sociality and distribution of the ability to live a ‘normal life’”. Social Anthropology 22(3): 271–287.

Fadil, Nadia and Mayanthi Fernando. 2015. “Rediscovering the ‘everyday’ Muslim: Notes on an anthropological divide.” HAU: Journal of Ethnographic Theory 5(2):

The Guardian. 2015. 29 September: “Missile attack on Yemen wedding kills 131.” 

Lambek, Michael. 2015. “The hermeneutics of ethical encounters: Between traditions and practice.”HAU: Journal of Ethnographic Theory 5 (2): 227–250.

Schielke, Samuli. 2014. “There will be blood: Expecting violence in Egypt, 2011-2013.” ZMO Working Papers 11.

Schielke, Samuli. 2015. “Living with unresolvable differences: Reply to Fadil and Fernando.” HAU: Journal for Ethnographic Theory vol. 5(2)

Verkaaik, Oskar. 2004. Migrants and Militants: Fun and Urban Violence in Pakistan. Princeton: Princeton University Press.

.