طبقًا للسجلات الرسمية، فإن معدل البطالة فى جنوب إيطاليا يقل كثيراً مع التقدم فى السن، وبشكل أكبر مع تقدم مستوى التعليم، ففى عام 2013، وصل معدل البطالة إلى 51% لمن تتراوح أعمارهم بين 15 و24 عامًا، و30% للفئة العمرية 25-34 عامًا، وأصبح 16% للفئة العمرية 35-44 عامًا. وفى العام نفسه، وصلت البطالة إلى 56% لمن تتراوح أعمارهم بين 15 و24 عامًا من غير المتعلمين أو من أكملوا تعليمهم الابتدائي أو من هم بدون تعليم، و54% لمن أكملوا المرحلة الإعدادية، ويصل إلى 50% للحاصلين على شهادة الثانوية أو التعليم الفني الثانوي، وبالمثل، لمن تتراوح أعمارهم بين 25 و34 عامًا، يصل معدل البطالة إلى 36% للحاصلين على شهادة الثانوية، و30% لمن حصلوا على شهادة جامعية، وعندما يصل عمر المرء إلى 35 عامًا فإن فرص الحصول على وظيفة تكون أكبر لمن حصل على شهادة جامعية.
وجرانو ليست استثناء بأى حال، فالكثير من أصحاب التعليم العالى من قاطنى المدينة لم يتمكنوا من إيجاد وظائف مستقرة حتى وصلوا إلى أواخر الثلاثينيات وأوائل الأربعينيات من عمرهم، وكما أشرح فى كتابى القادم، الذى يركز على كيفية استخدام وسائل التواصل الإجتماعى فى جنوب إيطاليا، فهذه المشكلة ترجع إلى عدة عوامل، أولها، والشىء الأكثر أهمية، أنه لا حاجة لتخصصاتهم فى سوق العمل، ولذلك عادة ما يلجأ المتخصصون فى العلوم الإنسانية للعمل مؤقتاً فى السياحة أو خدمات التجزئة، ثانيًا، هناك ظروفاً اجتماعية واقتصادية محددة تمنع المواطنين من تغيير المسار المهني أو تحقيق تقدم في مجال ريادة الأعمال. غير أن تركيبة المجتمع الإيطالى تتيح للأفراد من سن صغيرة الانخراط فيه، وأن يكونوا أوفياء له، رغم أنهم من مسارات ثقافية ومعرفية متباينة، كذلك الفرق الشاسع فى تعريف الطبقة العاملة والمثقفون الذين يعملون فى المجال العام، ثالثًا: الأفراد الذين تعلموا لفترة طويلة فى جامعات عريقة فى روما وبولونيا أو ميلانو يملكون تحفظ كبير على الانضمام للنظام المحلى للشبكات، الأمر الذي أدى لأن يعمل الكثير منهم فى وظائف جيدة كالخدمات العامة.
لذلك، كان لابد أن يواجهوا المشكلة التالية: كيف يمكنهم أن يفعلوا شيئًا مربحًا بينما يخدمون رأس مالهم الاجتماعي والثقافي. الإجابة كانت من خلال الفيسبوك، وهذا أمر محير لأن معظم هؤلاء الناس إما لديهم مشاعر متناقضة تجاه وظائفهم، أو أنهم يكرهون وبصدق الخدمة التى يقدمونها.
دعنا نأخذ بيانكا كمثال، هي امرأة تبلغ من العمر 42 عامًا، لا تعمل، وحاصلة على درجة الماجستير فى الجغرافيا. لم تحتج أكثر من هاتف محمول لتنضم إلى عالم الفيسبوك، وبالفعل انضمت بيانكا منذ شهور قليلة، وواظبت على تصفح الفيسبوك، بشكل أساسى لأنها تحتاج لأن تكون جزءاً من صفحة أنشأتها مجموعة بيئية صغيرة، وتستمتع الآن بنشر أشياء عن مشاكل اجتماعية وبيئية، وفى بعض الأحيان سياسية، وهي دائماً ما تأخذ مواقف شجاعة وثاقبة، واكتسبت نتيجة لما تفعله سمعة طيبة بصفتها ناشطة اجتماعية وبيئية.
سلفاتور، رجل يبلغ من العمر 36 عامًا، يحمل شهادة عليا فى الأداب ولكنه لم يحصل على عمل بشكل دائم، وهو عضو فعال جداً فى أحد الأحزاب اليسارية، اشتهر كشخص ذكي وفكاهى، ويهتم بنشر تعليقات على الأوضاع السياسية للبلاد، ويشارك أصدقائه الأخبار المرفقة بتعليقاته والتى عادة ما تجذب عدداً كبيراً من التعليقات والإعجابات.
فى الواقع لم يكن بيانكا وسلفاتور هما الوحيدان من أصحاب التعليم العالى الذين فعلا ذلك، فكثيراً من العاطلين الذين حصلوا على تعليم عالي بدأوا فى استخدام الفيسبوك بكثافة خلال العامين الماضيين، وعلى ما يبدو فإن لهذا علاقة ببناء والإعلان عن رأسمال ثقافي معين. ولأنهم فى حاجة ملحة لأن يعبروا عما يشعرون به أمام معارفهم، والإعلان عن أفكارهم، ومهاراتهم ومواهبهم، وهو ما ليس مطلوبًا على المستوى المحلى، من ثم وجدوا أنفسهم مطالبين بأن يوضحوا أفكارهم الخاصة تلك فى وسائل التواصل الاجتماعى، وأتاحت لهم كثرة الفرص والمنافذ التى يطلون منها على العالم الافتراضى ذلك، لكنهم حصروا أنفسهم فى مجالاتٍ غير مثمرة، وساهموا بتعليقاتهم البارعة فى الشأن السياسى العام فى إيطاليا، وعادة ما كانوا يشاركون بأفكار فلسفية وأشعار، والفن والتصوير، لكن مساهمتهم المستمرة فى الفضاء العام أثمرت – على عكس المتوقع – عن إيجاد وظائف منخفضة الأجر فى العديد من الفعاليات الثقافية والاجتماعية التى تعقد خلال العام فى منطقة جنوب سالينتو، ومع ذلك تحظى هذه الوظائف بتقدير كبير، ذلك إنها تدعم فكرة رأس المال الثقافي التي يستهدفها المواطنون، وفى بعض الحالات، يقوم بعض الأفراد بإنشاء جمعيات بيئية صغيرة، ومجموعات مهنية، أو البدء فى التعاون لتشجيع وتعزيز الأعمال الفردية.
يعد هذا الأمر محتملًا فى محيط العائلات البسيطة والمجتمع المحلى الذى يدعم الاحتياجات الاقتصادية الأساسية. وهكذا، فإن امرأة فى الأربعينيات من عمرها ما كانت ستحصل على وظيفة ثابتة إن لم تكن حاضرة على الفيسبوك.. لقد شعرت أنها تعتمد كليًا على عائلتها. فجسديًا، تعيش فى بيت مملوك لعائلتها، أما أكاديمياً واقتصاديًا، كانت عائلتها تدعمها فى دراستها الجامعية لثمان سنوات، وعوضًا عن ذلك كان الفيسبوك الوسيلة الأسهل لتثبت لعائلتها وللمجتمع بأسره أنها لم تكن عديمة القيمة، فكانت وسائل التواصل الاجتماعى هى المكان الوحيد فى جرانو الذي مارست فيه استقلاليتها ورؤيتها النقدية.
فى الوقت نفسه، يفضل معظم الشباب العاطلين أصحاب التعليم العالي وضع أنفسهم خارج الطريقة الأكثر انتشارًا واتساقًا التى تقع فى الوسط بين الفضاء المحلى العام وبين الفضاء العام عبر الأنترنت كما ناقشت من قبل. إنهم يستخدمون وسائل التواصل بطريقة واضحة وبسيطة نسبيًا، ذلك إنهم يعبرون عن أفكارهم المحددة فى غياب بيئة العمل المناسبة التى من شأنها استيعاب مؤهلاتهم ومعرفتهم، لكن ما يثير الدهشة أن تلك الطريقة هى ما أعطتهم القدرة على أن يشكلوا الجيل الجديد من الانتلجنسيا المحلية. كان هذا المستقبل غير واضح المعالم هو الطريق الوحيد الذي أتاح لهم استعادة الثقة والمكانة الاجتماعية التي تهشمت جراء أوجه عدم الاتساق الشديدة التي يعاني منها المجتمع حالياً.