السندباد يهاجر إلى جمهوريات الموز: رواية “مهاجر غير شرعي”.. ملحمة في الجغرافيا البشرية

كتب – عمرو خيري

الشاب المصري جلال أعلن لأسرته فجأة على مائدة إفطار رمضان ذات يوم، أفترض أنه في أواخر التسعينيات، عن أن شنطته جاهزة وأنه سيتجه بعد ساعات قليلة إلى مطار القاهرة في طريقه إلى الإكوادور التي سيذهب منها إلى أمريكا! هذا هو مفتتح رواية “مهاجر غير شرعي” للروائي جمال عمر، الصادرة عن دار الثقافة الجديدة. في هذه الرواية التي أراها تنتمي إلى تيار الكتابة الواقعية (والعلم عند الله) يفتننا النص بملحمة لا تقل في حجمها عن أسفار السندباد.

قال لي صديق عزيز منذ مدّة، قبل أن أدخل عالم هذا النصّ، إن خامس أكبر أمّة في العالم هي “أمة المهاجرين” الذين يتحركون بطول العالم وعرضه بحثاً عن “حياة جديدة”، وأفراد هذه الأمة يتراوحون بين الشغيلة الشقيانين في أعمال البناء والخدمة بأنواعها، إلى كبار المهنيين والأكاديميين، الذين يتنقلون من كل الدول إلى كل الدول. هذه ظاهرة يقع العالم النامي في القلب منها، ولم تكن مصر بغريبة عنها.

نعود إلى الأستاذ جلال، في أواسط العشرينيات من عمره، والذي كان يعمل مدرساً ويعيش في قرية من قرى بنها. يعرّفنا النص أنه قدّم على إجازة مفتوحة وقوبلت بالرفض من الإدارة التعليمية، ثم حجز تذكرة للإكوادور سراً بعد أن جمع مبلغاً يقل عن 4 آلاف دولار لزوم مصاريف الرحلة الطويلة التي لا يبدو أنه كان يعرف تفاصيلها وهو في طريقه إلى المطار.

ثم يأخذنا جلال معه في رحلته العجيبة التي يقابل فيها بالصدفة البحتة دائماً الكثير من أبناء قريته، كلهم على نفس طريقه إلى أمريكا (نيويورك تحديداً)، بدءاً من الإكوادور، مروراً بكوستاريكا، ثم نيكاراجوا ودول أخرى في طريق واحد، يعمل عليه أشخاص يدبرون أمر دخوله هو والكثيرين من أبناء القرية وما حولها من قرى بشكل “غير رسمي” إلى المكان الذي تبدأ عنده حياة جديدة.

نفترض دائماً أن القاهرة هي قلب مصر النابض، ليفاجئنا جلال أن قريته في بنها بينها وبين أمريكا الجنوبية والشمالية طريق مباشر ليست القاهرة إلا محطته الأولى لمجرد أن المطار يقع على أطرافها. هو طريق مُنظم ومُرتب، هو نظام صارم وواضح من الالتفاف حول القيود التي يضعها “العالم المتقدم” لمنع وصول البشر الباحثين عن الحياة إليه، وإن كان في الوقت نفسه محفوف بالمخاطر التي لا تقل عن مخاطر الغرق في البحر المتوسط في الطريق إلى أوروبا. يصادف في كل محطة زملاء له ذاهبون معه على نفس الطريق، ويكشف لنا عن عالم الجاليات المصرية والعربية في دول أمريكا اللاتينية وأمريكا الوسطى، وكيف يتحققون كأفراد يبحثون عن الرزق والحياة في عوالم صغيرة تخصهم داخل تلك المجتمعات. يصادف في كل محطة “مسؤولي” هذا النظام الخفي من المحطات التي يدخل منها أبناء هذه القرية من بنها وما جاورها من قرى إلى أمريكا، بمساعدة رفاق لهم من أبناء القرية ومن أبناء جمهوريات الموز في سلسلة “خدمة هجرة” جبّارة وعليمة في غاية التنظيم؛ مرة بالطائرة، ومرة في أتوبيس، ومرة سيراً على الأقدام داخل أحراش استوائية، ومرة على متن قارب ضئيل في قلب المحيط، ومرة في قلب سيارة نصف نقل صندوقها عبارة عن ثلاجة لنقل الأغذية المجمدة.

ومع تقليب الصفحات يكتشف القارئ الساذج أن جلال لم يكن مجنوناً عندما خرج في طريقه للإكوادور، وأنه لم يكن يائساً تمام اليأس ولم يكن سيمضي في طريقه إلى الولايات المتحدة من هناك (آلاف الكيلومترات) سيراً على الأقدام. هو ذاهب إلى طريق سلكه من قبله الكثيرون من أولاد العم والخال والجيران وأصحاب المدرسة الابتدائية. وبعيداً عن أدب الرحلات المستغرق في وصف الأماكن والناس العجيبة في العوالم البعيدة، نتحرك هنا كقراء مع هذه المجموعات من الباحثين عن حياة أفضل في مساعيهم العملية التامة، من ترتيب “السكن” المؤقت في مختلف محطات الرحلة، إلى تدبير الطعام والتعامل مع مشاكل اختلاف الطباع بين رفاق الرحلة، ثم نُفاجأ بجلال – بطل الرواية – يتحدث من الحين للآخر وياللعجب عن طمع أهل أمريكا الوسطى فيه ورفاقه بصفتهم “عرب أثرياء ذاهبون إلى أمريكا”.

جلال لم يعش في القاهرة ولم ير من عالمه القديم في الريف إلا الإحباطات التي سببها الفقر المخلوط بزيادة التوقعات والطبيعة الاستهلاكية للمجتمع، والتي أسهم في تصعيدها أبناء القرية العائدون في زيارات لأهلهم من هذا العالم الآخر ليشتروا الأرض ويخطبوا البنات بمبالغ غريبة على طبيعة المكان، وابن الباشا بعد أن عادت إليه أرضه قسّمها تقسيماً جديداً وتضاعفت أسعارها أضعافاً وأصبح هذا الطريق العابر بأحراش جمهوريات الموز هو الطريق “المشروع” الوحيد لشباب القرية من أجل التحقق “العادي والمشروع” في قريتهم (باختصار: البيت والأسرة وقطعة من أرض ابن الباشا التي بدأت تأخذ تصاريح بناء).

إنها حالة “خروج” جماعية جبارة تطنّ حولنا كل يوم، من القارب الذي غرق في البحر المتوسط، أو مشاكل العمالة المصرية في الخليج مع الكفيل، أو “المصريين في الخارج” الذين سيتطوعون لبناء الاقتصاد المصري وسيذهبون للتصويت في الاستفتاءات المتعاقبة في السفارات المصرية. كلها بعض من أوجه الموضوع، لكن هنا نواجه “الموضوع” نفسه، والتجربة كاملة، مواجهة مباشرة صادمة.

في كتاب “حروب الطعام” للباحث “والدن بيلو” نتعرف على اقتصاد المكسيك الذي قوضته قروض صندوق النقد الدولي، فبارت الأرض بعد أن “أغرقت” أمريكا زراعة الذرة المكسيكية، وافتقر الفلاحون بعد أن تحول الاقتصاد المكسيكي إلى “الصناعة” بعد أن قال له الصندوق إن الزراعة “موضة قديمة”، فما كان من الفلاحين إلا أن دخلوا “بطرق غير رسمية” إلى الأراضي الأمريكية، ليحصّلوا المال الذي حرمتهم منه السياسة الزراعية الأمريكية ويعودوا إلى المكسيك ليشتروا الأرض ويزرعوا من جديد! بمعنى أن لا أحد قليل الحيلة في مواجهة هذا الظلم العالمي المجحف، لا الفلاح المكسيكي ولا الأستاذ جلال المُدرس الشاب الذاهب من بنها إلى أمريكا.

وفي أمريكا، بعد مواجهة مخاطر وأهوال بلا حصر، وشقاء يتحمله الساعون للحياة بكل جسارة، نرى هذه القرية “التابعة لبنها” وهي تتحقق بكل وضوح في قلب العالم الاقتصادي: نيويورك. في الجزء الثاني من الملحمة بعنوان “التغريبة”، دخلها جلال وليس معه إلا نمرة تليفون “معلم” من أبناء القرية ومبلغ لا يكفيه للمعيشة يومين، ليس معه إلا حقيبة صغيرة فيها غيارات قليلة. وفي شبكة معقدة ومجتمع كامل لا علاقة له بالمرّة بنيويورك التي نعرفها من أفلام هوليود، يبدأ جلال العمل فوراً في عالم موازي متحقق داخل عالم نيويورك الهوليودي، هو قريته بكل مشاكلها وقيمها وبنية سلطاتها وقواها.

وبين الخاص والعام في رواية “التغريبة” الجزء المتمم للملحمة، يتنقل جلال، فهو تارة يتحدث عن مرارات الشخص المثقف الذي يعمل في أجواء شقاء لم يعتدها، ثم ينتقل إلى أحوال رفاق الغربة عندما يجتمعون في “قعدة عرب” أو “جلسة تحكيم” هي نفس حالة القضاء العرفي المعمول بها في القرية، للفصل في تجاوز مالي من أحد الوافدين الجدد بحق أحد قدامى المغتربين. من الروتين الممل الذي يستهلكه في المصالح الحكومية النيويوركية ليصبح وضعه في أمريكا “رسمياً”، إلى إخفاقات رفاقه ممن لم يتحملوا هذا العالم الصعب وسقطوا بأشكال مختلفة.

إن الجغرافيا البشرية في هاتين الروايتين تفعل الأعاجيب بجغرافيا المكان. هي ملحمة عن العولمة وعن الفقر والتطلعات الاستهلاكية، وعن آلاف الكيلومترات التي يقطعها الإنسان ليمارس إنسانيته داخل مجتمع هو بالضبط مجتمعه المحلي لكن داخل عالم آخر مختلف كل الاختلاف عنه. سوف أفكّر في الأستاذ جلال ورفاقه كثيراً.

.

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s