الفيس بوك كـ “فضاء آخر”.. ميشيل فوكو والسوشيال ميديا

كتب – روبين ريمارجوك (يُعرف نفسه بلقب “صديق ميشيل فوكو”) – موقع الفلسفة الآن
ترجمة – عمرو خيري

تأسس موقع فيس بوك في 4 فبراير/شباط 2004، على يد مارك زوكربرج وزملائه في السكن في جامعة هارفارد، إدواردو سايرين وأندرو مكولم ودستن موسكوفيتز وكريس هيوز. ما بدأ بصفته أداة لاستيضاح “مين الجامد ومين لأ” في أوساط طلبة هارفارد، تحول إلى منصة لمليار مستخدم في عام 2012. نموه السريع وسلطته الشركاتية متواصلة الاتساع والانبساط، بالإضافة لكونه جزءاً من مناقشات “الخصوصية الرقمية”؛ هي عوامل جذبت الكثيرين لمحاولة تفسير شعبيته الكبيرة وسخط الناس منه في الوقت نفسه. رغم أهمية ووجاهة هذه الدراسات فقد ركزت بالأساس على ما يفعله المستخدمون على الفيس بوك وليس ما يفعله الفيس بوك بالمستخدمين.

للفيس بوك سمات يمكن أن تُفهم بما يتجاوز الشبكات المعولمة إلى نوعية الفضاء الذي يوفره. من هذا المنطلق فالفيس بوك عالم داخل عالم، يجذب الناس إليه أو ينفرهم منه من منطلق موقعهم الجغرافي ومن منطلق حياتهم الاجتماعية. أي فضاء هو الفيس بوك؟ أزعم أنه ما وصفه الفيلسوف ميشيل فوكو (1926 – 1984) بمسمى “فضاء آخر”، أو “هيتيروتوبيا”. وكما سأوضح، فإن فهم الفيس بوك بصفته “فضاء آخر” يقدم وسيلة للتفكير تستدعي مزيداً من التأمل للثقافة الرقمية في علاقتها بالفضاءات الأخرى التي تقدمها لنا حياتنا اليومية.

فضاءٌ للكشف
على جانب، يُحتفى بالفيس بوك كثيراً بصفته تتحقق فيه مثل التواصلية الحديثة، وعلى الجانب الآخر فقد يُرى بصفته مجرد خطوة إضافية نخطوها داخل عالم الديستوبيا الرقمية المحكومة بمقدرات هذا العصر المعلوماتي. هل يمكننا التوفيق بين وجهتي النظر المتناقضتين هاتين؟ أزعم أن فكرة فوكو عن الفضاءات الأخرى تساعدنا على ذلك.

قدم ميشيل فوكو مفهوم الفضاء الآخر “هيتيروتوبيا” للمرة الأولى في مقدمة كتابه “الكلمات والأشياء” الصادر عام 1966، وطوره في محاضرته الشهيرة “عن الفضاءات الأخرى” (1967). هنا قال عن الفضاءات الأخرى:

“توجد – والأرجح أن هذا حقيقي بالنسبة لكل الثقافات والحضارات – فضاءات حقيقية وفعالة مؤطرة في مؤسسة المجتمع عينها، هي في الوقت نفسه تمثل نوعاً من الترتيب المضاد للأشياء.. فيها جميع الترتيبات الحقيقية الأخرى الموجودة في المجتمع وداخله، ممثلة جميعاً ومطعون عليها في الوقت نفسه: مكان يقع خارج الأمكنة كلها ولكنه متحقق على الأرض، محلياً، في الوقت نفسه”.

توجد الفضاءات الأخرى “هيتيروتوبيا” في الفضاءات المُعرفة، في حين أن “اليوتوبيات” هي الفضاءات “عديمة الأماكن” التي نعرف أنها من الأساس غير حقيقية وغير قابلة للتحقق. لكن الفضاءات الأخرى “هيتيروتوبيا” ليست الضد من اليوتوبيا. إنما هي مثل اليوتوبيا، فضاءات تشير إلى وتحيل على فضاءات/أماكن أخرى، وتتصل بها من خلال تمثيلها بسبل معينة. “دورها”، على حد قول فوكو عن وظيفة الهيتيروتوبيا “هو تهيئة فضاء يكون “آخر”، فضاء آخر حقيقي، تام وكامل ودقيق التكوين ومرتب بقدر فوضوية فضاءنا واهترائه”. في الوقت نفسه فإن الفضاءات الأخرى “هيتيروتوبيا”: “تحيد أو تعكس مجموعة العلاقات التي تصادف أنها تصممها أو تعكسها أو تقدمها وكأنها تقدمها في مرآة” (كل الاقتباسات من محاضرة “عن الفضاءات الأخرى”). النقاط المركزية هي فهم أن الفضاء الآخر يمثل دائماً المجتمع، لكنه مشوّه بطريقة كاشفة لأيديولوجية الثقافة/الحضارة القائمة.

ما الذي أقصده هنا تحديداً؟ لنفكر كما فعل فوكو: في بعثات الجيزويت إلى أمريكا الجنوبية في القرن السابع عشر، كانت تلك البعثات، “لغزو الأرواح”، أماكن تتحقق فيها المُثل الإنسانية (تعويضاً لتحلل القيم الأخلاقية المسيحية الأوروبية). عكست قرى الجيزويت المُثل المسيحية حتى في شكل بناءها، بإعادة إنتاجها للصليب. كما أن تحقيق الرغبة الشديدة في الكمال الأخلاقي تزامنت وتحققت بالتوازي مع السلطة المطلقة والتنظيم المطلق. هذا الفضاء المسيحي “النقي” إذن، تكشفت فيه جوانب من الكاثوليكية ربما لم تذكرها الدعايا الكاثوليكية وقتها.

ثمة وظيفة أخرى للفضاء الآخر “الهيتيروتوبيا” هي “تهيئة فضاء من الوهم يكشف كل فضاء حقيقي، جميع المواقع التي تتقسم إليها وتتوزع عليها الحياة الإنسانية بالاستعانة بمزيد من الإيهام”. أليس الفيس بوك مكاناً من هذا النوع؟ وظيفة الفيس بوك قد تكون ما قال فوكو إنه “لصيق بكل الفضاءات الأخرى”: هي “مواقع ضدية، يوتوبيا مُطبقة بشكل فعال، فيها المواقع الحقيقية، وجميع المواقع الحقيقية الأخرى الممكن وجودها في ثقافة، تتمثل بالتزامن مع بعضها البعض في اللحظة الواحدة، وتتنافس، وتُقدم بذاتها وبمقلوبها”. وتمثيل الثقافات بطريقة فريدة هو قطعاً العمل الذي يؤديه الفيس بوك.

الافتراضي” في “الحقيقي”
يقول فوكو “المرآة مكان معدوم المكان. في المرآة أرى نفسي هناك، حيث لا أوجد، في فضاء افتراضي غير حقيقي ينفتح من وراء السطح [سطح المرآة]”. المرآة هي فضاء آخر “هيتيروتوبيا” لأنها “حقيقية تماماً، ومتصلة بالفضاء المحيط بها تمام الاتصال”. هي تمثل بالكامل العالم الحقيقي، على أنها في مكان آخر. الفيس بوك تجسيد افتراضي لمجاز فوكو الخاص بالمرآة. نرى أنفسنا على الشاشة في صورة ما. صفحات بروفايلاتنا دائماً ما تعكس لنا صورتنا، في حين أن هذه الصورة نفسها، لأنفسنا، تفتح عالماً لا وجود لنا فيه. لهذا فالفيس بوك فضاء آخر/”هيتيروتوبيا”. باصطلاحات فوكو، فالفيس بوك فضاء “مضطرب” يحوّل عالمنا المألوف ويقلبه رأساً على عقب، إذ يبث الاضطراب في “استمراريته وعاديته”. تخرج من العالم العادي عندما تدخل الفيس بوك، لكن في الوقت نفسه فأنت متورط في تمثيل نسخة ما من الحياة العادية.

يقدم الفيس بوك متناقضات كثيرة. إنه يعزل ما يكشف عنه في اللحظة ذاتها؛ يحرر المستخدمين من قيود المسافات، ويقيدهم بالشاشة. الفيس بوك ييسر الاتصال الآني اليسير عبر عدد هائل من الأمكنة، في حين يحافظ على فكرة كوننا “محليين”. يقدم إحساساً بزيادة السيطرة والرقابة على القيود الاجتماعية، في حين يشل في اللحظة ذاتها الخصوصية. فيه إغواء أنه مفتوح تماماً ومُتاح وديمقراطي، إذ أن شعاره “إعطاء الناس القدرة على المشاركة وجعل العالم أكثر انفتاحاً واتصالاً”، لكنه من حيث الممارسة يمثل مجتمعاً له بوابات مغلقة عليه، فيه وسطاء ومديرين خفيين لهم السيطرة الكاملة. أي أنه لتفادي “الشير” للمحتوى “غير الملائم” الذي يخرق شروط استخدام الفيس بوك، فكل نشاط على الفيس بوك يخضع للمراقبة. هذه التناقضات مهمة، لأنها ربما كانت السبب وراء إحساس العديد من المستخدمين (ومن يرفضون استخدامه) بالقلق البالغ من الفيس بوك.

ولعل أثر الفيس بوك “التناقضي” على حقيقة/واقع المستخدم يظهر أقوى ما يظهر في القلق إزاء “الأصالة” الذي يعرب عنه العديد من (غير) المستخدمين للفيس بوك. من خلال إخضاع المستخدم لعملية انكشاف الذات أمام الآخرين، يحول الفيس بوك الحياة الاجتماعية الافتراضية إلى فعل مسرحي.. أداء/تمثيل. لهذا فإن “ذات” الفيس بوك كثيراً ما تُنتَقض لكونها “أدائية” للغاية في أحيان كثيرة.

ولكن، كما قال إرفنج جوفمان في “تمثلات الذات في الحياة اليومية” (1959)، فإن الذات هي “دائماً” أدائية، هو أداء، حيث يحاول الأفراد السيطرة على الانطباع الذي يأخذه الآخرون عنهم دائماً. هذه الحقيقة ليس عليها إجماع، لأنها تعني أن الإقرار بالطريقة التي نمثل بها حياتنا ونبني بها هوياتنا على الفيس بوك عندما تكون أدائية، يدهمنا من خلالها السؤال عن هويتنا الشخصية بعيداً عن الإنترنت أيضاً. تحديداً عند هذا الالتقاء بين الحقيقة والصورة، يُعرِّف “الافتراضي” ما هو “حقيقي”، أي أن “الفضاء الآخر” يقوّض مفهوم الواقع “الحقيقي”، من خلال تقويض مفهوم الهوية “الحقيقية”. لذا فعلى جانب، يفتح الفيس بوك نوعاً جديداً من الفضاءات، حيث الاختيار والتكوين والترتيب للمحتوى الخاص بهوياتنا متوفر بقدر أكبر من الجاهزية، لكن على الجانب الآخر، فهذه المرونة الجديدة تجعلنا نتساءل عن معنى “هويتنا” في حياتنا اليومية.

في محاضرة “عن الفضاءات الأخرى”، يوضح فوكو أن الفضاءات الأخرى تستدعي للتساؤل حقيقة الفضاءات العادية القائمة حول تلك الفضاءات الأخرى، التي تبث فيها الاضطراب وتكشفها. الفيس بوك لا يكشف فحسب تزايد الواقعي في الافتراضي، إنما يكشف حقيقتنا وهويتنا، كونها افتراضية منذ البداية. لذا، في حين يزيد شبه العالم الافتراضي بشكل مطرد بعالمنا المتحقق، فالعملية نفسها تكشف أن العالم المتحقق أكثر “افتراضية” مما نعتقد، من حيث كيف نصيغ هويتنا ونفكر فيها. تحليل الفيس بوك بصفته “فضاء آخر” يكشف عن علاقته بالفضاءات الأخرى. الفيس بوك هو عالم داخل عالم يقدم إيهاماً يكشف – بالتضاد – عن أن العالم الحقيقي “وهم”.

 روبن ريمارجوك: حاصل على درجة الماجستير في نظرية وتاريخ علم النفس من جامعة جرونينجن في هولندا. يكتب عن جملة من الموضوعات منها النظرية الإعلامية، والنظرية النقدية، والتكنولوجيا والتباسات الفضاء.

فكرتان اثنتان على ”الفيس بوك كـ “فضاء آخر”.. ميشيل فوكو والسوشيال ميديا

.