أطلقت مجموعة تقاطعات النسوية بالأردن كتاب بعنوان الاقتصاد النسوي – دليل معرفي، وأتاحته للقراءة والتحميل عبر موقعها الإلكتروني. عملت على إنتاج الكتاب مجموعة من الكاتبات بين خبيرات وناشطات واقتصاديات وأكاديميات، جنبًا إلى جنب مع فريق تقاطعات. وبحسب تقديمه المنشور عبر الموقع، جاء الكتاب كجزء من رحلة أوسع للإنتاج المعرفي النسوي التشاركي، ويهدف إلى تطوير معرفة باللغة العربية حول الاقتصاد النسوي، قريبة من الواقع ومرتبطة بتجارب النساء ومُعزِّزَة للوعي الجماعي حول علاقات القوى والسياسات الاقتصادية. وكان من المخطط إصدار معجم يشرح المصطلحات الاقتصادية فقط، لكن مع تطور النقاشات واتساع الحاجة، قرروا إنتاج هذا الكُتيب الذي يتناول الاقتصاد من منظور نسوي أعمق وأكثر شمولًا.
غالبًا ما تمثل كلمة اقتصاد بالنسبة للجمهور العام كلمة ثقيلة، مرتبطة بالأزمات التي تهدد أول ما تهدد حافظة نقود الفرد. كلمة تنتمي لعالم من أرقام معقدة ونظريات جافة لا تمت بصلة إلى الحياة اليومية لكنها تُهددها وتقودها لتدور في حلقات متصلة مفرغة من الركض، والتدبير. وحش لا يمكن فهمه، ولا يمكن هزيمته، لكنه يحدد خيارات وخسارات ومكاسب أيضًا. لكن أول ما يبدأ به كتاب الاقتصاد النسوي مثالًا من صميم عادية الحياة: شراء الخضروات.
تتحدث د. فاطمة إبراهيم كاتبة الفصل الأول، وهي باحثة وكاتبة نسوية متخصصة في قضايا الجندر والاقتصاد، عن قرار والدتها ألا تشتري “كرنبة” لإعداد المحشي بسبب ارتفاع سعرها ورغم ما يبدو عليه القرار من بساطة، إلا أنها أوضحت كيف يمثل قرار اقتصادي مُعقد، تتداخل فيه عوامل مثل ميزانية الأسرة المحدودة، والتقاليد الاجتماعية، وحتى المشاعر كالحب أو الخوف من غضب الأب. انتقلت الكاتبة بخفة من إشكالية الوجبة الأسبوعية الرئيسية إلى تعريف الاقتصاد السائد، وهو المصطلح الذي يصف النظريات التي تشكل السياسات الاقتصادية العالمية في شرحٍ مُبسط لمفهوم مؤسِس مثل مفهوم “اليد الخفية” لآدم سميث، التي تفترض أن سعي الأفراد لتحقيق مصالحهم الشخصية يؤدي تلقائيًا إلى ازدهار المجتمع. هذا المثال أخرج الاقتصاد كعلم يستهدف الكتاب تقديمه للجمهور العام من كونه مجرد معادلات رياضية معقدة عن العرض والطلب والنظريات السائدة، التي تهيمن على تفكير الحكومات والمؤسسات الكبرى، التي لا ترى هذه التعقيدات، إلى عوامل تحرك حياتنا وتتغير على مدار الساعة.
يواصل الكتاب طرحه بتناول افتراض الأنظمة وجود “الإنسان الاقتصادي” (Homo Economicus)، ذلك الكائن العقلاني الذي يتخذ قراراته بناءً على المنفعة الشخصية فقط، بل وهو مُستقلٌ بذاته، يتخذ قراراته بمعزلٍ عن سياقه الاجتماعي والثقافي، وحُرٌ تمامًا بكل تأكيد في تنفيذ هذه القرارات دون تدخل أي قوى رسمية أو أهلية. وبافتراض وجود هذا الإنسان، فمن خلال سعيه لتحقيق مصالحه الخاصة، يدعم مصالح المجتمع بشكل أكثر فعالية.
العمل الوحيد الذي يُحتسب ويُمنح قيمة في مثل هذه الأنظمة، التي تتجاهل تعقيداتنا كبشر وتركيب سياقاتنا على اختلافها، هو العمل مدفوع الأجر. أما أعمال الرعاية، مثلًا، وكل الجهد المبذول لضمان استمرارية الحياة اليومية للأسرة، فهو عمل غير مدفوع وبالتالي يقع خارج منظومات الاقتصاد لأنه غير مرئي ولا يظهر في أي إحصاءات للناتج القومي. يعامل الاقتصاد السائد الرعاية والوقت والصحة والبيئة وكأنها موارد مجانية يمكن استغلالها بلا حدود. العمل غير المدفوع الذي تقدمه النساء في المنازل، رعاية الأطفال والمسنين، دعم المجتمعات في أوقات الأزمات – كلها تُعامل كهوامش، لا كركائز للاقتصاد. كبقية المشاعات التي يتم تدميرها لصالح مؤشرات الإنتاج والاستهلاك مع تجاهل الحالة الفردية للإنسان، التجاهل الذي يرسخ الفكرة الأبوية التي تضع الرجل في المركز الاقتصادي، وتهمش دور النساء.

في الفصل الثاني من الكتاب تقدم أسماء خليفة، وهي باحثة نسوية، الاقتصاد النسوي، لا كمفهوم مُجرد أو عدسة ناقدة، بل كدعوة لإعادة التفكير. تشجع الكاتبة على إعادة النظر في معنى القيمة، وتدعو إلى أن تشمل قيمة العمل كل ما يضمن رفاه المجتمع واستمراره، سواء كانت أنشطة مدفوعة أو غير مدفوعة. فالقيمة هنا ليست فقط في الأرباح أو الإنتاج، بل هي أيضًا في الرعاية والتضامن والعدالة. كما تناقش مفاهيم أخرى مهمة، مثل اقتصاد الرعاية، الذي يركز على قيمة العمل غير المدفوع، والميزانية الجندريّة كنهج يستخدم السياسات والإدارة المالية لتعزيز العدالة الجندرية وتحسين واقع النساء، ومراجعة قرارات الضرائب والإنفاق العام من منظور العدالة الجندرية وتضمن أن تخصص ميزانية الدولة بطريقة تراعي احتياجات النساء والرجال بشكل عادل واستطلاعات استخدام الوقت التي تسلط الضوء على عدم المساواة في توزيع العمل غير المدفوع بين الجنسين، ومفهوم التقاطعية. يوضح الكتاب في هذا الجزء أن النضال من أجل التحرر الاقتصادي لا يمكن أن يقتصر على النوع الاجتماعي فقط، بل يجب أن يأخذ في الاعتبار أيضًا العِرق، والطبقة الاجتماعية، والموقعية. فتجاربنا في منطقة عانت من الاستعمار والسياسات النيوليبرالية، تختلف تمامًا عن تجربة نساء من طبقة أخرى في سياق مختلف، في أنظمة رأسمالية وأبوية واستعمارية تعمل لترسيخ عدم المساواة، واستغلال الطبقات العاملة والفئات المهمشة.
يطرح هذا الفصل أيضًا نماذج من اقتصاديات نسوية بديلة للرأسمالية تتحدي السياسات الاقتصادية السائدة وتُظهر قدرة النساء على التأثير في الاقتصاد المحلي وتعزيز استقلالهن المالي. كما يُحرض بنهايته على التفكير في كيفية بناء حركات نسوية راديكالية تستعيد السيادة الاقتصادية والعدالة البيئية والتحديات التي تواجه ذلك في المنطقة العربية من استعمار واستغلال وقمع سياسي وملاحقات أمنية وتحريض من قِبَل الأنظمة السياسية والاجتماعية. كيف يمكننا المطالبة بتقدير عملنا غير المدفوع؟ كيف يمكن أن ندخل في نقاشات حول الميزانيات العامة وخطط التنمية؟
تخصص سعاد أسويلم، وهي باحثة في العلوم الاجتماعية، في الفصل الثالث من الكتاب لطرح عدة أسئلة جوهرية لقراءة الاقتصاد النسوي: كيف يتقاطع مع قضايانا، وكيف أصبح موضوعًا محوريًا في الحركات النسوية العربية مؤخرًا. تربط الكاتبة هذا الاهتمام المتزايد بالأزمات الاقتصادية والسياسات النيوليبرالية التي أدت إلى تدمير قطاعات أساسية مثل الصحة والتعليم، مما فاقم الفجوة الطبقية والجندرية. كما تبرز ما تمكنت منه الحركات النسوية في المنطقة، بفضل الثورات السياسية والإلكترونية، من نقل خطابها من الهامش إلى المركز، وربط القضايا الشخصية بالتحليلات السياسية والاقتصادية. وتشدد على أن تحرر النساء والفئات المهمشة لن يتحقق إلا بتحدي الأنظمة الاقتصادية الرأسمالية والأنظمة السياسية المستبدة. تعيد هذه الرؤية تعريف الاقتصاد من منظور شامل يراعي النوع الاجتماعي، والطبقة، والعرق، وتؤكد على أهمية استخدام التحليل الاقتصادي النسوي لفهم تأثير الأزمات والكوارث والحروب على النظم الاجتماعية، مع التركيز على التقسيم الجندري للعمل و أدوار الرعاية التي تعد محركًا أساسيًا للاقتصاد الرأسمالي.
كما يوضح الفصل أن النهج التقاطعي ضروري لفهم العلاقة المعقدة بين الحقول السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية أيضًا، التي تفترض حصر الأدوار الاقتصادية للرجال حتى لو كانت النساء مُعيلات للأسرة، إذ تستنتد التشريعات في البلدان الناطقة بالعربية، سواء في الميراث أو قوانين الأحوال الشخصية إلى منظور أبوي. كما يُظهر كيف أصبح الاقتصاد النسوي أداة حيوية لفهم تأثير الصراعات العالمية (مثل الإبادة في غزة والصراعات في السودان والكونغو) على الفئات الأكثر هشاشة، كالعاملات في القطاعات غير المهيكلة واللاجئات وذوات الإعاقة، وغيرهن. بعدها ينتقل الفصل إلى قضايا عملية مثل الاستجابة النسوية للحروب في غزة والسودان ولبنان، ومبادرات السيادة الغذائية والاقتصاديات البديلة التي تقودها النساء كأحد أشكال المقاومة والاقتصاد غير المرئي وكيف يمكن لهذه المقاربات أن تساهم في بناء اقتصاد أكثر عدلاً ومراعاةً للاحتياجات الاجتماعية والبيئية للمجتمع.
يواصل الكتاب توضيح كيف تترك الأنظمة الاقتصادية السائدة النساء لمواجهة عقوبة الأمومة وتأنيث الفقر والفقر الزمني والضريبة الوردية، والتي أدرجتها الكاتبات ضمن معجم مستقل يضم شرح بعض المصطلحات الرئيسية المتعلقة بالاقتصاد النسويّ واقتصاداتٍ أخرى تتقاطع معه. ينتقل المعجم من المصطلحات السياسية الأساسية كالنسوية والتقاطعية والنظام الأبوي ومنها إلى المصطلحات المتعلقة بنظريات اقتصادية\ سياسية كالرأسمالية والاشتراكية والشيوعية والعولمة، ومنها إلى مصطلحات خاصة بعلوم الاقتصاد والمدارس الاقتصادية البديلة للاقتصاد السائد، ويُختتم بتعريفات لمدارس الاقتصاد النسوي ومصطلحات خاصة بالاقتصاد السياسي النسوي ومناهج البحث في علوم الاقتصاد. يساعد هذا المعجم على تخفيف الحاجز بين القارئات والقراء وبين محتوى الكتاب، فهو ليس مجرد قائمة تعريفات، بل مفتاح قراءة يترجم اللغة الأكاديمية إلى لغة يومية بسيطة يسهُل استيعابها لغير المتخصصات والمتخصصين، وجزءً من رحلة الفهم.
لا يكتفي كتاب الاقتصاد النسوي- دليل معرفي بتقديم نقدٍ للأنظمة الاقتصادية السائدة فحسب، بل يذهب أبعد من ذلك ليقدم رؤية بديلة تهدف إلى بناء اقتصاد أشد إنصافًا وتساعدنا على تفكيك هذه الأنظمة وفهم جذور الظلم، سواء كان طبقيًا أو جندريًا أو عرقيًا. في النهاية، يدعو الكتاب إلى الانتقال بتعريف الاقتصاد في الوعي الجماعي من كونه أداة للسيطرة والاستغلال ليصبح أداة لتمكين المجتمعات.
اكتشاف المزيد من قراءات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.







































