روب نيكسون
ترجمة: آية الحسيني – أمل عبد الرحمن – بسمة ناجي
نُشِرت هذه الترجمة لمجتزأ من كتاب “العنف البطيء وبيئوية الفقراء” ضمن كتاب: تحت الأسفلت شاطئ، دار هن للنشر والتوزيع، من نتاج أعمال ورشة معمل الترجمة والكتابة بسكة معارف وتحرير: أحمد سروجي
مقدمة
“أرى العولمة كشعاع ضوء يُنير لقلة من البشر أكثر وأكثر بينما يظل البقية منهم في ظلمة حالكة، يَنطمِسون تماماً. ببساطة، لا يمكن تمييزهم. فبمجرد اعتيادك عدم تمييز شيء ما، تصير رؤيته مستحيلة تدريجيا.”
ــــ ارونداتي روي.
بهذا الاقتباس يفتتح روب نيكسون مقدمة كتابه “العنف البطيء وبيئوية الفقراء” الذي نُشر في ربيع 2011 بواسطة مطبوعات هارفارد. يكمن الإطار المفاهيمي الرئيسي لكتاب نيكسون في مفهوم العنف البطيء، الذي يرى أنه فعال في النضال من أجل العدالة البيئية. لقد اعتدنا على تصور العنف على أنه فوري ومتفجر، حيث ينتج عنه مشهد مرئي فوري، ومُرَكَز. أراد نيكسون إعادة النظر في هذا الافتراض والنظر في الخفاء النسبي للعنف البطيء. يعني بذلك عنفًا ليس فادحا ولا فوريًا، بل تصاعدي، تتأجل تداعياته الكارثية لسنوات أو عقود أو قرون. التأكيد على اتساع المدى الزمني لآثار العنف البطيء يمكنه تغيير الطريقة التي نتصور بها ونتفاعل مع أزمات اجتماعية متنوعة، كالعنف المنزلي أو كرب ما بعد الصدمة، لكنه وثيق الصلة بالتحديات الاستراتيجية التي تفرضها الكوارث البيئية.
يتناول نيكسون أيضا التحديات الاستراتيجية والتمثيلية للعنف البطيء والتي تواجه بشكل أساسي دعاة وناشطين حماية البيئة: كيف يمكننا ابتكار قصص وصور ورموز توجّه الانتباه وتصور الآثار المنتشرة والمراوغة للعنف البطيء؟ عقبات تمثيلية هائلة تعيق جهود الحشد من أجل مواجهة تغير المناخ، وذوبان الغلاف الجليدي، والانجراف السام، وقطع الغابات، والآثار الإشعاعية للحروب، وانسكاب النفط، وزيادة معدلات حمضية المحيطات، ومجموعة من الأزمات البيئية الأخرى التي تتكشف ببطء. كل هذه العمليات تنشأ من أفعال كارثية، لكنها أفعال لا تصلح للتمثيل المبهر.
روب نيكسون، أستاذ الإنسانيات والبيئة في جامعة برينستون، عمل في عديد من الجامعات كأستاذ وكأستاذ مساعد. نشر عدة دراسات في مجالات: دراسات البيئة ودراسات ما بعد الكولونيالية والأدب المعاصر، كما صدر له أربع كتب، أشهرها كتاب “العنف البطيء وبيئوية الفقراء” والذي حصد عدة جوائز، وهو الكتاب الذي نتناول منه مفهوم العنف البطيء بالترجمة هنا.
كان عمل نيكسون حاسمًا في التعبير عن الاقتران – وكذلك الفجوات – بين دراسات ما بعد الاستعمار والنزعة البيئية. نظرًا لأن التأثير المُهلِك لفوضى المناخ أصبح واضحًا بشكل متزايد حول العالم، فإن طبيعة الانتماءات الفكرية والانفتاحات التي يطرحها نيكسون في كتابه صارت أكثر أهمية من أي وقت مضى.
عملية الترجمة
طرح الزميل عمرو خيري، المترجم والباحث في علم الاجتماع، مفهوم العنف البطيء في أولى جلسات عمل ورشة الترجمة الجماعية كأحد المفاهيم الهامة في دراسة الأثر الاجتماعي المترتب على الكوارث. أثار طرحه لدينا عدة تساؤلات وحماس لاستكشاف، وفهم واستيعاب مفهوم العنف البطيء؛ تمثيلاته، وتحدياته، وآثاره التراكمية على مدى الزمان والمكان وانعكاسه على السياسيات الدولية، ومن ثَم على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للأفراد والمجتمعات.
خلال عملية الترجمة التي استمرت على مدار عدة أسابيع واجهتنا مجموعة من التحديات، أبرزها لغة نيكسون الأكاديمية. كانت المفاهيم والمصطلحات المتخصصة واحدة من التحديات التي واجهناها أثناء عملية الترجمة، والتي تطلبت الكثير من المناقشات، والتواصل مع عمرو خيري، لمناقشة المفهوم بتركيز أكبر، وتفاصيل أكثر في محاولة للاشتباك مع النص وتقريب تصوراتنا عن المفهوم الذي يتقاطع مع حياتنا اليومية بشكل يفوق تصوراتنا. وأخيرا قمنا بعمل ملحق يضم المصطلحات الإشكالية التي واجهتنا أثناء الترجمة الأولية للنص، لمناقشة معانيها بشكل جماعي ومحاولة الوصول إلى أقرب وأصوب معنى عربي لها، في محاولة منا لتعويض اللقاءات الفعلية عبر اللقاءات الافتراضية بين أفراد المجموعة نظرًا لظروف التباعد الاجتماعي.
بعد قراءة وفهم لما يحاول نيكسون أن يتناوله باستفاضة، قررنا اختيار أجزاء من مقدمة الكتاب للترجمة، وتسليط الضوء على مفهوم العنف البطيء، ماذا يعني؟ تحدياته الاستراتيجية والتمثيلية؟ علاقته بالعنف البنيوي. مقاربات بين ما يطرحه نيكسون وكيف نراه منعكس في مجتمعنا، تطرقنا إليها خلال مناقشات المجموعة وقررنا كتابتها.

العنف البطي وبيئوية الفقراء
هذا الكتاب مبني على ثلاث شواغل أساسية، أهمها قناعتي بضرورة مراجعتنا – سياسيًا، ونظريًا، وإبداعيا – لما أسميه “العنف البطيء”. أعني بالعنف البطيء، الضرر الذي يحدث تدريجيا، بعيدا عن مرئى البصر، عنف الدمار المتأخر، المتفشي عبر الزمان والمكان، عنف مُستنزِف لا يُرى على أنه عنف على الإطلاق. يُرى العنف على أنه حدث أو فعل وقتي وأثره بارز مكانيا، مُربكٌ للنظر. أرى ضرورة لاشتباكنا مع نوع مختلف من العنف، أثره غير واضح آنيًا، بالعكس، هو عنف مُتدرج ومتصاعد في أثاره المأساوية عبر نطاقات من الزمن. بالإضافة إلى ذلك يجب علينا أيضا الاشتباك مع سردية التمثيل والتحديات الإستراتيجية التي يتسبب فيها عدم الوضوح النسبي للعنف البطيء. التغير المناخي، تطاول الغلاف الصخري، والانجراف السام، والتضخم الأحيائي، وإزالة الغابات، وإشعاعات ما بعد الحروب، وزيادة معدل حموضة المحيطات ومجموعة أخرى من الكوارث البيئية التي تنكشف ببطء، تُبَين العقبات التمثيلية الهائلة التي يمكن أن تعوق محاولاتنا في حشد الجهود والعمل بشكل مؤثر. التعاقب الهائل للخسائر البشرية والبيئية الناتجة عن آثار ما بعد الحروب السامة أو التغير المناخي وغيرها من النهايات البعيدة، ضعيفة التمثيل في التخطيط الإستراتيجي وأيضا في الذاكرة البشرية.
الشاغل الثاني الذي يركز عليه هذا الكتاب هو النشاط السياسي البيئي أو بيئوية الفقراء، فمَن لا يملكون الموارد أول المتأثرين بالعنف البطيء. يتفاقم فقرهم غير المرئي بتعذر رؤية العنف البطيء والذي ينفذ إلى جوانب متعددة من حيواتهم. يساهم تركيز الإعلام على العنف الصريح في إضعاف الأنظمة البيئية التي تتعامل معها الرأسمالية التوربينية على أنها شيء يسهل التخلص منه، وفي الوقت ذاته يفاقم ضعف من أطلق عليهم كيفن بال في سياق آخر، ’بشر يسهُل التخلص منهم‘. وفي هذا السياق شاهدنا توسع ما يسمى ببيئوية الفقراء عامة وبالتحديد في جنوب العالم. لذا، فإن القضية الرئيسية التي تبرز هي قضية إستراتيجية; فلو أن لعصر النيوليبرالية انتهاكاته الشديدة للموارد، ففيه أيضًا تتزايد المقاومة المضادة لذلك، سواء من خلال صراعات حصرية في الموقع أو النضالات العابرة للحدود الوطنية في محاولة لبناء تحالفات خارجية متبادلة بغض النظر عن المكان.
“الفقراء” فئة شاملة تخضع للاختلاف والتنوع المحلي فضلا عن التفكك الذي تسببه اختلافات العرق، والنوع الاجتماعي، والطبقة، والدين، والجيل. تُهاجم المجتمعات الفقيرة بالقهر والفساد اللذان يختبران قوتها وتماسكها في مواجهة عسكرة التجارة والتنمية. على سبيل المثال، ما مدى سيطرة مجتمع فقير في الغابات على متطلبات المعيشة والاستراتيجيات التي يوظفها في محاولاته للبقاء والتعايش؟ كيف سيتفاوض هذا المجتمع على التعريفات المختلفة لفقره والثروات طويلة الأجل حين تصل المدافع والجرافات ورجال المال إلى مكان إقامته؟ مثل هذه المجتمعات يجب أن تنظم نفسها في تحالفات مرتجلة ضد القوى العسكرية والشركات ووسائل الإعلام. وعلى هذا فإن متمردي هذه المجتمعات نادرا ما يكونوا نشطاء للدفاع عن قضية واحدة: التزامهم بالقضية البيئية يتقاطع مع قضايا أخرى اقتصادية وثقافية فهم لا يواجهون التهديد البيئي كقضية عالمية مجردة ولكن كمجموعة من المخاطر المستوطنة، بعضها وشيك والآخر بعيد الأمد.
تبدل وضع النضال البيئي بين الفقراء في الجنوب العالمي بشكل ملحوظ خلال السنوات الأخيرة. كانت الخطابات البيئية تُعتبر في كثير من الأحيان خطابات استعمارية جديدة وإملاءات غربية مناهضة لأولويات موارد الفقراء في الجنوب العالمي. خفت حدة هذه التوجهات مع الظهور الواضح وزيادة مصداقية حركات العدالة البيئية التي تصدت للخطاب البيئي غير الإنساني والذي سعى في كثير من الأحيان (تحت شعار العالمية) لفرض الأجندات الخضراء التي تهيمن عليها الدول الغنية والمنظمات الغربية غير الحكومية.
إن الشكوك المحيطة بالدفاع عن البيئة وتصور أنه مظهر آخر لما أسماه أندرو روس “إدارة كوكب الأرض” بين مَن يتصدرون مشهد حماية الموارد العالمية لم تختفِ كليًا، لكن خفت حدتها بشكلٍ ما، نظرًا لاتساع طيف ما يُعتبر نضال بيئي. صار النشطاء من الغرب أكثر ميلًا لفهم الثائرين من أجل الموارد من فقراء العالم والاشتباك معهم والتعلم منهم، والذي لم يكن يُعد بيئي بشكل كافي.
إن تحدي الظهور الذي يربط العنف البطيء بـ بيئوية الفقراء يرتبط بشكل مباشر بثالث شواغل هذا الكتاب؛ الصورة المعقدة، والغاضبة في الغالب، للكاتب الناشط بيئيًا. في فصول الكتاب، لم أتطرق إلى التحديات الأدبية وحدها، بل والتحديات الخطابية والمرئية الأوسع نطاقا التي يفرضها العنف البطيء؛ إلا أنني أركز بشكل خاص على الكُتاب المحاربين ممن استطاعوا توظيف منتجهم الإبداعي وحماسهم البالغ لإبراز أسباب تهميش الإعلام للمتضررين بيئيًا. لقد حاولت التركيز على المواضيع التي أقر فيها الكُتاب والحركات المجتمعية، بتزامن معقّد، استراتيجيات لمواجهة الكوارث الطبيعية التي تصيب المجتمعات المُحاصرة. أتطرق لكُتاب من أماكن جغرافية مختلفة ومن أجزاء متنوعة؛ من أفريقيا، الشرق الأوسط، الهند، الكاريبي، الولايات المتحدة وبريطانيا، بالإضافة لأعمال متنوعة.
في تقديمه لمفهوم العنف البطيء، يشير الكاتب إلى دور الإعلام في توجيه الوعي الجماعي والاهتمام السياسي بالآثار بعيدة المدى للكوارث، والتي تقوم بدورها الاستنزافي بعيدًا عن المشهد اللحظي الذي تهتم برصده عدسات الإعلام ويحتل مكانه من التمثيل على الشاشات بشكل أكبر. كما يطرح الكاتب التحديات التي يطرحها المفهوم الملتبس للعنف البطيء.
العنف البطيء
سعيتُ في هذا الكتاب، للإشارة إلى إهمالنا للكوارث ذات الأثر البطيء الممتد، الكوارث التي تنشر خرابها بهوادة بينما تبقى خارج نطاق اهتمامنا، واهتمام الإعلام الذي يوجهه المشهد اللحظي. تنشأ الآثار الخبيثة للعنف البطيء من الاهتمام غير المتكافئ بين ما هو مبهر وما هو مألوف. في عصر يُمجد المشاهد اللحظية، يُعد حضور العنف البطيء ضعيف في وجود المؤثرات الخاصة التي تغمر قاعات عرض الأفلام وتُعزز تقييمات العروض التلفزيونية. فالضرر الإشعاعي والكيماوي مثلًا، الذي يُقَدَم أثره في الدراما على أنه طفرات تحدث في أجساد الفقراء غالبًا، مازال غير محسوس ولا مُشَخص ولا مُعالَج بشكلٍ كبير. من منظور سردي ما، هذا المسرح الخفي والمُطَفَر بطيء الإيقاع وذو نهاية مفتوحة، ويفتقر للنهاية المنهجية التي تفترضها النُظم البصرية عن النصر والهزيمة.
لتقريب هذه النقطة، سأشير إلى كتابَ راتشِل كارسون “ربيعٌ صامت” وكتاب فرانتز فانون “مُعَذَبو الأرض”. في عام 1962، وَجَّه ربيعٌ صامت انتباه جمهور عالمي عريض نحو الوعي بالأضرار الخفية والعشوائية طويلة الأمد التي يسببها المبيد الحشري دي دي تي (ثنائي كلورو ثنائي فينيل ثلاثي كلورو الإيثان). قبلها بعامٍ واحد، ذكر فانون بأريحية في الصفحات الأولى من كتابه مُعَذَبو الأرض دي دي تي كصورة إيجابية للعنف المناهض للاستعمار، حيث دعا لاستخدام مسدسات من رذاذ دي دي تي كسلاح ضد “الطفيليات” التي تنشرها الكنيسة المسيحية الاستعمارية. يمكننا بالطبع إعادة قراءة طرح فانون، في إطار اهتمامه بالأرض كحق ورمز للكرامة الوطنية، بعينٍ بيئية. لكن رؤيتنا المعاصرة للعنف لابد أن تكون مستنيرة بعلم لم يُتَح لفانون، وهو علم يعالج العنف المتأصل بيئيًا والذي غالبًا ما يكون من الصعب اعتراض طريقه وعكس اتجاهه ما أن تبدأ حركته.
تتميز الكوارث الاستنزافية التي تتجاوز الحدود الزمانية والمكانية الواضحة بالازاحات الزمانية والجغرافية والخطابية والتقنية، هذه الإزاحات تيسر العنف، قبل أو بعد حدوثه، وتقلل من شأن التكلفة البشرية والبيئية. ازاحات كهذه تمهد الطريق للنسيان، لأن الأماكن تصير غير قابلة للاسترداد من قِبل مَن سكنوها يومًا، وغالبًا ما يمر هذا دون تنويه عبر الإعلام المؤسسي. أماكن مثل جزيرة مارشال التي خضعت لـ 67 تجربة نووية أمريكية في الفترة بين عامي 1948 – 1958، تعادل قوة أكبرها قوة هيروشيما ألف مرة. عام 1956 أعلنت لجنة الطاقة الذرية جزيرة مارشال “أكثر الأماكن تلوثًا في العالم حاليًا”، وهو الوضع الذي مهد للاستقلال فيما بعد، رغم أن الجزيرة لم تعلن استقلالها كجمهورية قبل 1979. جمهورية الجزيرة لها تاريخ مشع: تاريخها النووي الاستعماري، الذي نسيه المستعمرون لفترة طويلة، ظل يجلب للعالم حتى ثمانينيات القرن الماضي “مواليد من قناديل البحر”، مواليد بشرية بلا عيون ولا رؤوس ولا أطراف يعيشون لساعات قليلة.
لابد أن يُنظر إلى العنف، والعنف البيئي بوجهٍ خاص، ويُدرَس بعمق، ليس فقط على أنه صراع على الأرض، والأجساد، والعمل، والموارد، بل كصراع على الزمن. علينا أن نذكر دومًا قول ويليام فوكنر بأن “الماضي لا يموت أبدًا. بل إنه لم يمضِ بالأساس.”. يتردد صدى كلماته بقوة خاصةً عبر المشاهد التي يتخللها العنف البطيء، مشاهد من دفق زمني يتجاوز عمليات التنظيف الخطابية بكل بداياتها ونهاياتها الصحية. ومشاهد الانسكاب الزمني التي تستعصي على التعريف وتراوغ ببداياتها ونهاياتها الصحية.
تسائل كوامي أنتوني أبياه، “هل ما بعد في ‘ما بعد الاستعمار’ هي نفسها ما بعد في ’ما بعد الحداثة‘؟” بصفتنا خبراء بيئيين، قد نطرح أسئلة بحث مماثلة عن ’ما بعد‘ في ’ما بعد الصناعي‘، و’ما بعد الحرب الباردة‘، و’ما بعد الصراع‘. فلو أن ماضي العنف لم يمضِ بالأساس، فما بعده ليس ’بعد‘ بالكامل: تُشاركنا الجسيمات والنفايات الصناعية السائلة نفس الأوساط – العناصر الوبائية والبيئية التي نعيش فيها بل وتشاركنا أجسامنا ذاتها، والتي لا تعتبر معاصرة لنا أبدًا من الناحية البيئية. ينطبق شيء مماثل على مجتمعات ما بعد الصراع التي يحتفل قادتها سنويًا بذكرى وقف أعمال العنف رسميًا حسب ما هو معلن في التقويم، في حين أن العنف البطيء المستمر عبر أجيال قد يواصل أعمال العنف بوسائل أخرى، كالألغام الأرضية غير المنفجرة أو المواد المسرطِنة من النفايات العسكرية، على سبيل المثال.
إن عصرنا هو عصر الرأسمالية التوربينية الصاعدة، حيث تبدو اللحظة الآنية مختصرة أكثر مما كانت عليه في السابق، على الأقل بالنسبة للفئات المتميزة المحاطة بوسائل تكنولوجية تحفظ الوقت وتضاعِف الإحساس بعدم وجود وقت كافٍ في آن. بالتالي، فإن أحد أكثر التحديات إلحاحًا في عصرنا هو كيفية إعادة توجيه اهتمامنا – سريع التشتت – نحو التدهور البطيء للعدالة البيئية. لو أن الهوة بين الأغنياء المحاصَرين والفقراء المنبوذين صارت أكثر حِدة من أي وقت مضى، في ظل النيوليبرالية، فإن عصرنا هو أيضًا عصر الزمن المُحاصَر حيث صارت السرعة في نظر العديدين قيمة دافعة ومسوِغ ذاتي تجعل العنف “الهادئ” شكوى ضعيفة في عصرنا، برأي مَن يعيشون بعيدًا عن فتكه المستنزِف. وتيرة الأتوثانية[1] لعصرنا، بتقنياتها التي لا تهدأ ووعودها اللانهائية، وإحباطاتها اللانهائية أيضًا، تدفعنا لمواصلة النقر بأصابعنا مشتتين في بحثٍ لا يشبع سعيًا وراء تأثرٍ أسرع، بدون وعي في الغالب.
يطرح المفهوم الملتبس للعنف البطيء عدة تحديات: علمية، قانونية، سياسية، وتمثيلية. بين نشوء العنف البطيء وآثاره المتأخرة، تتلاشى أسباب وذكرى الكارثة بسهولة عن الأنظار فتمر الخسائر عادة دون حصر أو ذِكر. وهذا الاستبعاد بدوره يجعل تأمين تدابير قانونية فعالة للوقاية والإصلاح والتعويض صعب للغاية. علاوة على ذلك، فإن الخسائر الناجمة عن العنف البطيء غير متزامنة لا مع روايتنا ولا مع توقعاتنا الإعلامية ولا مع المواسم السريعة للتغيير الانتخابي. يتبنى الساسةُ عادةً موقف “آخر ما يُدرَج، أول ما يُخرَج” تجاه القضايا البيئية، فيعترفون بها في أوقات السِعة، ويتخلصون منها بمجرد ضيق الوقت. نظرًا لأن التشريعات البيئية الوقائية أو الإصلاحية تستهدف العنف البطيء إجمالًا، فلا يمكنها تقديم نتائج يمكن التعويل عليها في دورة انتخابية، رغم أن هذه النتائج قد تكون مُنجية في النهاية. يتعامل العديد من السياسيين – والناخبين أيضًا في الواقع – مع العمل البيئي عادةً على أنه أمر بالغ الأهمية ولكنه غير مُلِح. وهكذا، يُضيف جيلًا بعد جيل من الساسة الذين يتابعون دورات مدتها سنتان أو أربع سنوات تأجيلات جديدة إلى كومة من الإجراءات المؤجلة بالفعل. فيما يخص العنف البطيء، تصبح عبارة “أجل، ولكن ليس الآن، ليس بعد.” هي طريقة العمل، مع استثناءات نادرة.
كيف يمكن حث القادة على تجنب كارثة لن يحصدوا الأرباح السياسية لتحركاتهم تجاهها آنيًا بل سيجنيها آخرون بعد عقود، وربما قرون، من الآن؟ كيف يمكن للنشطاء البيئيين والكُتاب العمل لمواجهة القوى السياسية، والاقتصادية، بل والقوى العلمية المُنصبة على المنفعة الذاتية الآنية، والتسويف والادعاء؟
تناوُل تحديات العنف البطيء هو مواجهة المعضلة التي واجهتها راتشِل كارسون منذ ما يقرب نصف قرن حين سعت إلى تجسيد ما وصفته ببلاغة بـ “الموت مُراوغةً.”. كانت موضوعات كارسون هي التضخم البيولوجي، وانجراف السموم، وصور من العنف البطيء غير المباشر، والتي تسبب صعوبات تخيلية هائلة للكتاب والنشطاء على حد سواء، حالها كحال تغير المناخ. لجأت كارسون ومراجعي “ربيع صامت” إلى مفردات سردية في كفاحهم لتجسيد خطر ليس له شكل محدد: وصف أحد المراجعين الكتاب على أنه يكشف “الأخطار الجديدة المرتجَلَة والغامضة التي نُصِر على خلقها في كل مكان من حولنا”، بينما كتبت كارسون نفسها عن “ظل لا يقل شؤمًا لأنه بلا شكل وغامض.”.
تتطلب مواجهة العنف البطيء أن نخطط ونعطي شكلاً رمزيًا لتهديدات لا شكل لها تتوغل تداعياتها القاتلة عبر المكان والزمان. إن التحديات التمثيلية حادة، وتتطلب طرقًا إبداعية لجذب انتباه الجمهور إلى الأفعال الكارثية التي تكون خافتة في المشهد الفوري ولكن تأثيراتها صارخة على المدى الطويل. يستلزم التدخل التصويري ابتكار رموز أيقونية لتجسيد كوارث لا شكل لها بالإضافة إلى صور سردية تضفي على تلك الرموز إلحاحًا دراميًا.
في بناءه لمفهوم العنف البطيء يستعين الكاتب بمفهوم العنف البنيوي فيأخذ منه نقاط ويطرح أخرى ويوضح التشابه والاختلاف بين المفهومين على النحو التالي:
صك جون كالتونج، عالم الرياضيات وعلم الاجتماع النرويجي البارز، مصطلح “العنف المراوغ أو البنيوي” بعد سبع سنوات من قيام راتشِل كارسون بلفت انتباهنا إلى الآليات الفتاكة لما أسمته “الموت المراوغ”. نظرية كالتونج وثيقة الصلة بموضوعنا لأن بعض اهتماماته تتداخل مع الشواغل المحركة لهذا الكتاب، بينما يُبرز بعضها الآخر الصفات المختلفة التي أسعى لإبرازها بتقديم مصطلح “العنف البطيء.”. يقف العنف البنيوي -كما يقدمه كالتونج- على طرف نقيض مع العنف الشخصي المألوف الذي يهيمن على مفاهيمنا حول ماهية العنف بحد ذاته. كان كالتونج مهتما مثلي بتوسيع نطاق ما يُشكل العنف. فسعى إلى التركيز على البنى الواسعة التي بإمكانها حث ممارسات من العنف الشخصي وتؤسس لأشكال من العنف منها وفيها. يتنوع العنف البنيوي بمعدلات غير متساوية، بين انتشار المرض كنتيجة لنظام رعاية صحية مُسلع، والممارسات العنصرية ذاتها. ما أتشاركه مع الخط الفكري لكالتونج هو اهتمام بالعدالة الاجتماعية والفاعلية الخفية والتركيز على أشكال معينة من العنف غير المحسوس.
وفقا لذلك، يمكننا مثلًا، الإقرار بأن العنف البنيوي المُتجسد في نظام نيوليبرالي من إجراءات تقشف وتعديل هيكلي وتحرير متسع ودمج شركات ضخمة واتساع الهوة بين الفقراء والأغنياء هو نوع من العنف المُغطى، والذي يكون عادة مُحفز لعنف بيٍّن يمكن إدراكه أكثر. وكمثال بيئي صريح للعنف البنيوي، يمكن الرجوع إلى ما يؤكد عليه وانجاري ماتاهي بأن الأعباء النظامية للديون القومية التي تدين بها عديد من الدول المُسماة دول نامية لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي تمثل عائق رئيس للاستدامة البيئية. كما كتبت عالمة الأرض النسوية جيل شنيديرمان -وهي من خيرة مفكرينا في موضوعات الزمن البيئي – عن كيف يمكن للانحلال البيئي أن “يتخفى بوصفه حتمي”.
ومع كل التعديلات التي مرت بها نظرية العنف البنيوي ومع كونها لا تزال مُعبِرة، فإن المفهوم ما زال يحمل آثار تكوينه في ذروة زمن التفكير البنيوي والذي يميل إلى حتمية سكونية. ونلاحظ ذلك مثلا في إصرار كالتونج على أن “العنف البنيوي هو عنف صامت – لا يتجلى – فهو ساكن بالضرورة كالمياه الراكدة.” وعلى نقيض هذه الدلالات السكونية للعنف البنيوي فمن خلال تقديمي لمفهوم العنف البطيء أسعى إلى تقديم تساؤلات حول الزمن والحركة والتغير وإن كان تدريجي. فالتأكيد الصارخ على عنصر الزمن في مفهوم العنف البطيء يسمح بأن نضع نصب أعيننا تحديات التمثيل ومعضلات التخيل التي يثيرها ليس فقط العنف غير المحسوس، لكن أيضا التغير غير المحسوس الذي يفصل العنف عن مسبباته الأصلية بمرور الزمن. يصير الزمن فاعل بطرق معقدة، ليس أقلها ما طرأ على النماذج الزمنية في حياتنا التي يحركها الإعلام المشهدي[2] على مدار اليوم طوال أيام الأسبوع، من تحولٍ جذري منذ تقديم كالتونج نظريته للعنف البنيوي قبل ما يقارب أربعين عامًا. وعليه، فأن نتحدث عن العنف البطيء يعني أن نشتبك بشكل مباشر مع سياسات السرعة المعاصرة.
باختصار، تستلزم نظرية العنف البنيوي إعادة التفكير في مختلف مفاهيم السببية والفاعلية فيما يخص الآثار العنيفة. العنف البطيء على النقيض من ذلك قد يضم أشكال من العنف البنيوي، إلا أنه يمتد على نطاق وصفي أوسع يجذب الانتباه ليس فقط إلى التساؤلات حول الفاعلية، ولكن إلى فئات توصيفية أشمل وأعقد لعنف يُمارَس ببطء على مدى الزمن.”.
يعرض الكاتب بعد ذلك عدد من التحديات التي تواجه المفهوم سواء تحديات يفرضها عليه طبيعة العصر الذي نعيش فيه، وهنا يشير نيكسون لفكرة “مدى الانتباه القصير” و”السرديات المُجتزئة” المميزة لعصر السرعة الذي نحيا فيه، فكل شيء يتحرك بسرعة ولا يوجد مجال للتأمل والوقوف والانتظار وكل الحقائق هي أنصاف حقائق وكل الحكايات غير مكتملة، وعلى المستوى الصحي فإن تناقص مدى الانتباه هي واحدة من أبرز التداعيات السلبية على صحة الفرد في العصر الحالي. هكذا سياق من تشتت واجتزاء يتحدى فكرة العنف البطيء الذي يقتضي إدراكه تناول سردية ممتدة بتركيز كبير.
“في عصرٍ يتدهور فيه مدى الانتباه، تتضاعف صعوبة التركيز على ما ينتجه العنف البطئ للانحلال البيئي من تدهور عبر الزمن، رغم تزايد خطورته. يكتب كوري دوكتورو قائلا أننا نعيش في حقبة تصبح فيها الشاشة الإلكترونية “نظام بيئي لتقنيات المقاطعة.” أو كما تقول ليندا ستون المديرة التنفيذية السابقة لميكروسوفت أننا نحيا الآن في عصر من “الانتباه الجزئي المتصل”. صار السريع أسرع مما كان وصارت وحدات القَص أقصر بالتالي. في محيط ثقافي من زمن متسارع رقمياً كهذا، وسردية مُجتزئة، تتفاقم عواقب الكوارث بين الأجيال. لذا لكي نجعل العنف البطيء مرئي، علينا إعادة تعريف السرعة، بجانب أمور أخرى: ونرى مثل هذه الجهود في الحديث عن تسارع معدلات الانقراض والتغير المناخي ومحاولات إعادة سك كلمة “جليدي” كصورة أيقونية للفقد السريع غير المقبول، بعدما كانت يومًا مجاز للتعبير عن البطء.”.
تحدي آخر يواجهه المفهوم في سعيه ليكون مفهوم فاعل يغير الواقع يتعلق بفكرة التمثيل أو كيف يتم الحديث والتعبير عن العنف البطيء وتوصيفه. لذا يتناول الكاتب العلاقة بين العنف البطيء وصفات الظاهر والمرئي والتمثيل والمشهدية والشهود. فيوضح أولاً مدى أهمية موضوع التمثيل:
“التحيز التمثيلي ضد العنف البطيء له أثر جسيم في تحديد ما يعتبر خسائر. خسائر العنف البطيء -البشرية والبيئية- هي عادة خسائر لا تُرى ولا تؤخذ بعين الاعتبار. فخسائر العنف البطيء يتم تصويرها كخسائر خفيفة يمكن التعامل معها، مما يؤثر بشدة على طرق تذكرنا للحروب، وبالتالي على الخسائر المتوقعة من الحروب المستقبلية. يمكن ملاحظة هذا التحيز في الطريقة التي تم بها توثيق الحروب – ذات التداعيات المهلكة على مدى المكان والزمان – في السجلات التاريخية بدقة. فمثلًا، تأتي افتتاحية مجلة النيويورك تايمز حول فيتنام لتعلن أنه “خلال سنواتنا الإثنى عشر هناك قتلت الولايات المتحدة وساهمت في قتل مليون وخمسمائة ألف إنسان على الأقل.”. هذه العبارة البسيطة “خلال سنواتنا الإثنى عشر هناك” تُقلِص ضريبة الحرب وتُحجِم المذبحة المستمرة ببطء: فمئات الآلاف نجوا في سنوات الحرب الرسمية، ليخسروا حياتهم ببطء فيما بعد بسبب العامل البرتقالي[3].
في مثل هذه الظروف، حيث تستمر المخاطر طويلة المدى في الظهور فإن حصر مدى خسائر الحرب بعبارة: “خلال سنواتنا الإثنى عشر هناك” هو تضليل. تلك العبارة الصغيرة التي تبدو بريئة، هي تذكير قوي بكيفية تجاهل تقاليدنا الخطابية في إحاطتها بالعنف للخسائر المستمرة المتأخرة بشكل منهجي.”
وبعد توضيحه لمدى التأثير السلبي للتحيز التمثيلي ضد العنف البطيء على عملية إدراك ومن ثم الإعتراف بتجليات هذا العنف البطيء يحاول الكاتب أن يوضح كيف يمكن مواجهة هذا التحيز التمثيلي وأن نحسن تمثيل العنف البطيء فيشرح تعقيد مشهد التمثيل ويطرح التساؤلات في محاولة لتقديم طريقة للخروج:
“كيف نوضح التهديدات التي تأخذ وقت حتى تنشر مخاطرها، التهديدات التي لا تتجسد في مشهد سينمائي متفجر، وتحرك المشاعر نحوها؟ كلمة “استيعاب” مهمة جدا، فهي مصطلح يتقاطع داخله مساحات الفهم والعاطفة والفعل معا. أن نشرك العنف البطيء يعني أن نواجه كافة الطبقات اللازمة للهضم والاستيعاب: يستلزم استيعاب التهديدات غير المحسوسة وجعلها قابلة للاستيعاب بالحواس بتقديم البراهين العلمية والتخيلية. تقليد هام من تقاليد الفكر البيئي يعطي الأولوية للاستيعاب الحسي؛ يقدم ما نراه على البقية كمعيار تأسيسي لأي أخلاقيات بيئية يُعتد بها. في كتابه الإنسان والطبيعة يطرح أحد أهم الرواد البيئيين في منتصف القرن التاسع عشر، جورج بيركنز مارش، فكرة أن؛ “القدرة الأهم صقلها والأصعب تحصيلها في نفس الوقت هي أن يرى الإنسان ما هو أمامه.” ومثله يؤكد ألدو ليوبولد أنه “يمكننا أن نتعامل بأخلاقية فقط مع ما نستطيع رؤيته.” ولكن ماذا يحدث عندما يُكف بصرنا، عندما يظل ما يمتد أمامنا – في محيطنا الزماني والمكاني – غير مرئي؟ كيف يمكننا في واقع الأمر أن نتصرف بأخلاقية تجاه المجتمعات الإنسانية والحيوية التي تتجاوز معارفنا الحسية؟ ما هو إذن موقع الرؤية في عالمنا الذي نسكنه الآن؟ ما هو موقع الحواس الأخرى؟ كيف يمكننا جعل العنف البطيء مرئي وكذلك تحدى امتياز المرئي؟
أسئلة كهذه لها آثار محورية على استيعاب العنف البطيء، سواء على نطاق ضيق أو واسع، نطاق خلوي أو عابر للقوميات. الوعي الكوكبي[4] (وهو مفهوم مر بعدة تشكلات نظرية) يصبح وثيق الصلة هنا، فربما يمكن الاستفادة منه بأكبر قدر ممكن بالمعنى الذي تشرحه به ماري لوي برات، إذا ربطنا بين تساؤلات السلطة والمنظور، مع وضع العنف غير المرئي الكامن نصب أعيننا. من يمكنه أن يرى، ومن أين؟ متى وكيف يصبح هذا التمكين البصري معياري؟ وما هي المنظورات التي تخفيها تقاليد النظر المهيمنة حول المرئي، لاسيما منظورات الفقراء والنساء والمُستعمَرين؟ صياغة برات لمفهوم الوعي الكوكبي تظل قيمة لأنها تسمح لنا بالربط بين أشكال الاستيعاب وأشكال المعرفة الإمبريالية.
معالجة العنف الذي تتجاهله بُنى الاستيعاب المهيمنة تشتبك بالضرورة مع القضية الثقافية المتغيرة التى تدور حول من يُعتبر شاهد. تتشابك النزاعات حول ما يُحسب عنف مع الصراعات حول من يحمل السلطة الإجتماعية للشهادة، الأمر الذي يتضمن أكثر من مجرد الرؤية أو عدمها. السياسات المتشابكة للمشهدية والشهود لها آثار تمتد فيما وراء العنف البطيء البيئي. فمثلًا، العنف المنزلي يهدد الحياة لكنه بطيء وبلا نزف، ووحشي بطرق لا تكون قاتلة بشكل مباشر: فأنف مكسور يؤسس نظام أدلة مختلف عن حرمان من الصحة والعلاج الطبي والطعام على مدى زمني ممتد. الباب المغلق سلاح. الأبواب بالنسبة للنساء أسلحة طويلة المدى، وغير فتاكة، ولا تترك وراءها أثر. الأبواب لا تشهد على كارثة واحدة فاصلة. علاوة على ذلك، ففي عديد من الثقافات، لا يُعرَّف الاغتصاب كاغتصاب لو كان فاعله هو الزوج. وفي بعض المجتمعات فالاغتصاب لا يُعتبر اغتصاب إلا إذا شهد الواقعة ثلاثة رجال بالغين. وكما يقول الصحفي تشيستنات “النزف دليل” وعليه، إذا كان عنف بلا نزف وبطيء الحركة، ستموت القصة في الغالب، خاصة إذا كان من يحكيها هم أُناس سلطة شهادتهم مطروحة ثقافيا.”
في النهاية يؤكد نيكسون مرة أخرى على دور الإعلام الاستراتيجي والمحوري في توجيه المشهد اللحظي وبروزته، وأثر ذلك على السياسات العامة والأولويات التي تؤخذ في الاعتبار. يتساءل أيضا عن ماهية التدخلات الممكنة لضم غير المرئي من الكوارث كافة الى هذا المشهد!
تتسم أنواع مختلفة من الكوارث بتفاوت في الثقل السياسي والعاطفي. الأجساد المتساقطة، الأبراج المحترقة، الرؤوس المتفجرة والبراكين وموجات المد العارمة ( تسونامي) والانهيارات الجليدية قادرة على لفت النظر بقوة وسرد ماهية العنف البطيء التي تنكشف عبر السنين والعقود وحتى القرون.
قصص التراكمات السامة وكم غازات الاحتباس الحراري الهائل والانقراض المتسارع للأنواع بسبب بيئتها المُدمَرة جميعها مأساوية ولكنها عبارة عن كوارث ملتفة علمياً حيث يتم تأجيل الخسائر البشرية، وغالباً لأجيال.
في هذا العصر الذي يبجِل فيه الإعلام كل ما هو ملفت للنظر ومثير للدهشة وتوضع السياسات العامة وفقا للاحتياجات الفورية في المقام الأول، تكون المعضلة الرئيسة هنا استراتيجية وتمثيلية : كيف يمكن تحويل الصور وسرد الكوارث بطيئة الحركة وطويلة الأمد لآثارها الظاهرة . الكوارث مجهولة الهوية والتي لا تضع أحدا في المركز. كوارث تتسم بالاستنزاف ولا تبالي بالتقنيات التي يحركها الحس في عالمنا المرئي، كيف يمكننا تحويل الحالات الطارئة الطويلة المتمثلة في العنف البطيء إلى قصص درامية بالقدر الكافي لإثارة المشاعر العامة وضمان التدخل السياسي، الحالات الطارئة التي أدت عواقبها إلى نشوء بعض التحديات الأكثر خطورة في عصرنا؟
خاتمة:
هذه هي المرة الأولى التي يتعرض فيها مترجموا هذا النص لمفهوم العنف البطيء، ومع ذلك يبدو المفهوم مألوف بسبب خبراتنا الحياتية التي ينجح هذا المفهوم في توصيفها والإمساك بها وهذه من أهم صفات المفاهيم الجيدة والفعالة.
صورة من هذا العنف البطيء تتجلى في ما نتعرض له يوميًا بأشكال شتى، أبسطها المشي في شوارع القاهرة المكتظة بوسائل المواصلات وعوادمها هذه الانبعاثات سواء من وسائل النقل، أو المصانع أو غيرها هي أولى مسببات الاحتباس الحراري والمؤثر السلبي الأول على صحة الأفراد. فحسب توقعات منظمة الصحة العالمية، سيتسبب التغير المناخي في ربع مليون وفاة إضافية سنويا بين 2030-2050 بسبب تعرض كبار السن للحرارة والأمراض الصدرية الناتجة عن تلوث الهواء والملاريا ونقص التغذية للأطفال.[5]
وفي فبراير من العام الماضي 2020، أصدرت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية تقرير بعنوان تلوث الهواء.. عبء صحي متزايد على المصريين[6] ”الجسيمات الدقيقة 5.2 PM كمؤشر“ وعرضت مخاطر هذه الجسيمات وأثرها على صحة الأفراد مع مجموعة من التوصيات. وعرفت المبادرة جسيمات PM2.5 أنها هي جسيمات دقيقة تتكون بشكل رئيسي من نواتج احتراق الوقود أو العمليات الصناعية المختلفة ومحطات الكهرباء والحرق المكشوف للنفايات. ويتغير تكوينها بتغير الجغرافيا والمناخ والأنشطة الصناعية لكل موقع. ولا توجد معلومات حديثة عن مساهمة الأنشطة الصناعية المختلفة في تكوينها في مصر.
صورة أخرى لهذا العنف البطيء نراها فيما يذكره أحمد الخولي[7]، أستاذ التخطيط العمراني في مقاله “هل يحل التخطيط العمراني مشاكل البيئة والعدالة الاجتماعية في مصر؟[8] من منظور تحليلي عن التخطيط العمراني غير المراعي للاعتبارات البيئية، فيشير لدور مخططي المناطق الحضارية في معالجة قضية تغير المناخ والتحديات المرتبطة به من قضايا أخرى وذلك من خلال عمليات فنية وسياسية لوضع مخططات من أهدافها تطوير استخدامات الاراضي وادارة العمران. وتخاذل المخطط الاستراتيجي القومي للتنمية العمرانية الذي تم اعتماده عام 2014 عن التطرق لقضية تغير المناخ. والمنعكس على التوسعات في التنمية العمرانية على سواحل دلتا النيل كإنشاء مدينة المنصورة الجديدة على سبيل المثال في 2017، رغم التحذيرات المستمرة بشأن خطر ارتفاع مستوى البحر.
كذلك فإن ما يطرحه نيكسون بأن من لا يمتلكون الموارد هم أول المتأثرين بالعنف البطيء والمصطلح الذي أطلقه كيفن بال “بشر يسهل التخلص منهم” نراه منعكس بشكل واضح خاصة في السنوات الأخيره من إزالة وإزاحة مناطق بأكملها في الوراق، الطالبية، العمرانية، السيدة عائشة، بدون تعويضات أو سكن بديل، بل وفي احدى احتجاجات السكان تم القبض عليهم[9]. سواء كان هذا من أجل الاستثمار، أو توسيع شبكات الطرق، بالتأكيد هو عنف بطيء ذلك أن هذا التوسع يعني توافد المزيد من المركبات مما يعني انبعاث المزيد من الغازات، والتعرض للمزيد من جسيمات PM2.5 مما يعني المزيد من الأمراض التي تهدد حياة الأفراد.
خطورة أخرى مرتبطة بالعمران تتجلى في المدن الجديدة التي تحتوي أحيائها السكنية على برك اصطناعية ومناطق خضراء في الصحراء، في حين أن مصر تعاني من ندرة المياه وتقع تحت خط الفقر المائي. هذا بالاضافة انها مقصورة على فئة معينة من البشر يُستثى منها الفقراء دون أدنى شك![10]
صورة أخرى لتفاعلنا مع مفهوم العنف البطيء جاءت في شكل التفكر في كلمة العنف وما تحمله من معاني الإكراه والقسوة والشدة، وبشكل إصطلاحي فإن العنف هو ما يتم ممارسته من إكراه وقسوة وشدة على شخص أو شيء ما، شدة تؤذي وتدمر وتضر. وإضافة صفة البطء للعنف تفتح أفاق جديدة لتوصيف العنف. فالعنف البطيء هو عنف تراكمي، ممتد في الزمن يصلح أن نصفه كظاهرة تاريخية، تتجذر مسبباتها في الماضي وتتجلى تداعياتها على مدى الحاضر والمستقبل. هذا البعد التاريخي واتساع المدى الزمني الذي تتشكل وتتكشف على مداره الظاهرة، يضفي عمق وتعقيد عليها، عمق الجذور والمسببات وتعقيد الوصف والكشف والقدرة على حصر الظاهرة وتحديدها ومن ثم القدرة على مقاومتها والتخلص منها.
طرح نيكسون لمفهوم العنف البطئ، يدفع إلى التفكير في صفات التخفي والمراوغة واللاتجسد واللامشهدية واللادرامية والامتداد الزمني التي تسم هذا العنف البطيء، لدرجة تجعله تقريبا غير مرئي وعليه غير موجود، ففي عالم يتمركز حول الحس يصبح ما لا نقدر على إدراكه بحواسنا المادية هو والعدم سواء. ربما يصبح مفهوم العنف البطيء خطوة على طريق مقاومة المادية المتفشية والتمركز حول الحس اللذان يسمان عالمنا الحديث سواء على مستوى الإبستيمولوجيا أو الإنطولوجيا. فمعارفنا لا تُمنح المصداقية إلا إذا حصَّلناها عن طريق التجارب والأدلة الحسية، ووجودنا لا يكتسب شرعيته إلا عن طريق الأفعال المتجسدة المادية.
عود على صفات التخفي والمراوغة والامتداد الزمني للعنف البطيء، فإن رؤية هذه السمات تساعدنا على توسيع مفهوم العنف بما يساعد على كشف أنواع عديدة من الظلم والقهر. وكما يذكر نيكسون نفسه فإن العنف ضد النساء هو في غالبه من هذا النوع؛ عنف بطيء تكَّون عبر التاريخ واتخذ شكل عادات وممارسات تقترب من كونها مسلمات لا تقبل مجرد الشك فيها والتساؤل حولها وعليه لا تصل لمرحلة تغييرها. عنف آخر يتبادر إلى الذهن هو العنف النفسي الذي يمارسه ما نطلق عليهم “مُعنفين abusers”، هذا العنف لا يجرح جروح مادية ولا يوجه ضحاياه بسوط، لكنه يتلاعب بأفكارهم وبمشاعرهم وبرؤيتهم لأنفسهم وبشعورهم بالاستحقاق، تلاعب يُحقر من ذواتهم ويجعلهم عبيد لمُعنفيهم يستمدون أحقيتهم في الوجود مما يمنحهم إياه الآخرون. مثل هذا الشعور بالانسحاق وانعدام الثقة بالذات يشوه ويجرح ويؤذي ويدمر، ربما أكثر من سوط يضرب جسد فيدميه.
أخيرا، ففي تقديمه لمفهوم العنف البطيء، يربط روب نيكسون بين إهمال الآثار الفتاكة والممتدة للكوارث والاهتمام الموجه نحو أحداث المشهد اللحظي كما يلفت النظر إلى التحديات التي تواجه الناشطين البيئيين أثناء العمل على عرض ومواجهة آثار العنف البطيء. فعند قيام حرب أو هبوب إعصار، أو تعرض الأرض لجائحة وبائية كما هو الحال مع كوفيد – 19، تتوجه الكاميرا بل والدراسات والكتابات في مجملها نحو مظاهر الكارثة وقت حدوثها، ووسائل التصدي لها لنجاة الإنسان. لكن ماذا عن آثار ما بعد الكارثة؟ وهل تبدأ الكارثة في تغيير العالم منذ اللحظة الأولى لوقوعها؟ ينسى البشر الكوارث سريعًا، لكنها لا تنتهي بهذه السرعة التي نتخيلها. ومن هنا تأتي أهمية استيعاب العنف البطيء كمفهوم يصف ويفسر ويحث على الفعل بكشفه لأنماط من العنف الملِّحة والخطرة، كشف يحث الخطى نحو مواجهة فعَّالة للتهديدات التي ترتبها أنماط العنف البطيء على اختلافها.
[1] الأتوثانية: الوقت الذي يستغرقه الضوء لعبور طول ثلاث ذرات هيدروجين، وهي وحدة زمنية تخضع لنظام الوحدات الدولي تعادل 10−18 من الثانية.
[2] الإعلام الذي يحركه المشهد اللحظي
[3] العامل البرتقالي أو العامل أورانج هو الاسم الحركي لمبيد سام ” الديوكسين” استخدمه الجيش الأمريكي كجزء من حربه على فيتنام في الفترة من 1955-1975، وكان الجيش الأمريكي يستخدم هذا المبيد لنزع الغابات وأوراق الأشجار حتى لا يتخفى وسطها المقاتلون الفيتناميون، لكن هذا المبيد تراكم في التربة الفيتنامية ليتسبب بعد انتهاء الحرب في وفاة الكثيرين وإصابتهم بأمراض خطيرة كالسرطان وفي تشوه الأجنة.
[4] ببساطة يشير مفهوم الوعي الكوكبي أو الوعي بكوكب الأرض إلى فكرة وعي الأفراد بأنهم أعضاء وجزء من كوكب الأرض ككل وليس مجرد أعضاء في قوميات وبلدان.
[5] المصدر حلول للسياسات البيلة ، من مقال البيئة تهمك في ايه؟
[6] التقرير كاملا “تلوث الهواء… عبء صحي متزايد على المصريين“
[7] أحمد الخولي: أستاذ التخطيط الحضري بجامعة المنوفية، مصر وجامعة الخليج العربي بالبحرين. تشمل اهتماماته البحثية مواضيع التخطيط الحضري والإقليمي والإدارة البيئية والتنمية المستدامة. كان مسؤولًا عن بلورة خطة العمل البيئي الوطنية لمصر للفترة 2002-2017 وعمل في مشاريع مع مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وبنك الأمم المتحدة للبيئة، وبنك التنمية الأفريقي، والاتحاد الأوروبي، والوكالة الألمانية للتعاون الدولي، والبنك الدولي
[8] المقال كاملا : https://aps.aucegypt.edu/ar/articles/455/does-urban-planning-in-egypt-address-environmental-issues-and-social-justice
[9] أهالي الوراق يتظاهرون ضد النظام مجددا
[10] https://aps.aucegypt.edu/ar/articles/455/does-urban-planning-in-egypt-address-environmental-issues-and-social-justice#_edn14
اكتشاف المزيد من قراءات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.







































