كتب – عمرو خيري
الورقة التالية تم إعدادها للمشاركة في الحلقة النقاشية “قراءات أنثروبولوجية معاصرة”، التي تنظمها مكتبة الإسكندرية بالتعاون مع معهد الشرق المعاصر في برلين، وتنعقد جلساتها في مكتبة الإسكندرية بصفة شهرية. تناقش الورقة مقدمة من كتاب “الحياة على مقاس الحدود القائمة: الرضا في عالم من الاحتياج” لباحث الأنثروبولوجيا الوجودية والشاعر النيوزيلاندي مايكل جاكسون، وتقتصر الورقة على تقديم مقدمة الكتاب وفصلين من فصوله، وتدور حول أفكار “الأمل” و”النصيب” و”الرضا” ولقاء الباحث مع بحثه الميداني ومبحوثيه في سيراليون بعد عقود من لقائه الأول، واتجاهات الكتابة الإبداعية/البحثية الراهنة في مجال العلوم الاجتماعية.
مايكل جاكسون (الذي وُلد في عام 1940) هو شاعر وباحث أنثروبولوجيا نيوزيلاندي قام بالتدريس في أقسام الأنثروبولوجيا في أستراليا والدنمارك ليستقر به المطاف أستاذاً للأديان في جامعة هارفارد.
جاكسون هو مؤسس مجال “الأنثروبولوجيا الوجودية”، وهو مجال فرعي غير تقليدي من مجالات الأنثروبولوجيا، يستخدم البحث الإثنوجرافي ومنهجياته ويستند إلى تقاليد الوجودية وعلم الظواهر (phenomenology) والنظرية النقدية، بالإضافة إلى البراجماتية الأمريكية، وهذا لاستكشاف الحالة الإنسانية من منظور العوالم الحياتية lifeworlds والرؤى المختلفة للعالم worldviews، من حيث التاريخ والبيوغرافيا، من حيث التمثيلات الجماعية والوقائع الفردية.
يركز جاكسون في كتابته على التفاوض من أجل الوصول للاتفاقات الكامنة في القلب من جميع العلاقات: علاقات بين الأفراد، أو بين الأفراد والأشياء، أو بين الأفراد واللغة، حيث الوجود في العالم هو أزمات لا نهاية لها، ووعي متبدل دائماً لا يصله إلا كل ما هو مؤقت ومتخيل. بالنسبة لجاكسون، فطالما الفهم الأنثروبولوجي يتحقق من خلال المحادثات والوقائع التي تعانق تحيزات الباحث وافتراضاته الأنطولوجية ومشاعره، فالباحث إذن لا يمكنه التظاهر بأنه يتبوأ مقعد المُراقب المحايد تمام الحياد، الجالس لإنتاج معرفة موضوعية. تكشف أعمال جاكسون حتى الآن عن سياقات يتم التفاوض فيها على الفهم، ثم الوصول إليه، أو في بعض الحالات، يتبين أن الفهم لن يتحقق.
بالنسبة للبحث الميداني فقد بدأ مايكل جاكسون في زيارة الميدان في سيراليون بغرب أفريقيا منذ عام 1969، ثم المنطقة الشمالية في أستراليا بين عامي 1989 و1991، ثم منطقة أخرى في براري كيونزلاند في أستراليا بين عامي 1993 و1994.
نُشرت قصائده في نيوزيلاندا، وفي أعماله الشعرية يبحث عن الذات الوجودية الممزقة بين تفضيلات وهويات وأماكن وشخصيات لا سبيل للتوفيق بينها. كتب عن إحدى دواوينه الناقد فينسنت أوسوليفان قائلاً: “ما يسمعه المرء في كتابته هو الصوت الرصين الواثق الدولي، الذي يحرك شعره تحريكاً.. ذلك الحوار الذي تسمعه من إنسان هو على الطريق يرتحل في بحث دائم عن إنسان آخر”. تحقق مايكل جاكسون كشاعر على مستوى نيوزيلاندا على الأقل، فحصل على جائزتين في عام 1981 وفي عام 1995، على ديوانين من دواوينه.
أما أعمال جاكسون الأنثروبولوجية الأخيرة فقد استكشفت موضوعات عدة، مثل العلاقة بين التجربة الدينية والمواقف المؤطرة بحدود معينة (كتاب النخلة في نهاية العقل)، والتبدل الوجودي بين الانشغال بالذات الفردية والذات الاجتماعية (كتاب “Between One and One Another”) والكتابة كتقنية لتهيئة الصلات المتجاوزة لحدود الاتصال العادي/التقليدي (الشاطئ الآخر)، ثم كتابنا هذا (الحياة على مقاس الحدود القائمة – Life Within Limits) الذي يستكشف فيه فكرة “الرضا – Well-being” أو بالعامية: إن الواحد/الواحدة مننا يبقى/تبقى “كويس/كويسة” أو “تمام” أو “زي الفل” أو “كده حلو”، أو ربما “الانبساط” أو “الإحساس بالستر”؟ أتركها لتقدير القارئ.
في مقدمة كتاب “الحياة على مقاس الحدود القائمة: الرضا في عالم من الاحتياج” نجد من الأفكار أولاً: افتراض مايكل جاكسون أن الحياة داخل الاتحاد الأوروبي أو أمريكا الشمالية مثلاً ليست بالضرورة أفضل من الحياة في أي بلد نامي، إذا فكرنا في الأمر على مستوى الفرد وتطلعاته وإحباطاته؛ بمعنى أن الوجود الإنساني إذا كان هو المقياس لجودة الحياة، فلا فارق بين غني وفقير، ولا بين مواطن يعيش ويعمل في مدينة نيويورك محامٍ مثلاً، وآخر يعمل مزارعاً في محافظة الدقهلية، بل ربما كانت حياة فلاح الدقهلية أفضل من حياة محامي نيويورك إذا عرفنا أن “رضا” الفلاح عن حياته أكبر من رضا المحامي الأمريكي عن حياته. هي إذن دراسة في “الرضا” أو بحث المرء عن أنه يكون “كويس” well being. هي فكرة ربما كانت رومانسية، أو لا تركن إلى أساس نظري متين، أو ربما تنزع للطوباوية، وهي أيضاً فكرة ربما مثلت مفتاحاً لفهم لغز سعي الملايين للهجرة من أفريقيا جنوب الصحراء والشرق الأوسط إلى العالم المتقدم.
فيما يلي سأقدم مقتطفات من الكتاب لإلقاء الضوء على “طبيعة” كتابة مايكل جاكسون ومنهجه وأفكاره كما يطرحها الكتاب.
يقول مايكل جاكسون في المقدمة: “هذا الكتاب هو مقال في فهم الرضا الإنساني، ليس كحالة مستقرة نهائية، إنما كمجال للصراع والجدل. مثل الخير والمنطقية، فإن صعوبة تحقيق الرضا لا تؤدي إلى انحسار سيطرة الفكرة على مخيلاتنا، إذ أنها تشير إلى أمل، من دونه يصبح الوجود لا يحتمل. فكرة مفادها أن الحياة، حياتنا وحياة من نهتم بهم، تدخر لنا أكثر مما فات. رغم أنه من الصعب أن تصادف أناساً راضون بشكل تام ونهائي بنصيبهم، فمن الأندر أن تصادف أناساً لا يتوقعون أي شيء من الحياة، ويقبلون الحالة الراهنة بلا منازعة، ولا يتخيلون يوماً أن أوضاعهم قد تتحسن اجتماعياً أو روحياً أو مادياً، أو يجب أن تتحسن.
هذا الإحساس بأن “تحقق الرضا” مسألة مراوغة وعابرة وغير موزعة بعدالة على الجميع، يشعر به الغني مثلما يشعر به الفقير، وفي جميع المجتمعات. لاستكشاف هذه الحالة من السخط الوجودي، سافرت إلى دولة في غرب أفريقيا وصفها تقرير حديث للأمم المتحدة بأنها المكان “الأقل قابلية للمعيشة” في العالم. بذهابي إلى سيراليون، أردت أن أرى إذا كانت الشواغل الغربية الحالية بالتنمية الاجتماعية/الاقتصادية وبحقوق الإنسان تمنعنا من الفهم اللائق لأولويات وقيم الأفارقة العاديين، وما إذا كان المواطن السيراليوني في المقابل يعيش حياة أشق من التي يعيشها نظيره الأوروبي أو الأمريكي، فيما يخص التعامل مع قضايا الندرة وعدم الكفاية.
لطالما واجه الإنسان الأفريقي قوى خارجية عرضت حياته ومعاشه للخطر. رغم أن هذه القوى تتخذ عدة قوالب وتتغير من زمن لآخر: تجارة العبيد، الحروب، الأمراض المعدية، الهيمنة الاستعمارية، تدخلات الدولة، التطرف الديني، الاستغلال الاقتصادي، الحكومات الفاسدة، فهي جميعاً تخضع لنفس الخليط من التفاعلات السحرية والعملية التي نستخدمها نحن في الغرب المزدهر، ضد قوى مثل التهديدات الإرهابية والهجرة غير الشرعية وانهيار الأسواق والكساد الاقتصادي. لكن الرضا متصل دائماً بما هو أكثر من وضع المرء التاريخي أو الثقافي. الرضا يعكس إحساساً بالانقطاع ما بين من نكون على جانب، وما ننشد أن نكون على الجانب الآخر”.
كتابة مايكل جاكسون بين العام والذاتي، متضافرة بكميات متغيرة دائماً من هذا وذاك، يتنقل ببراعة وحرية تامة لا يقيده قارئ افتراضي معين يخشاه. من المقدمة مرة أخرى نقرأ:
“عدت إلى سيراليون أيضاً لأفي بوعد قطعته على نفسي قبل سنوات. لأسباب ما زالت مبهمة لي، فالقرية القصية التي أديت فيها بحثي الميداني الأبكر، عامي 1969 و1970، وحيث عشت مع زوجتي الأولى وابنتي أثناء موسم الجفاف عام 1979، أصبحت كالمغناطيس تجبرني على العودة إليها. رغم زيارتي لسيراليون مرات كثيرة على مدار السنوات فلم أتمكن من العودة إلى المكان الذي انشغلت به أفكاري أكثر الانشغال. أتذكر الدرب الملتف حول التل قبل الوصول إلى فيراوا، والعشب المضطرب في ساعة العصاري، وأكمة الأشجار والرمل الناعم في قاع الجدول، وتغلبني مشاعر أشبه ما تكون بالنوستالجيا وإن كنت لا أعرف لها اسماً“.
من أين يأتي الرضا؟ يقول مايكل جاكسون:
“أرى أن مشكلة الرضا ومسألة “ما الذي يجعل الحياة تستحق أن تُعاش” هما سؤالان منغرسان في السخط الوجودي.. مسألة لماذا يطارد البشر ويسكنهم – بغض النظر عن ظروفهم الخارجية – الإحساس بعدم الكفاية والإحساس بالخسارة”.
ثم يمضي جاكسون من الإحساس بالخسارة وعدم الكفاية إلى تحديد منهجه، أو مقاربته للدراسة، وهي مرتبطة بمفهوم “الأمل”، مستعرضاً الأدبيات السابقة عن “الأمل” في الوقت نفسه:
“مقاربتي لدراسة الرضا الإنساني تعكس افتراض عميق الجذور مفاده أنه بينما كثرت أسئلة الفلاسفة حول التساؤلات التي كثر البحث حولها فيما يخص الحالة الإنسانية، فإن النهج الإثنوغرافي يوفر سبيلاً أكثر إثراء لاستكشاف هذه الأسئلة استكشافاً حقيقياً. إمبريقية ويليام جيمس الراديكالية تصر على أن “العالم متعدد”، وليس وحدة، رغم الأساطير ورغم الخرائط الإدراكية ورغم النماذج التفسيرية التي نموِّه بها تعقد العالم وتناقضاته. الرضا إذن هو شيء ما للشاب اليافع، وشيء آخر تماماً للمسن، يتباين من مكان لمكان، من شخص لآخر. كما أن ما نراه صحيحاً اليوم لن يبقى صحيحاً غداً، لا سيما إذا كانت الأيام التي مرت بين اليوم والغد مُحبِطة.
يدفعني هذا إلى مسألة الأمل (بدأ مايكل جاكسون هنا يتكلم عن الأمل)، ذلك الإحساس بإمكانية أن يصبح المرء آخر أو آخرين لم يكن مقدراً له أن يكونهم. بالنسبة لجابرييل مارسيل، فالأمل هو الإحساس بأن الزمن لا يحدنا ولا يحاصرنا، هو إحساس ردد صداه بير بورديو، الذي يعتبر الأمل إيماناً بأن استثماراتنا الاجتماعية في العالم ستثمر، إن لم يكن فوراً ففي وقت ما في المستقبل. ثم هانا آرنت (آرندت)، التي ترى الأمل موازياً لمظهر “الجديد” الذي له سمت “المفاجأة المدهشة”، وهو أيضاً شيء “لصيق بكل البدايات وكل الأصول”، ويحدث رغم أنف القوانين الإحصائية والاحتمالات التي تكون ذات طابع يقيني في الحياة اليومية. هذا الإحساس بـ “الوعد” و”الممكن” الذي يشير إليه مارسيل بمسمى “الحماس للحياة”، ويشير إليه بورديو بمسمى “القادم” وآرنت بمسمى “الحمل” ويشير إليه إرنست بلوخ بمسمى “روح اليوتوبيا”. هذا الإحساس له تجسيدات لا تعد ولا تحصى: أحلام ومشاعر ثورية، ومتعة خالصة في الخروج على سفر إلى شيء جديد، أن تنتظر نتيجة اليانصيب، أن تقرأ رواية بوليسية، في كريسماس الأطفال، في الحماس التواق الذي يحصي به المرء الأيام قبل أن تأتي الإجازة، في التجهيز لرحيل جديد، في انتظار عودة الحبيب أو الصديق الغائب. مثل هانا، فإن آرنست بلوخ يجعل “الحمل” (من الحمل والولادة) مجازاً لهذا التوق للجديد، وهذا الانتظار بحماس لما سوف يأتي ليفاجئنا ويُخرجنا من أنفسنا، أو يعطينا عقد إيجار جديد مع الحياة. لكنه يجادل بأن جميع المطامح من هذا النوع جذورها تعود إلى إحساس بأن ثمة شيء مفقود في حياتنا، وأن الحياة فيها ما هو أكثر من المطروح الآن وهنا”.
ثم وفي الفقرة التالية يصوغ فرضية الكتاب في ارتباطها بمفهوم الأمل:
“لأن الأمل دائماً ما يظهر ومعه الخوف والقلق، نخبر أنفسنا أن نحترس فيما نأمل، بما أن التجربة علمتنا أن تحقيق الحلم يؤدي غالباً إلى الإحباط. الآمال تتحطم ما إن تتحقق، مثلما ينتعش الحب الرومانسي طالما هو غير متحقق.
“سوف يمس بحثي الميداني العديد من هذه القضايا، وسوف يؤدي بي إلى الاستنتاج بأن بواعث القلق المرتبطة بالأمل – في المجتمعات الغنية في الشمال والمجتمعات الفقيرة في الجنوب – تنشأ من الطبيعة غير المستقرة بالأساس والملتبسة لعلاقاتنا بالآخرين وبالعالم”.
في هذه المقولة “سوف يؤدي بي إلى الاستنتاج بكذا”.. يضع الكاتب الفرضية والنتيجة، التي يعود إليها في الفصل الأخير لنرى أنها شيء آخر.
***
في الفصل الثاني عشر، بعنوان: “سنة الخوارق الوفيرة“. يقدم جاكسون أولاً بحثه الميداني في قالب قصصي: حوار مع الصديق السيراليوني، حوار متقطع لا يشبه الأسئلة والأجوبة المنطقية والمرتبة بين الباحث والمبحوث، ووصف لمشاهد، وآلام تخص الباحث – مايكل جاكسون – وكأنها رواية سيرة ذاتية، لا علاقة لها بالعلوم الاجتماعية مباشرة. لا توجد أقل إشارة لفرضيات أو مقابلات ميدانية.
ومن الخاص ينتقل إلى العام: كيف يتحقق الرضا بطريقة ملتوية في هذا اللقاء الميداني المتوتر المشدود كالوتر. على سبيل المثال، لنتأمل هذا التحليل الذي سطره بعد حوار مع الصديق ثم مونولوج بطله/الصديق:
“أذهلتني هذه الاستراتيجية، استراتيجية السعي لتحقيق المكاسب من خلال الاستسلام. هذا النظام الأخلاقي، من العيش داخل الحدود بدلاً من الكفاح لتجاوزها. أن يحاصر المرء حريته لكي يتحرر. أن يخصم لا أن يضيف. المنطق الكامن وكأنه كما يلي: بغض النظر عن الأشياء المشتهاة في الدنيا: المزيد من النقود أو الحب أو الحرية أو السلطة، فالحصول على هذه الملموسات يعتمد على اللاملموس، الذي يتم تصوره في أشكال مختلفة، سواء الحظ أو المصير أو القدر أو القوى الروحانية. أي أن العالم الذي نتحرك فيه فعلياً يحاصره مجال مغناطيسي يتجاوز فهمنا الإمبريقي ولا سيطرة لنا عليه. بالتبعية، فإن يأسنا من القدرة على وضع أيدينا على السلع التي يقدمها لنا عالمنا الاجتماعي، قد يصل بنا إلى نقطة نكف فيها عن السعي ونضع أنفسنا تحت رحمة القوى فوق-الاجتماعية أملاً في أننا بتعريضنا أنفسنا لها [أي هذه القوى] نكون أكثر فعالية عما إذا حاولنا مقاومتها ببذل الجهد والكفاح. أي عمل ناجح يتعاطى مع العالم يتطلب عملاً مقابلاً في الاتجاه من الخضوع للعالم، استسلام وتسليم يعوض ما حصلنا عليه. ومن منظور أخلاقي: لا يمكن للمرء أن يتوقع الحصول على شيء دون مقابل، رغم أنه من خلال تعريض المرء نفسه للاستلاب من كل ما يملك فقد ينال فرصة كسب ما هو أكثر مما يأمل فيه”.
وهكذا، انطلاقاً من فكرة الأمل، إلى الجهد الواعي المبذول لتحقيق الأمل من خلال الاستسلام لقدر أو نصيب أو حظ، إلى فكرة “التضحية”، ثم لقاء ميداني آخر حول التضحية، والدين والمعتقد في علاقته بالمعاش اليومي والطموح، ينتقل مايكل جاكسون من مفهوم لآخر، بداية من ذاته، إلى الميدان والفاعلين فيه، ثم يعود إلى ذات أخرى هي ذات الباحث أو الشاعر، في “تفاوض” دائم للوصول إلى معنى، ثم التفاوض لتحقيق نتيجة، أو الاتفاق على أن النتيجة “لن تتحقق”.
في الفصل الأخير، بعنوان “كيف لا يجد المرء لنفسه طريقاً في المدينة” وليس “كيف تضل طريقك في المدينة”، فالنفي هنا مهم. أقول في هذا الفصل يلقي مايكل جاكسون على القارئ عبء سنواته في الميدان في سيراليون، وعبء أفكاره غير المستقرة وغير الحدية، ليعطيك نتيجة هي بالأساس “ما ليس النتيجة”، دون توضيح ما هو رده على فرضية الكتاب. لنأخذ هذه الفقرات مثالاً:
“يُفترض أحياناً أن في المجتمعات التقليدية، يكون الاختلاف مسألة مرتبطة بالسن والنوع الاجتماعي والمكانة والدور، لكن يُفترض أن هناك منظومة أخلاق جمعية تسود، فيها تغرب شمس الهوية الفردية. لكن العمل الميداني وسط الكورانكو [في سيراليون] وصل بي إلى نتيجة مفادها أن القيم الاجتماعية للتعايش والتعاون لا يمكن أن تتحقق إلا إذا عمل الجميع بنشاط وعن وعي باتجاه هدف مشترك يجد كل شخص في تحقيقه تحقق شخصي. الرضا إذن يعتمد على توازن أو اتزان بين إحساسنا بما ندين به للآخرين، على جانب، وما ندين به لأنفسنا على الجانب الآخر. والجميع يكافحون لتحقيق هذا التوازن بطريقتهم. أن تتحدث عن التوازن فكأن الحياة ليست بمشكلة يمكن حلها، إنما هي موقف كفاح ومشقة، لغز لا يمكن فهمه”.
“من بين ألغاز الرضا، يقول أمارتيا سين: يمكن أن تكون ميسور الحال دون أن تكون في حال جيدة. يمكن أن تكون في حال جيدة دون أن تتمكن من عيش الحياة التي تريدها. يمكن أن تنال الحياة التي تريدها دون أن تتحقق سعادتك. ويمكن أن تكون سعيداً دون أن تكون حريتك كبيرة. يمكن أن يكون نصيبك من الحرية كبيراً دون أن تحقق الكثير غير ذلك”.
ثم في الفقرات التالية يتحدث جاكسون عن كيف حقق البحث الميداني مع الكورانكو في سيراليون له هو “الرضا”. عما اكتسبه من محددات للوجود في سيراليون أضافت من خلال “هذه العلاقة مع الآخرين” إلى محددات إحساسه بالرضا عن الحياة.
ثم أخيراً، يأخذنا جاكسون إلى فقرة عن “ما ليس نتيجة هذا الكتاب” دون أن يفصح، ثم يعود إلى مسألة “السخط الوجودي”، فيقول:
“أعود إذن إلى سؤال السخط الوجودي الذي بدأت به هذا الكتاب: السعي لشيء مجهول أو شخص مجهول دونه تكون حياة المرء غير مكتملة. أن ترتبط أمانينا وخيالاتنا العاطفية بشكل مستقر وبشكل عابر، على أشياء بينها شتات، لا رابط يربطها: عالم أفضل، الحركة والتنقل، الفلوس، الحب، التعلم، الاعتراف بجهودنا.. في هذا ما يوحي بأن الرغبة البشرية نادراً ما تنشأ من شيء أو من شخص يُرى بصفته لا غنى عنه لأجل تحقق تلك الرغبة. علينا أن نتوخى الحذر في التحليل إذن، فلا نحاول الوصول إلى المصدر الحق لرغبات المرء وإحباطاته كونه ينبع من كيف يرى الشخص رغباته تلك وإحباطاته، فرغم أننا نتحرك في مجال قناعات يقينية، فتصرفاتنا نفسها كثيراً ما يكون أصلها مواقف لا سبيل أمامنا لأن ننعتها بنعوت محددة. كما أنه وبالنسبة لمن يحققون طموحاتهم وينجزون أهدافهم، تظهر أمامهم دائماً تعاسات جديدة، ورغبات جديدة. لست هنا أحاول احتقار المطامح الإنسانية لحياة أفضل، ولا أحاجج ضد مساعدة الغير على تحقيق أهدافهم بالقدر الذي تسمح به موارد المرء. إنما أذكر نفسي بأن الخيال بطبيعته يسبق نفسه، لينتج فائضاً إدراكياً يفيض عن احتياجات البقاء survival ويتبنى الوهم بأننا قادرين على التسامي على ظروفنا، وأن نولد من جديد في عالم حيث تعويض الخسائر، وحيث الإنصاف للمظلوم، وحيث الاستجابة للدعاء، وحيث الصبر على الابتلاء يُكافأ بالنهايات السعيدة، وحيث المعرفة تتحقق. بالنسبة لأغلب من قابلتهم في الميدان في سيراليون، امتزجت تلك الآمال بوعي بالحدود التي تتكشف في مجالها وداخل إطارها حياة المرء، وتقبل لفكرة أن السعادة تتكون من معرفة كيف يحقق المرء أفضل الممكن من ضمن ما هو مُتاح له، وليس الوقوف على رأس كل الأشياء أملاً في أن تحقق شيئاً آخر في النهاية. هل هناك فائدة/استحقاق ممكن من هذا السلوك؟ أترك الإجابة على السؤال لقرائي”.