لطالما عمد النسويون إلى تفكيك الفاصل بين الخاص والعام. في “استخدام وإساءة استخدام الأنثروبولوجي” (1980)، تقول ميشيل روسالدو أن ما يمكن اعتباره “منزلي” و”عام” يختلف كثيراً على المستوى التاريخي وبين الثقافات المختلفة أيضاً، كما ينبغي علينا بالتبعية تحاشي القصص الأصلية لدونية المرأة – أو هيمنة الذكور – التي تولي أهمية كبيرة لهذا الفاصل. لم تقصد ميشيل تنحية هذه الأقسام، بل على العكس؛ كانت ترمي إلى تفنيد واستجلاء العمليات التي يتأسس من خلالها ما هو عام وما هو خاص، ويتشبع بمعنى جندري.
لقد تحدى النشطاء النسويون هذه البنايات الأيديولوجية للخاص/ العام، من خلال لفت الانتباه إلى عملية إقحام الأفعال العامة فيما يبدو ميداناً خاصاً في المنزل (Collier, Rosaldo, and Yanagisako 1982; Weeks 2011). لقد لفتوا الانتباه إلى الطريقة التي أصبح بها العنف المنزلي، على سبيل المثال، طبيعياً في سياق الافتراضات التي ترسّخ للهيمنة الذكورية، كما تبنوا عدداً من التعديلات القانونية التي تحمي الإناث الضحايا بدلاً من الذكور الجناة، وبالتالي تغيير هذا الانقسام بين ما يُعد خاصاً وما يُعتبر عاماً من خلال تحدي وجود هذا التمييز نفسه. حركة “أجور الأعمال المنزلية” هي الأخرى تحدت الفصل الأيديولوجي بين العمل الإنجابي والإنتاجي، مجادلين بأن لكلٍ منهما قيمة إنتاجية على السواء.
ومن الغريب أننا حين نناقش هذا الفصل بين الخاص والعام في علاقته بالرأسمالية، نميل إلى الزعم بأننا نعرف معناه ومغزاه دون مزيدٍ من الفحص والتحقق. لقد بدأت أتشكك في هذا الزعم في مجال بحثي الأخير في الصين. وخلال مشروع مشترك (طريق الحرير في القرن الحادي والعشرين)، شرعت أنا وسيلفيا ياناجيساكو في دراسة علاقات التعاون، وعمليات التفاوض، والصراعات بين رجال الأعمال الصينيين والإيطاليين في صناعات النسيج والملابس والأزياء. وفي سياق البحث، مررنا بالعديد من الشركات التي يصعب تمييز طبيعتها الحقيقية بواسطة الفروق التقليدية بين العام والخاص، حتى وأنهم جميعاً يسعون وراء جني الأرباح. بدأت أؤمن شيئاً فشيئاً أنهم يمثلون نوعاً من الكيانات المُهجّنة؛ تسعى للربح، مُخصخَصة جزئياً، لكن ما تزال جزءاً من الدولة. هذا الالتباس يكشف عن التصادف التاريخي للعلاقات بين الخاص والعام في ظل الرأسمالية – ليس فقط في الصين، بل في بلدان أخرى.
لنأخذ المدير العام “لينفينج”، المسئول عن مشروعٍ مشترك يُدعى هوي هوا يي (1). عَمِلَ المدير لي في مكتب تشجيانغ للحرير – صار الآن شركة تشجيانغ للحرير – لأربعين عاماً. وباعتبارها مملوكة للدولة، كانت الشركة تهدف لتحقيق الربح، بشكل أكبر من خلال التصدير. في نهاية المطاف، وكما أوضح المدير لي في حوار أُجرى معه، أُنشأت شركة تُدعى سينا، إذ كانت الدولة تحاول التوسع في عملية الخصخصة. شركة سينا أشبه بشركة قابضة عامة، تشرف على 20 إلى 30 مشروعاً، من بينهم مشروع “لي” – هوي هوا يي.
الكلمات التي انتقاها “لي” لمناقشة هذه العملية كانت معبرة للغاية. المصطلح الذي قمت بترجمته، من الصينية إلى الإنجليزية، بكلمة “مُخصخَصاً”، كان في الأصل Minying، والذي يعني بالعامية “مُداراً من قبل الناس”، كما يمكن أيضاً ترجمته باعتباره “مُداراً بشكل خاص”، لكن هناك مصطلح صيني يعني “مملوكاً بشكل خاص من قبل أفراد”، وهو Siren أو Sirenbande. وتدل كلمة Minying على أن الشركة مُدارة من قبل أناس لا يمثلون الدولة. لم يستخدم “لي” مصطلح Siren، مما يشير إلى عزوف موظفي الدولة عن التحدث بشكل مباشر عن الخصخصة. لكن إحجام “لي” عن استخدام مصطلح الخصخصة – Privatization كان بسبب أن شركة سينا لا تزال جزءاً من شركة الحرير، لكن علاقتها بالدولة مختلفة. وهكذا فإن معنى “الخصخصة” يبدو غامضاً في حديث السيد لي، وحيث أنني عرفت المزيد من الأمور عن شركة سينا، فلابد أن أعيد النظر في نزوعي إلى الفصل الحاد بين ما هو “خاص” وما هو “مملوك للدولة”.
وفي سياق العديد من المحادثات، تحدث “لي” عن ممارسات عديدة متنوعة تدل بشكل تقليدي على الخصخصة، لكنها غامضة بشكل كبير. على سبيل المثال، كان الموظفون يتم تشجيعهم لشراء أسهم شركة سينا، وقد قاموا بذلك بالفعل، لكن ذلك لم يجعلهم مُلّاكاً أو حتى مديرين للمصنع. وحينما بيعت كل الأسهم، لم يتغير الموظفون الإداريون، ولا حتى أدوارهم أو واجباتهم.
بالإضافة إلى ذلك، ظلت سلطة تعيين الموظفين كما هي في شركة سينا، حيث استمرت شركة تشجيانغ للحرير في تعيين كافة المديرين. وكشركة تجارية “مُخصخَصة” لا تزال داخل شركة تشجيانغ للحرير، فإن سينا بالتأكيد شركة “خاصة” إلى الحد الذي تمارس فيه أنشطتها الهادفة للربح دون إشراف مباشر أو رقابة، وتكون فيها مسئولة عن الخسائر المحتملة. برغم أن شركة تشجيانغ مستمرة في استخدام هذه الأرباح لدفع رواتب المديرين الذين قامت بتعيينهم.
أمرٌ آخر يلفه الغموض فيما يتعلق بـ”الشركات الفرعية”. أوضح السيد “لي” أن “هناك 8 شركات فرعية تندرج من شركة سينا، ويمكنك أن تطلق عليهم لفظ Bumen”. هذه الكلمة هي في الأصل مصطلح بيروقراطي يشير إلى قسم في مؤسسة حكومية أكبر. على سبيل المثال، صديق يعمل في شركة في شانجهاي، يمكنه وصف منصبه بكلمة Bumen، ولا يزال في نفس الوقت يعتبر نفسه يعمل للحكومة. وبالتالي فإن “الشركة الفرعية” تعني الربحية وليس بالضرورة الخصخصة. لقد أردكت من خلال هذا البحث أن “الخصخصة” يمكن أن يكون لها معان متنوعة للغاية، لذلك لا تشمل نطاق العمليات الجارية بشكل كامل.
يتفق علماء الصينيات في الصين المعاصرة على ضبابية الأمور فيما يتعلق بالملكية الخاصة و/ أو العامة للمؤسسات الهادفة للربح. أما أولئك الذين يريدون رؤية الرأسمالية مزدهرة في الصين، ينظرون للأمر وكأنه يتعلق بالأصالة والموثوقية، ووفقاً لذلك يحاولون التمييز بين الرأسمالية “الصحيحة”؛ الخاصة بالكامل، و”المزيفة”؛ التي تهيمن عليها الدولة.
إذا كنا مهتمين بالرؤى العميقة التي يقدمها الأنثروبولوجيون النسويون حول تنوع الانقسامات بين الخاص والعام تاريخياً وبين الثقافات المختلفة، فعلينا أن نأخذ الكيانات المُهجّنة بعين الاعتبار، وبجدية، بالمصطلحات التي يقدمونها. يوضح التحليل التجريبي العلمي الذي يتأسس عليه هذا الفهم أن المؤسسات الهادفة للربح يمكن أن تكون خاصة أو عامة. واتباع ما يلهمنا به الدارسون النسويون يمكّننا بشكل أعمق من تحليل كيف تنطوي هذه الأقسام المرنة على مخاطر سياسية بالغة. فهي تُستخدم لتأطير عدم المساواة والهياكل الاجتماعية المُتنازع عليها في الصين، وفي أماكن أخرى. أضف إلى ذلك، كما جادل كارل بولاني في وقت سابق، أن الدولة دائماً ما تشارك في خلق اقتصادات السوق.
إن الانشغال برسم حدود صارمة بين القطاعين العام والخاص لهو تجربة أقل من حيث الدقة التحليلية من تشتيت الانتباه عن كيفية تعزيز وإعادة إنتاج هياكل السلطة العامة والخاصة، وبالأخص كيفية استخدام الدولة للموارد من أجل دعم أرباح الشركات.
المراجع
Collier, Jane, Michelle Rosaldo, and Sylvia Yanagisako. 1982. “Is There a Family? New Anthropological Views.” In Rethinking the Family: Some Feminist Questions, edited by Barrie Thorne with Marilyn Yalom, 25–39. New York: Longman.