حوار مع ديفيد جرابر: يوتوبيا القواعد – عن التكنولوجيا والغباء والمباهج السرية للبيروقراطية

حاوره – جوناثان ستورجيون لموقع flavorwire
ترجمة – عمرو خيري

قال المؤلف توم مكارثي في الغارديان: “يبهرني باحث الأنثروبولوجي. ما يجسده بالنسبة لي هو كاتب مُنتزع منه كل الهراء، وكل التخفي، وكل الإبهام”. رغم أنه من الصعب القول إن كان تبجيل مكارثي للأنثروبولوجيين مجرد جزء من إعجاب مؤقت ثقافي أو تاريخي، فلا شك أن الأنثروبولوجي، في الآونة الأخيرة، أعاد تشكيل النقاش السياسي. من من بين الأنثروبولوجيين فعل هذا أكثر من ديفيد جرابر؟

ديفيد جرابر الذي قيل عنه يوماً “أفضل مُنظّر أنثروبولوجي في جيله في أي مكان في العالم”، على حد وصف موريس بلوك، هو أيضاً ناشط وأناركي ومؤلف، بنى سمعته بصفته قادر على إماطة اللثام عن السرديات، عن الدولة والنقود والديون والبيروقراطية أخيراً. يتصادم بقوة مع من ورثناهم من اليسار ومن اليمين، ومع المجتمع الأكاديمي، والساسة، والجميع. خذ مثلاً كتاب جرابر المعنون “الديون”. سواء اتفقت مع جميع استنتاجاته أم اختلفت، فمن الصعب إنكار أنه غيّر بشكل راديكالي من كيفية كلامنا عن فكرة الديون ووزنها في حياتنا.

graeber

ومن بعد كتابته لـ “الديون”، استكمل جرابر عمله حول هذه القضية بكتابات عن التكنولوجيا والبيروقراطية في عدة دوريات، منها “ذا بافلر”، التي أسهم فيها بمقال أثيرت حوله مناقشات عديدة بعنوان “عن السيارات الطائرة وانحدار معدلات الربح”. ذلك المقال وعدة مقالات أخرى تنتظم وتُنظم في كتاب جديد مبهج ومدهش أثيرت حوله مناقشات كثيرة بعنوان “يوتوبيا القواعد: عن التكنولوجيا والغباء والمباهج السرية للبيروقراطية”. (وقد ناقش الكتاب أيضاً “مناطق الخيال الميتة” و”أدب الفانتازيا والأبطال الخارقين”). بعد سلسلة من الإخفاقات التكنولوجية والبيروقراطية بدا أنها تثبت ما أثاره الكتاب، فقد تمكنت أخيراً من الحديث إلى جرابر على الهاتف الأسبوع الماضي.

هل يمكن أن تكلمنا قليلاً عن تكوين كتاب “يوتوبيا القواعد”؟ على السطح يبدو أقل ملحمية من كتاب “الديون”. ورغم أنه يسير في القراءة ومضحك ويتعاطى مع الثقافة الشعبية (pop culture)، فهو كتاب مهم يتعاطى مع هذه التيمات المترابطة: البيروقراطية والتكنولوجيا والغباء.

 ديفيد جرابر: كنت أفكر – إلى حد ما – من منطلق سياسي. فكرت أنها كارثة، كيف أن اليمين يبدو وكأنه يعتقد أن له قدرة احتكارية على الانتقادات الموجهة للبيروقراطية، وفي أننا نتكلم عن البيروقراطية باصطلاحات ومن منطلقات عفى عليها الزمن. لذا خرجت من حالة الإحباط تلك بأن “البيروقراطي” هو “الحكومة الكبيرة”. إنه ذاك النقاش الذي لا نهاية له عن السوق ضد الحكومة. ليس الأمر هو وصف ما يحدث داخل أروقة الحكومة بالمرة. لذا فالسؤال هو: كيف نتكلم عن كيفية عمل البيروقراطية حقاً هذه الأيام؟

 رغم أن الكتاب أهم بكثير مما سأذكره الآن، لكن على كل حال: رأيت مثالاً على “قانون الليبرالية الحديدي” الذي ذكرته في فيلم لآدم كورتيس، حيث كان يتحدث عن كيف أن عندما وصل بلير وحزب العمال الجديد للسلطة في بريطانيا، وضعوا كل تلك الإجراءات الخاصة بتقليص البيروقراطية، أي أهداف وغايات، أدت إلى تداعيات مروعة، وثغرات كبيرة في المحاسبة والمساءلة، إلخ، وكل هذا تحت مسمى “كفاءة الأسواق”.

 بالضبط! وهناك كثيرون أعرفهم يعملون في الجهاز الحكومي لا يتكلمون إلا عن هذه المشكلة. كلما خرجوا علينا بإصلاح لتعديل الأحوال وتبسيط الإجراءات، يتدهور الأمر أكثر. تاتشر شنت حملة، كانت تريد تقليص عدد البيروقراطيين. انتهى بها المطاف بالتخلص منهم على الورق، لكنهم استمروا في فعل الشيء نفسه بعقود بدلاً من الوظيفة الدائمة. وهناك الكثير من البيروقراطيين كانوا يعملون في مصانع تملكها الدولة، فخصخصت المصانع، ويا للسحر.. كفوا فجأة عن كونهم موظفين حكوميين.

 سرديتك عن البيروقراطية ستدهش الكثيرين من اليمين ومن اليسار. كيف ورثنا هذه الفكرة المشوهة عن العلاقة بين الأسواق والحكومات وهذا الانتشار الرهيب للقواعد و”الأهداف”؟

هذه الحكاية تعود إلى الثورة الفرنسية، حين راح الناس يسألون: “ما الذي حدث؟” كان هناك قاعدة أساسية تقول بوجود هؤلاء النخب من الإقطاع، المكفولة لهم مهام عسكرية وحكومية، ثم هناك السوق. والسوق من هذا النوع ينظم نفسه بنفسه، عقد حر، هو وجه الحرية الإنسانية التي ستهزم بالتدريج هؤلاء الناس. لذا فنحن نتجه إلى مجتمع الفردية، حيث العلاقات مُتعاقد عليها وليست على شاكلة نظام “الصبّ” الموحد القديم… رغم أنه لا يمكن وصف أوروبا بأن لها نظام “صبّ”… إلى آخره.

من ثم كانت تلك هي الحكاية الأساسية: العلاقات بين التجار، والعلاقات التجارية وعلاقات السوق هي هذا التعبير الجوهري عن الحرية. لكن من لحظة مبكرة للغاية والناس يلاحظون أن في ظل هذه الظروف والشروط يتضخم حجم الدولة أكثر وأكثر.

هناك شيء أحبه جداً في الكتاب، أنه يتناول مجموعة مختلفة من المطامح، عن التي تناولتها الأعمال الأخرى المتعلقة بـ “النظرية الاجتماعية”. أنت تكتب عن الفانتازيا وعن الروايات والأبطال الخارقين، والسوسيولوجيين غير الماركسيين، مثل إميل دوركايم وماكس فيبر. تساءلت إذا كانت تلك فعلة متعمدة ضد اعتياد الالتزام بالتقاليد، أم أنه جزء من دورك كأنثروبولوجي؟ هل يشير ذلك إلى “منطقة ميتة من الخيال” كما وصفتها، على صف اليسار؟

دائماً ما أقول إن الناس الذين يمكنهم التعميم عن الطبيعة الإنسانية وطبيعة المجتمع لا يمكن إلا أن يكونوا من الأنثروبولوجيين، لأنهم اطلعوا على الحالات كلها. تقليدياً، فعل الأنثروبولوجيون العكس. كانوا ذاك الرجل الذي تراه جالساً منتحياً في ركن قصي يناقض أي شيء تقوله. الأنثروبولوجي كان هو ذاك الرجل الذي يناقض، من يقول: “أه، لكن في أوساط قبيلة البونجو بونجو، فإن الروابط البدائية هي…” لكن عندما يعمم الأنثروبولوجيون، تبدأ الأمور في الظهور مختلفة عمّا نفترضه.

أغلب الناس يحبسون أنفسهم في الفقاعة التي قرأوا داخلها تلك السرديات الكلاسيكية، مرة تلو المرة. عندنا تلك النصوص التي نجدها أكثر أهمية من الحقائق الإمبريقية. لذا، فأنا أحاول كتابة هذا النوع من النصوص، على طريقة المنظرين العظماء، لأننا لن نغير القصة ما لم يجمع شخص ما تلك القطع الصغيرة على نطاق ضخم، كبير. وكأن ما أقوله في كتاب “الديون” عن أصول النقود هو معرفة عامة مُتاحة لكل مؤرخي النقود. لكن، وكما تعرف، فمؤرخي النقود لا يتحدثون مع غيرهم عن هذا التاريخ. لذا فكل هؤلاء الناس يعيشون داخل فقاعات متناثرة.

كتابي القادم سأكتبه وكأنني عالم آثار. إنه عن أصول انعدام المساواة في المجتمع. وهو الشيء نفسه. تعلم علماء الآثار جميع تقنياتهم الجديدة على مدار السنوات الخمسين الماضية، وهي المعارف التي لم تخرج بعد إلى نطاق المعارف العامة. يتضح أن من كانوا يعيشون على الجمع والالتقاط لم يكن مجتمعهم مجتمع الأخوة والمساواة، ويتضح أن المدن القديمة كانت في حقيقة الأمر تراعي الأخوة والمساواة. السردية الأساسية المتاحة لنا مخطئة تماماً. لكن لا أحد – من غير المتخصصين – يلتفت لهذا الأمر.

هناك حركة سياسية معارضة لسرديتك في الكتاب، اكتسبت الشعبية والقبول بعد حركة “احتلوا”، ومفادها أن العمل المشترك على المستوى الأفقي يأتي مصحوباً ببيروقراطيته. العديد من الكتاب والنشطاء اليساريين، من بعد فشل أو هزيمة حركة “احتلوا”، أشاروا إلى الحراك المباشر أو الديمقراطية المباشرة، كونها تأتي مصحوبة بحقيبتها البيروقراطية الخاصة بها والملازمة لها.

هناك خطر في أن يسقط أي شيء في منزلق البيروقراطية، هذا صحيح تماماً. أعتقد أن الأفضل أن يحدث هذا المنزلق في بعض الأماكن. لكن لمجرد أن الناس ينشئون بعقليات بعينها فهذا يعني أنهم سيعيدون إنتاج البيروقراطية.

في كتابك “الديون”، قد يجادل بعض علماء الاقتصاد بأن مثال مناطق “أسرى الحرب” يناقض حجتك، وكأنه مثار دهشة أن من يعيشون حياتهم كلها على النقود ثم فجأة تختفي سيبتكرون شيئاً غيرها بديلاً عنها. الأمر مشابه، فمن اعتادوا على الأشكال البيروقراطية في حياتهم سيتراجعون عنها بدافع غريزي.

هذا صحيح في حالة الأمريكان تحديداً. نشأنا على التفكير في أننا هذه التجربة الديمقراطية المذهلة، لكن المواطن الأمريكي العادي لا خبرة لديه بالمرة تقريباً في صناعة القرار الديمقراطي. لديه الكثير من الخبرات في البيروقراطية على ذلك. لذا فإن الناس يفعلون ما يجيدونه ويعرفونه، وعليك أن تحاول تبين سبل لحملهم على الامتناع عن أداء ما يجيدونه. فلنأخذ مثالاً: عندما نشارك في العمل المباشر تجد عندنا هذه القاعدة التي تقول: “لا يمكنك أن تساهم في الحركة بما تساهم به في وظيفتك/عملك”. من الواضح أن هذه مشكلة، لأنها تعني أنك ستضيع قدر كبير من الموهبة، لكن مع ذلك يفعل الناس ما يفعلونه في البيئة الهيراركية البيروقراطية.

.

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s