أود أن أبدأ بتاريخ “جوليا” الشخصي، وهي سيدة من السكان الأصليين من جنوب كولومبيا، تعيش حالياً في عشوائيات “بوجوتا” الضخمة. حياتها عبارة عن سلسلة من الأحداث المأساوية التي لا تتناول التأثيرات المباشرة والمُدمرة للحرب فقط، ولكنها تكشف أيضاً، وبمهارة كبيرة، عن أشكال بعينها من العُنف – أطلق عليها اسم الجراح التاريخية – والتي يكتنفها الغموض بالنسبة للرأي العام، وللحوارات الرسمية ذات الطابع القانوني والتقني. (كاستيليو 2013) وتعد هذه الملاحظات الأولية جزءً من مشروع إثنوغرافي أكبر؛ يسعى إلى فك الارتباط بين “العنف”، و”التزامن”، و”القانون” في “السيناريوهات الانتقالية” المختلفة، والكشف عن قدرة قوانين الوحدة الوطنية والمُصالحة على “تحديد” مفاهيم محدودة لـ “العنف”، وقدرتها على تصور مستقبل تخيلي جديد. لقد اتخذت من تاريخ “جولياً سبيلاً من أجل طرح المزيد من الأسئلة العامة حول عدم وضوح المُعاناة الجماعية.
وهذا مُقتطف من ملاحظاتي الميدانية:
جوليا سيدة متزوجة، ولديها طفلين: باولا في السادسة عشر من عمرها، وليون أكبر منها بقليل، وهو مُصاب بسرطان الدم. تم اغتصاب جوليا وابنتها منذ عدة سنوات (عندما كانت في السابعة والعشرين، وابنتها في الخامسة من العمر). ولقد نجم عن اغتصابها طفلة جديدة، اسمها كلارا، تبلغ من العمر اثني عشر عاماً الآن. وكما هو مُتوقع، تحمل جوليا مشاعر مُلتبسة تجاه ابنتها الصغيرة؛ التي تذكرها بما وقع لها من انتهاك بدني. وكانت جوليا قد حاولت في لحظة ما، وبدافع من اليأس، أن تقوم بعملية إجهاض. كان مولد كلارا بمثابة التقاء الحياة بالموت بالنسبة إلى جوليا. لم تكن الطفلة موضع ترحيب على أكثر من مستوى. وفضلاً عن هذه المأساة، يُعاني ابنها من مرض لا شفاء منه؛ أي أن الموت والحياة يلتقيان في جسده، وإن على نحو مختلف.
اضطرت جوليا إلى الهرب خوفاً من تهديد المُغتصب، بعد أن تقدمت بشكوى ضده، حيث قامت الشرطة بتحذير المُعتدي على نحو غير قانوني. لم تكن جوليا تعلم حينها أنها حامل، وهجرت زوجها ثم انتقلت إلى ضاحية فقيرة جنوبي مدينة بوجوتا. تعيش كأنها نازحة قسراً، في مأوى صغير وضيق، وتعمل لكي تطعم أطفالها بما تكسبه من بيع السجائر في الحافلات؛ مثل أغلب السكان الأصليين. وتصادف أن عثر عليها زوجها، واكتشف أنها أنجبت ابنتها كلارا، واعتقد أنها من صُلبه. وتعيش جوليا الآن في فقر مدقع، وتعاني من الجوع المزمن.
وفي حوار مع صديق مُقرب لي، لخص وضع جوليا قائلاً: “المشكلة في كولومبيا [بعيداً عن ادعاءات القيام بإصلاح قانون العدالة والسلام]، هي أن الدولة لا تمتلك وسيلة “لإصلاح” حياة تلك السيدة، وليس هناك من سبيل لإصلاح حياتها”.
وفي آخر مرة سألت فيها عن جوليا، علمت أن ابنها المريض أدمن المخدرات وانضم إلى إحدى العصابات”. قالت لي صديقتها: “يبدو أنها قررت العودة إلى الجنوب، إلا أنها لم تتمكن من القيام بذلك بسبب الخوف وانعدام الدخل”.
أود إيضاح نقطتين مختلفتين في المُقتطف السابق. الأولى هي اهتمامي بتاريخ جوليا الشخصي، وبرأي صديقتها في طبيعة حياتها. لقد مرت جوليا، في المقام الأول، بتجربة التعرض إلى الانتهاك الجنسي على يد رجال يحملون السلاح، حيث تحول جسدها حرفياً إلى أرض للمعركة. تحولت الذات الفردية إلى غنيمة حرب في سياق “نزاع مُسلح”. وهناك عدد كبير من الدراسات الأكاديمية التي أكدت هذا العنف ضد المرأة، وصعوبة إثباته. وفي هذا السياق، يجب أن يكون لدى الدول آليات تشريعية ومؤسسية للتعامل مع هذا النوع من الانتهاكات.
ورغم ذلك، وهذه هي النقطة الثانية التي أود إثارتها، لقد كان وضع جوليا نتيجة تاريخ ثقافي أوسع نطاقاً، وإطار زمني يتجاوز التصورات الراهنة والمُعالجات القانونية والتكنوقراطية في إطار سيناريوهات انتقالية غامضة. تاريخها هو تاريخ الإقصاء والمُعاناة، تاريخ الظلم الواقع على مجتمعات السكان الأصليين في كولومبيا. وجسدها هو مستودع الرق والعبودية.
وفي هذه الحالة، أصبح العنف نتيجة التداخل بين “عدم المساواة”، و”الاختلاف”.
وبعبارة أخرى، تمثل جوليا نوعاً من الضحايا، رغم كونه مباشراً وملموساً، إلا أنه لا يقع ضمن اهتمامات “فلسفة العلوم القانونية”، التي تدير نقاشات عالمية حول العدالة الانتقالية، والتي تهتم أكثر بالانتهاكات الحديثة. تجربتها تكشف عن أشكال جديدة من العنف، ومن ثم لا يمكن “إصلاحها”، لأن تلك الأشكال وقعت في الماضي البعيد (الماضي الاستعماري، أو ماضي العبودية على سبيل المثال)، أو لأن علاقتها محدودة بالوحدة الوطنية والمصالحة؛ التي تجبر المجتمع على “النظر إلى الأمام”، و”بدء صفحة جديدة”، و”دع الماضي خلفك”، وتدعوك إلى التسامح والمصالحة في ظل مجتمع “ما بعد العنف”، و”ما بعد الصراع”. تذكرنا حالة جوليا والحالات المشابهة، التي سحقها العوز الدائم والمُتعمد، تذكرنا بالماضي الذي لا يغيب، وبالقيود المفروضة على تناوله.
باختصار، تاريخها الشخصي هو تاريخ سيدة من السكان الأصليين الذين يعيشون في بؤس مزمن. لم تكن المأساة التي تعرضت لها جنسية فحسب (مع الوضع في الاعتبار الأثر المدمر التي تنطوي عليه) ولكنها مأساة تاريخية وبنيوية ومعيشية؛ سمحت (ومازالت تسمح) لهذا الانتهاك أن يحدث من الأساس، رغم أهمية الإصلاحات التشريعية التي جرت في كولومبيا منذ دستور عام1991 . وبهذا المعنى، تعتبر حالة جوليا بمثابة تجسيد لأنواع متعددة ومتداخلة من العنف الجغرافي والجسدي والموضوعي والوجودي، وتربط بين الماضي والحاضر. كما تحمل إشارة صديقي إلى عدم إمكانية “إصلاح” حالة جوليا، تحمل في طياتها عدداً من التجارب المؤلمة والجراح الضاغطة على اللحظة الراهنة التي تعيشها.
وبدقة أكثر، كيف يمكن إصلاح الجراح التاريخية؟ هل تتناول قوانين الوحدة الوطنية والمصالحة مثل هذه الموضوعات، وهي تعجز هذه القوانين عن التعامل معها؟
علاوة على ذلك، يمكن الحديث عن الأذى باعتباره ظاهرة تراكمية (تمتد لقرون)، وباعتباره نوعاً من الرق الوجودي تتراكم فيه طبقات من المعاناة الجماعية. وبعبارة أخرى، لقد كان العنف – ولا يزال – أحد مكونات التجربة الاجتماعية. كما أن فكرة “الانتقال” تعد بمثابة امتداد للماضي وليست قطيعة معه بالنسبة للمنظمات المُعبرة عن السكان الأصليين، ليس في كولومبيا فحسب، بل في كل البلدان التي مرت بتجربة الحرب (سواء في جواتيمالا، أو سلفادور، أو جنوب أفريقيا).
وكما أجادل في كل مكان، تعتمد فكرة العدالة الانتقالية (والشبكات القانونية المعقدة، والآليات المسؤولة عن “التعامل مع” أسباب ونتائج انتهاكات حقوق الإنسان) تعتمد على افتراضين أساسيين على الأقل. الأول هو اعتمادها على “الوعد” بدولة جديدة، والثاني هو إمكانية ترك العنف “خلفنا”، في الماضي الذي تجاوزناه. بعبارة أخرى، عندما تتحرك المجتمعات إلى الأمام، يراجع العنف وينزوي خلفنا (وتتمثل حركة المجتمع في تطبيق “إصلاحات دستورية”، و”مبادرات الذاكرة”، و”برامج التعويض”، و”مشروعات التنمية”، و”الإصلاحات الاقتصادية”، و”مبادرات الإصلاح الاجتماعي”).
وفي أغلب الحالات، فإن فكرة “الانتقال”، أو “الدول التي تمر بمرحلة انتقالية”، تحمل في طياتها حركة غائية من “الحكم الشمولي” (أو نزاع داخلي مسلح، وفوضى عارمة) نحو “ديموقراطية ليبرالية”؛ وهي بمثابة مكون من مكونات الرأسمالية العالمية في طورها الراهن. وفي الواقع، ينطبق “النموذج الانتقالي” على العديد من التجارب التاريخية الأخرى التي ليست “ما بعد شمولية” بالضرورة. فهناك إطار أوسع من الحركة الغائية؛ يتضمن الصفح والمصالحة على المستوى العالمي.
ولكن من السهل اعتبار “الفترات الانتقالية” امتداداً للماضي في الدول التي ترسخ فيها الظلم السياسي والاجتماعي. كيف يمكن التعامل مع استمرار الأوضاع القديمة، وإلى أي مدى تؤثر في رسم السياسات الحالية؟
وفي النهاية، كيف يمكن علاج الجوع المزمن والجراح التاريخية؟ كيف يمكن تحقيق سلام دائم إذا استمرت الأسباب التاريخية والبنيوية للصراع قائمة، في الأماكن التي تتجذر فيها الفوارق الاجتماعية العميقة؟ ورغم وعود التجديد، لا تزال هناك أشكال مختلفة من العنف؛ يتشابك فيها التفاوت والاختلاف لأمد طويل، وتكمن خلف الملامح النظرية والممارسة التقنية التي تحددها قوانين الوحدة الوطنية. هل يمكن أن تتسبب هذه الحقائق في اندلاع صراعات مُستقبلية؟ يبدو لي أن الأمر يقع جزئياً على عاتق علماء الأنثروبولوجيا لكي يكشفوا النقاب عن الميراث الاستعماري للآليات الانتقالية، أثناء بلورتهم لأطر قانونية عالمية. وربما يتطلب وقف تلك الاستمرارية الحاجة إلى تصفية النزعة الاستعمارية من نظريات وممارسات العدالة الانتقالية.