كل 12 ثانية: الذبح الصناعي وسياسة “الرؤية”

بقلم – سوزان جريلوك، نُشر في موقع Hemispheric Institute
ترجمة – عمرو خيري

عرض لكتاب “كل 12 ثانية: الذبح الصناعي وسياسة الرؤية”، صادر عن “مطبعة جامعة ييل”، 2011، 320 صفحة.

عندما كنت في الجامعة، عملت في محل بقالة. كنت أعمل في المكتب الإداري، لكن في عيد الشُكر، كان يُنتظر من الجميع أن يساعدوا في المحل. مديرتي التي كانت تعرف أنه عمل شاق (وأنني نباتية منذ طفولتي) كلفتني بمساعدة الجزارين. قبلت تحديها، ثم إنني تطوعت في هذه المهمة لثلاث سنوات. كان كاونتر اللحم هو الحدود القائمة بين أجواء عيد الشكر العتيدة وجهامة الذبح. يمثل الكاونتر اتفاقاً صامتاً على “الخفاء”، وقد أعطاني موقعي خلفه منظوراً لم أكن أتخيله. كان المتسوقون يقفون على جانب منه يعلنون طلباتهم، سواء لحم الضلوع أو الديك الرومي. ووراء الكاونتر كانت أحذيتنا ملطخة بالدماء وشعرنا تتناثر عليه نتف من مختلف أنواع الكائنات.

لقد أعادني كتاب تيموثي باشيرات الإثنوجرافي الذاتي “كل 12 ثانية” إلى كاونتر اللحم ذاك وإلى عالم مختلف تماماً، في قلب نظام مذابح اللحوم، حيث ينشأ ذلك “الخفاء”. يعرض باشيرات شهادته الذاتية على العمل بالمذبح، ومن ثم فهو يستكشف سوسيولوجيا القتل الصناعي. يكشف كتاب “كل 12 ثانية” كيف تمكّن نظم الإخفاء والمراقبة وجود نهج صناعي لقتل كائنات أخرى.

انتقل باشيرات مع أسرته إلى نبراسكا لكي يستكشف بصفته عامل/باحث ميداني يعمل في الخفاء، طبيعة ما يحدث داخل المذبح. يوثق كتابه خمسة شهور قضاها كعامل بالمذبح، شغل خلالها أدوار من عامل في قسم الذبح إلى مفتش جودة. وما اكتشفه، وما يكشفه تفصيلاً من واقع قالب الكتابة الإثنوجرافي الذاتي، هو عالم ماهر التدبير من التمويه والإخفاء. فمن خلال استخدام المساحة والإجراءات الصارمة والفصل بين المهام والتلاعب بالألفاظ والمسميات، يتمكن المصنع/المذبح من قتل كائن حي كل 12 ثانية دون أن يشعر أي شخص بمفرده بالمسؤولية أو بأنه يتحمل تبعات هذا العمل.

تُظهر رسوم باشيرات التوضيحية التفصيلية لتصميم المذبح كيف تم تقسيم مكان العمل الخاص بالقتل بمهارة بما يؤدي إلى عزل مختلف المهام والأفراد المشتغلين بها، بحيث لا يبدو أن لأي شخص أو لأي عمل صلة مباشرة بالقتل. المهام المكتبية منفصلة عن مهام العمل بالمذبح. العمل (“القذر”) بالقتل يتم في مكان منفصل عن منطقة أعمال التقطيع (“النظيفة”). بل إن العمال بالمهام القذرة يستخدمون دورات مياه منفصلة عن دورات مياه العمال بالمهام النظيفة، مع تقليص الاتصال بين المجالين لأقصى حد. ملحقات الكتاب تستعرض تفصيلاً الخطوات الـ 121 لمهام العمل بالمذبح ومنتجات كل خطوة. من الأمثلة الدالة على هذا الفصل الصارم العامل الذي يقوم بنزع الذيل. ربما يقوم بنزع ذيل بقرة لم تُقتل بعد، لكن موقعه يمنعه من رؤية وجه البقرة أو تعبير الألم المرتسم عليه بسبب ما يفعله. هذا الخفاء الذي تم التخطيط له، ما يصفه باشيرات بمسمى “سياسة الرؤية”، هو طريقة عمل المذبح.

في حين يكشف وصف باشيرات التفصيلي لتنظيم العمل بالمذبح عن الخفاء الكامن في كل تفاصيل التصميم، فإن وصفه لتجربته الشخصية هناك كعامل تكشف عن التبعات النفسية الوخيمة على العمال. إذ أن الأزمات الأخلاقية والإحساس بالإحباط والحيرة جراء غرابة تلك الأعمال المستحيلة تأكل من إنسانية العمال. إضفاء الطابع المنطقي على إساءة استخدام صاعق الماشية، والتوقع الدائم للتزوير في الأوراق، وتفادي تحمل المسؤولية بشكل دائم، هي أمثلة مؤلمة على ما رصده باشيرات، وعلى المحاولة الدائمة للفهم أثناء الوقوع أسيراً لمنطق المذبح المجنون.

تكمن “قيمة الصدمة” التي يقدمها كتاب باشيرات تحديداً في فكرة أن ليست هذه حكاية يرويها شخص هامشي على العملية، إنما هي حكاية “تطبيع” للعنف. كل 12 ثانية، على مدار اليوم، في مبنى عادي المظهر في نبراسكا، هناك كائن حي يُذبح، خطوة وراء خطوة، باستخدام نفس التنظيم الصناعي المستخدم في تعبئة الطماطم أو تجميع اللعب البلاستيكية. لكن على النقيض من الطماطم ولعب الأطفال، فإن الأبقار كائنات حية. الخفاء يمكِّن من اللامبالاة بهذه النقطة. ولعل المثال الأكثر إثارة للدهشة هو كيف تدخل البقرة في سياق مناقشات حقوق العمال. يناقش العمال عملهم على المحطات الإذاعية، فيستخدمون آلية دفاعية لغوية فيشيرون إلى البقرة بصفتها “بيف”. هذا النضال على وجود الحياة، على مسافة أمتار قليلة من منطقة القتل، يكاد لا يُحتمل، لكن باشيرات شهد على رد الفعل البشري المقلق للغاية، الذي يمكِّن من العمل على “البيف” ومن استمرار العمل في مساره.

هذا الوصف التفصيلي عن قرب على مثال على قدرة البشر المدهشة على “تطبيع” العنف، يضيف إلى الأدبيات المتوفرة عن العنف والتعذيب، إذ يُظهر إلى أي مدى يمكن للحضارة البشرية أن تضفي الطابع “التصنيعي” على القتل. سوف يعجب أخصائيو سيكولوجيا العمق والدراسات الحيوانية كثيراً بكيفية كشف باشيرات لهذا الجانب المظلم من علاقة أمريكا بالحيوانات، وهي علاقة عنف مُطبّع يتعايش وياللعجب في ثقافة تزدهر فيها فجأة صناعة أخرى هي صناعة اتخاذ الحيوانات الأليفة. الأمر لا ينطبق فحسب على علاقتنا بالحيوانات الأخرى، إنما أيضاً على مختلف أشكال العنف في مجتمعنا. ملاحظات باشيرات الدقيقة يمكن أن تقدم عدسة ننظر منها على وقائع التعذيب في الفترة الأخيرة، ومعاملتنا للبشر أثناء حبسهم في السجون، وانتشار قبول الطائرات بدون طيار ومعدات الحرب الحديثة.

إن باشيرات بكتابه يرسم حدوداً جديدة للتفكير في قضية الشفافية: هل الرؤية هي الإجابة البسيطة على الخفاء؟ ملاحظاته كمراقب جودة في المذبح تعطي إشارات على أن الإجابة على السؤال قد تكون “لا”. بصفته مراقب جودة، كان “يرى” كل الأعمال بالمذبح، ولكن، لاحظ كيف أن قواعد ونُظم العمل الخاص بمراقبة الجودة شكلت درعاً يسمح بإخفاء “الرؤية” عن الشخص الذي يجب من منطلق طبيعة عمله أن يكون الشاهد على كل ما يجري. إذا لم يكن هناك كاونتر للحم، وإذا رأى المتسوقون الديك الرومي الذي يشترونه في عيد الشكر وهو يُذبح أمام أعينهم؛ فهل سيشعرون بالصدمة؟ يقبل باشيرات ها هنا بإجابة مايكل بولان ومفادها أن نعم سيصدمون، “فمن سيتحمل المشهد؟” (باشيرات، 2011 – 246). أو ربما سنلجأ إلى اصطناع شكل جديد من أشكال الخفاء/الإخفاء لنخفي المشهد عن أعيننا؟ هذا الكتاب يثير هذا النوع من الأسئلة. إن “كل 12 ثانية” لا يحكي فحسب حكايات العمل بالقتل في مذبح، إنما يقدم أيضاً رؤى في غاية الأهمية حول سيكولوجيا العنف عند البشر.

سوزان جريلوك هي طالبة دكتوراة في معهد باسيفيكا للتعليم العالي، حيث تتخصص في مجال “سيكولوجيا العمق – depth psychology” بالتركيز على المجتمع والحرية وسيكولوجيا البيئة. تأمل في إثراء سيكولوجيا العمق من خلال زيادة فهم السيكولوجيا غير البشرية، وأن يؤدي هذا بدوره إلى رؤى جديدة حول قضايا البيئة والثقافة.

فكرة واحدة على ”كل 12 ثانية: الذبح الصناعي وسياسة “الرؤية”

.

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s