نُشر هذا المقال في دورية “الشعر” عدد الخريف 2014.
تنويه من المؤلف: كُتب هذا المقال أصلا بالإنجليزية كفصل مستقل في كتاب “الإسلام والثقافة الجماهيرية” أعده كل من: كارن فان نيوكيرك، مارك لي فاين ومارتن ستوكس وسينشر،دار جامعة تكساس Karin van Nieuwkerk, Mark LeVine, Martin Stokes (eds.): Islam and Popular Culture: Austin: University of Texas Press. والشكر واجب إلى معدي الكتاب وكذلك إلى عمرو خيري ومختار سعد شحاتة لتعليقاتهم النقدية التي ساعدتني في إتمام المقال.
تنويه من المترجم: أتقدم بكل الشكر للكاتب مختار سعد شحاتة على ما قدّم من إضاءات مهمة ساعدت في الترجمة. قدّم المؤلف [صامولي شيلكه] النص العربي للجزء الخاص بالمناقشات مع الشعراء، ولم يُتَرجم ذلك الجزء من الإنجليزية كباقي المقال.
بقلم – صامولي شيلكه
ترجمة – عمرو خيري
تدقيق لغوي – مختار سعد شحاتة
يا له من سؤال ساذج..
بالطبع لا يمكن للشعر أن يغير العالم. الشعر هو المجاز والرمز، الإيقاع وموسيقى اللغة.. لعبة العقل.. المزاج.. المعاني. كيف يمكن أن يحدث أي فارق في عالم يسود فيه الأقوى، والبنادق والطائرات بدون طيار هي الأعلى صوتًا، وغسيل الأدمغة بالإعلام الجماهيري والابتزاز من الشرطة السرية وأمن الدولة هما قالبا الكلام المسموع والمكتوب الأبرز؟
في عام ١٩٧٥ قام الشاعر المصري أمل نقل (١٩٤٠-١٩٨٣) – المشهور بمواقفه الأدبية والسياسية الحادة وأسلوب حياته الصعلوكي وشخصيته المعبرة عن “ثنائية حادة كل من طفريها تدمر الآخر” (على حد قول عبلة الرويني ١٩٩٢، ص ٩). ترك فيها دنقلُ أبا نواس يتحدث عن التناقض بين قوة الكلمة وقوة المال والعنف. في جزء من هذه القصيدة الطويلة نرى دنقل، الشهير بتوظيفه للتاريخ والأساطير العربية والإسلامية والرومانية والهيلينية، يربط القارئ بأقوى قصة شهادة في الإسلام: مذبحة الحسين وأتباعه، في فخ نصبه له يزيد بن معاوية:
كنتُ في الكربلاءْ
قال لي الشيخُ : إن الحسينْ
ماتَ من أجل جرعة ماءْ
… …. ….
وتساءلتُ كيف السيوفُ استباحت بني الأكرمينْ
فأجابت الذي بصَّرتهُ السماءْ
إنه الذهب المتلألئُ في كلِّ عين
… …. ….
إن تكن كلماتُ الحسينْ
وسيوفُ الحسينْ
وجلالُ الحسينْ
سَقَطَتْ دون أن تُنقذ الحق من ذهب الأمراء
أفتقدر أن تنقذ الحق ثرثرةُ الشعراء؟
والفراتُ لسانٌ من الدم لا يجدُ الشفتين!
ولكن رغم اعترافه بأن الشعراء و”ثرثرتهم” لن تغير واقعهم، إلا أن أمل دنقل لم يرتدع عن كتابة الشعر المدافع بقوة عن أفكار النضال القومي والثوري. ترك ورائه أعمالاً قوية ومبتكرة تمجد النضال لأقصى مداه بلا حلول وسط، وقد اقترنت بمسحة من التشاؤم العميق. في عام ١٩٦٢ في سنواته الأولى كمبدع تناولت قصيدة “كلمات سبارتكوس الأخيرة” مأساة النضال الثوري بطريقة لم تفقد وجاهتها حتى يومنا هذا. افتتاحيتها من قصة توراتية/قرآنية لطرد الشيطان من الجنة، مع تحويله إلى رمز للبطولة المأساوية:
المجد للشيطان .. معبود الرياحْ
من قال “لا” في وجهِ من قالوا “نَعَمْ”
من عَلَّم الإنسانَ تمزيق العدمْ
من قال “لا” .. فلم يَمُتْ،
وظل رُوحاً أبدية الألَمْ! [ii]
وفي عام ١٩٧٦، قبل زيارة السادات الشهيرة للقدس وتوقيع اتفاقية كامب ديفيد بفترة، تناول أمل دنقل مقتل الزعيم القَبَلي العربي (في الجاهلية) كُليب، من عام ٤٩٤ ميلادية، ويستحضر فيها الواقعة التي أشعلت فتيل حرب البسوس التي دامت ٤٠ عاماً، جعل منها الشاعر تكئة لقصيدته “لا تصالح”، ولعلها أقوى قصيدة ضد جهود السلام كُتبت إلى الآن. وهذا مفتتحها:
لا تُصالحْ
..ولو منحوك الذهبْ
ترى حين أفقَأ عينيكَ،
ثم أثبت جوهرتين مكانها..
هل ترى..؟
هي أشياء لا تشترى..[iii]
لفترة طويلة، كان يعرف أعمال دنقل ويقدرها قلة من اليساريين والمثقفين. كانت قصائده طليعية ومن الصعب حفظها وإلقائها مقارنة بنفس سهولة استهلاك أشكال الشعر المقبولة أكثر على المستوى الشعبي. هي معارضة بقوة في محتواها، وهي أيضًا شوكة في حلق السلطة المصرية. لم تكن قصائده محظورة، لكن نادرًا ما يُكتب عنها أو تُذكر في الإعلام الحكومي إلا على نطاق ضيق مثلما كان أثناء الانتفاضة الفلسطينية الثانية. تغير المشهد فجأة مع اندلاع ثورة ٢٥ يناير التي ارتبطت بإحياء الشعر اليساري السياسي من الستينيات والسبعينيات. قصائد وأغاني أحمد فؤاد نجم (١٩٢٩ – ٢٠١٣) العامية اللاذعة اكتسبت شعبية هائلة، ولكن دخلت أيضًا أجزاء من قصائد أمل دنقل في متن المقتبسات الثورية. لكن في حين أن شعر أحمد فؤاد نجم المرتبط لزامًا بالعامية كان أكثر ملائمة للأغاني والشعارات، فقد كان شعرأمل دنقل هو الأنسب لأن يجد طريقه إلى الجرافيتي ودوائر النقاش والاقتباس على وسائط التواصل الاجتماعي (بالنسبة للجرافيتي، انظر الصور ١ إلى ٣).
في خريف 2010 قام فنان جرافيتي برشّ مقطع من “كلمات سبارتكوس الأخيرة” على كورنيش الإسكندرية احتجاجًا على محاولة مبارك توريث الحكم لابنه جمال:
لا تحلُموا بعالم سعيد
فخلف كل قيصر يموتُ: قيصر جديد![iv]
مع انتشار المقاطع المقتبسة من شعر دنقل، اكتسبت أيضًا استقلاليتها عن سياقها السياسي الأصلي. في عامي ٢٠١١ و٢٠١٢ اكتسب مقطع “لا تصالح” – المكتوب أصلاً قبل اتفاقية السلام مع إسرائيل – شعبية كبيرة في التعبير عن النضال في فترة الحكم العسكري الأولى، الممثلة في المجلس الأعلى للقوات المسلحة (انظر الصورة رقم ٢ و٣)، وقد تم رش هذا المقطع على جدران كثيرة اعتراضاً على الوضع القائم ورفضاً للحلول الوسط. أصبحت “إحنا اللي قلنا لأ” عنواناً لمجموعة على موقع للتواصل الاجتماعي[v] التي أنشئت إشارة إلى الاستفتاء على الإعلان الدستوري في مارس ٢٠١١. أحيانًا تم اقتباس افتتاحية “كلمات سبارتكوس الأخيرة” (دون ذكر الشيطان أحيانًا) من قبل الداعين إلى التصويت بـ”لا” على الاستفتاء الدستوري في ديسمبر ٢٠١١ .وفي نوفمبر ٢٠١٢ قابلت مجموعة من الشباب المهتم بالأدب، وكانوا يشربون الشاي في إحدى مساحات ميدان التحرير الخضراء ذات مساء في أعقاب حرب شوارع محمد محمود. كان معهم كتاب، هو الأعمال الكاملة لأمل دنقل (دنقل ٢٠٠٥) يقرأون منه ويتناقشون. وكأن بعض تلك القصائد كُتبت لهذه اللحظة تحديدًا.
بالطبع لا يمكن للشعر تغيير العالم، لكن الشعبية المفاجئة لأعمال أمل دنقل في عام ٢٠١١، وكيف ظهرت وكأنها صالحة لكل زمن، تُظهر أن السؤال عن الشعر والتغيير يستحق الطرح، ويستحق الطرح أكثر بما أن الكثير من الشعراء والكتاب المصريين يطرحون السؤال نفسه. وعندهم إجابات مهمة للغاية أيضًا.
ما يتناوله هذا المقال وما لا يتناوله
يبحث هذا المقال في العلاقة بين الشعر والتغيير الاجتماعي والسياسي في مصر أثناء موسم عاصف[vi]؛ موسم الثورة الأحدث في مصر. ليست هذه محاولة لتقديم إطلالة عامة على الحجم الهائل من الشعر والأدب المهم المرتبط بالثورة، ولا هي سرد للدور المهم والمبهم للمثقفين والكُتاب في السياسة والمجتمع المصري. يمكن متابعة هذه التيمات بشكل جيد في عدد كبير من الأبحاث باللغتين العربية والإنجليزية (بالنسبة للأبحاث بالإنجليزية راجع على سبيل المثال، لويس ساندرز الرابع ومارك فيسونا (٢٠١٢) أو ريشار جاكمون (٢٠٠٨) و إليزابيث كيندال (٢٠٠٦) ومنى خوري في هذا المقال أتناول مجموعة مختلفة من الأسئلة: ما القوة الكامنة في كلمات القصائد فيما يخص الخلافات والتحولات الاجتماعية والسياسية؟ هل هي حقًا فعالة في غرس رؤى ومواقف في أذهان الناس؟ أم تراها موسيقى التاريخ التصويرية لا أكثر؟ وهل يُعقل على كل حال أن نفكر في الشعر كشيء منفصل عن العالم؟
لا ترتبط هذه الأسئلة بتجربة مصر والدول العربية الثورية فحسب، فنفس الأسئلة ظهرت في مناسبات أخرى، على سبيل المثال في أوروبا وأمريكا اللاتينية، وربما في كل منطقة في العالم أيضًا. وسوف تظهر مرة تلو المرة، لأن في لحظات بعينها في التاريخ، يصبح التواشج بين الخيال الإبداعي والنضال السياسي قويًا وملموسًا. بالتالي تعد تجربة الشعراء المصريين مهمة وتتجاوز حدود مصر والزمن الذي كُتبت فيه.
تم طرح هذه الأسئلة أثناء نقاش للكُتَّاب والمهتمين بالأدب، الذين تجمعوا في مقهى شرقي الإسكندرية، وكان أمل دنقل تحديدًا هو الذي ذُكرت أعماله كثيرًا أثناء النقاش. في هذا المقال، لا أحاول تقديم إطلالة على مختلف الاقترابات والمناهج النظرية الأكاديمية الدولية بشأن هذه الأسئلة، إنما أحاول استخدام النظريات التي قدمها المشاركون في النقاش: هم مجموعة من الشعراء “الأحياء” من مصر في خضم ثورة. لهم رؤية محددة مفادها أنه – جزئيًا – من واقع دورهم ككُتّاب وقراء للشعر فلهم تاريخ من التجربة والتأمل في علاقة الأدب بالحياة. كما تمثل رؤيتهم رؤية قطاع أعرض من المجتمع لعب دورًا أساسيًا في العملية الثورية: طبقة اجتماعية هائلة من سكان الحضر المستبعدون من وسائل وسبل راحة الطبقات البرجوازية (التي توصف بشكل مضلل كثيرًا بمسمى “الطبقة المتوسطة”) ولكن من واقع تعليمهم وعملهم كموظفين أو مهن أخرى، فقد تمكنوا من العيش والعمل والطموح فوق خط الفقر.
ثمة أمر آخر لن أفعله، هو التمييز بين الشعراء من التيار الديني والتيارات غير الدينية مثلما يفعل بعض الباحثين الغربيين. رغم أن هناك فارق بين التيار الديني والمدني، والسياسة الدينية والعلمانية، والتي تجسد بجلاء أحد الخلافات الاجتماعية المهمة في مصر، فمن الظلم للشعراء الذين يحكي عنهم هذا المقال أن أميز بين الفئتين (وإن كان عدلاً لآخرين).
السبب الأول هو أن عقيدة الإسلام ولغته ورمزيته حاضرة في الشعر العربي بغض النظر عن مواقف الشعراء الشخصية من الدين أو شكل تدينهم. لا يمكن للمرء أن يفكر في جمال وبلاغة اللغة العربية دون الإحالة إلى القرآن الكريم. وبغض النظر عن مواقف المرء الدينية، فإن موضوع الشهادة والهزيمة البطولية يجذبه إلى حكاية شهادة الحسين. قصيدة أمل دنقل المقتبسة في مستهل هذا الفصل، وفيها يتأمل أبو نواس كيف استباحت السيوف الحسين، هي مثال نموذجي. ومؤخرًا فإن شاعر العامية مصطفى إبراهيم مثلاً أشار إلى مأساة كربلاء وهو يتناول أحداث محمد محمود التي زلزلت مصر في نوفمبر ٢٠١١، في قصيدة مكتوبة في شكل سيناريو لفيلم (مصطفى إبراهيم ٢٠١٣)، ورد فيها:
إني رأيتُ اليوم .. الصورة من بَرَّه
وقلت الحسين لِسَّة.. هيموت كمان مرَّة
إني رأيتُ اليوم.. فيما يرى الثائر
إنّ الحسين مَلموم.. فوق جُثته عساكر
بيدغدغوه بالشوم.. كُل أمّا يقوم
وإن البشر واقفة.. تبكي بِدَل ما تحوش
وإن العلم وصفاة.. م السونكي والخرطوش
وإن الطريق مَفروش.. بالدَّم للآخر
إني رأيتُ اليوم.. الدَّم ع الآيش
وان الحسين إحنا..
مهما اتقتل.. عايش
قد يبدو السبب الثاني متناقضًا مع الأول، لكنه في واقع الأمر يخرج من كنفه: هناك فصل بين الدين والشعر حدث بالفعل في سنوات الإسلام الأولى، إذ يذكر القرآن بعبارة واضحة أنه ليس شعرًا. الرسالة السماوية والشعر ينتميان –كلاهما- إلى صنف مختلف تمام الاختلاف من صنوف الكلام، حتى إذا تداخلا في القالب والقواعد اللغوية. رغم أن الإسلام يُلهم الشعراء وشعرهم، ورغم أنهم معرضون بشدة لمختلف صنوف الشعر الديني، فهناك أيضًا تراث عربي قديم بشأن تعريف ما هو شعر – لعله قديم قِدم الشعر العربي نفسه. إن لغة الوحي هي لغة الحقيقة المطلقة التي لا تنطق عن الهوى، في حين تتسم لغة الشعر بقدر من النسبية، والنزوع للحرية الاستكشافية، أو ما يمكن أن نسمّيه الحرية في الشعر. ويجدر بالذكر أيضًا أن الشعر العربي يكتبه شعراء مسيحيون أيضًا، وبعضه ملتزم دينيًا، ويتناول مواضيع دينية تحديدًا، وبعضه ليس كذلك. بعبارة أخرى: الشعر لا ينتمي إلى ملة واحدة، أو الشعر لا دين له.
السبب الثالث هو أن في مصر اليوم، هناك انقسام ملموس بين نهجين للإنتاج الأدبي: أحدهما ملتزم بالأدب كصنف إبداعي (بمعنى غرس القيم الحميدة وكذلك الاهتمام بالأدب بشكل عام) وبموجبه لابد أن يقترن الأدب الجيد بالهدف الجيد، والوحدة “التعليمية” للمتعة الجمالية والتعليم الأخلاقي (جاكمون، ٢٠٠٨، ص ١٠). والاتجاه الآخر ينزع إلى تراث موازٍ للشعر، رؤية التخييل الشعري والأدبي كمنبر للاستكشاف والتجريب (انظر على سبيل المثال أشعار أبي نواس). المهم، أن هذا الانقسام لا يسير على خطوط سياسية أو دينية؛ فالقصائد التعليمية أو الدعائية المباشرة يكتبها اليساريون والإسلاميون والموالون للنظام القديم على السواء، من مسلمين ومسيحيين، من كُتاب ملتزمين دينيًا وغير ملتزمين. وهناك شعراء من كل تلك الفئات يكتبون ما هو تجريبي وجريء، بل وحتى قابل لاعتباره مما يدخل في نطاق الهرطقة. عادة ما يكتب الشاعر بعض الأعمال برسالة تعليمية واضحة، وترى له أعمالاً أخرى أكثر التباسًا وانفتاحًا على التأويل، بناء على من يكتب لهم.
وفي نطاق الدوائر التي أجريت فيها بحثي، وجدتُ ثوريين من اليسار، ومتعاطفين مع الإخوان، وسلفيين، يشددون –جميعًا- على ضرورة أن يخلو الشعر الجيد من قيود التعليم والوعظ والمباشرة. ذات مرة في خريف ٢٠١٢ دُعيت إلى تجمع للشعراء في منطقة فيكتوريا، شرقي الإسكندرية، حيث بدأ حديث ودي عن الشعر، ثم تحول الحديث إلى نقاش سياسي عنيف. كان بعض الشعراء الحاضرين ذوي نزوع إسلامي، من السلفيين والإخوان، وبعضهم يرون أنفسهم يساريين أو ليبراليين. شهدت تلك الفترة استقطابًا متزايدًا بين داعمي الإسلام السياسي ومعارضيه، وسرعان ما تحول النقاش إلى تبادل غاضب للاتهامات، دون إمكانية للوصول إلى اتفاق. وفي النهاية، رد أحد الشعراء (له لحية سلفية) بالرد على اتهامات بأن الإسلاميين يعتبرون خصومهم كفارًا إذ أشار إلى نفسه، كونه كتب قصيدة تعتبر حسب مبادئ السلفية كُفرًا، يتناول فيها آلهة الأولمب ويتحدث عن كفاح النفس والازدواجية والتناقض. طلب منه آخرون أن يلقي القصيدة، ومع هدوء الأعصاب إلى حد ما، بدأ هو وآخرون في إلقاء قصائدهم. وكما بدأ التوتر السياسي فجأة، فقد اختفى فجأة، وراح الناس في الجمع يلقون القصائد ويستمعون ويستمتعون بما يسمعون ويشيدون بأعمال بعضهم البعض. بغض النظر عن الاختلافات السياسية غير القابلة للتسوية، فإن الشعراء استمتعوا بجماليات القصيدة، والمنحى الوجودي والذاتي لقصائدهم، وهو إنجاز في حد ذاته في فترة يعاني المصريون فيها من صعوبة بالغة في الوصول إلى أية لغة مشتركة. الشعر ذات الرسالة التعليمية الواعظة المباشرة غير قادر على إنجاز هذا الأمر.
لكن بغض النظر عن آرائهم إزاء الالتزام بالشعر والحرية في الشعر، فإن الشعراء (باستثناء من يكتبون لأنفسهم فقط) يأملون جميعًا في أن تُسمع أعمالهم وأن تتمكن من التأثير في المتلقي. من ثم، في حين قد تكون عندهم تحفظات إزاء الوعظ والتعليم المباشر، ففي سياق الحالة الثورية القائمة التي وجدوا أنفسهم فيها منذ ربيع ٢٠١١، فهم ملزمون بالتفكير في العلاقة بين الشعر والخلافات والتحولات من جميع الصنوف والأشكال، سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو روحية أو حميمة. لكن قبل أن أخوض في تفاصيل أكثر عن هذه الفكرة، أفضل التوقف للحديث قليلاً عن مكانة وأهمية الشعر في الوطن العربي المعاصر.
رؤية موجزة للغاية للشعر العربي ومصر اليوم
الشعر هو الصنف الأدبي الأكثر شعبية في البلاد الناطقة بالعربية. من لم يقرأوا رواية واحدة في حياتهم، كثيرًا ما يحفظون بعضًا من الشعر، وربما كتبوا بعضه. في حين أن سوق الكتب ومقروئية الأدب والشعر محدودة للغاية، فإن الشعر العربي يتمتع بقدر أعرض من الرواج، لأنه على النقيض من أوروبا وأمريكا الشمالية، ما زال عميق الصلة بالكلمة المنطوقة – ومن ثم فكثيرًا ما يخرج إلى نطاق الإعلام المرئي والمسموع . ينعكس هذا أيضًا في كيفية استمرار أغلب الشعر العربي الحالي في الاعتماد على القافية والوزن. والأساليب الأكثر نزوعًا للتجريبية من الشعر الحر لها وجود وتُنتج وتُستهلك في الدوائر الأدبية الأضيق، لكن الشعر الذي يدخل في نطاق الفن الذي يتمتع بالشعبية فهو ما زال ملتزمًا بالقافية والوزن والطبيعة الموسيقية من حيث اللغة. والواضح أن للشعر صلة قوية بالموسيقى. في شعر الجاهلية، كان الشعر والأغنية لا انفصال بينهما (أدونيس ١٩٨٦). وفي الوقت الحالي، لا توجد حدود واضحة بين الشعر والأغنية. لكن هناك بالطبع فارق مادي بين الكلمة المكتوبة والمنطوقة، وبعض الشعر أفضل للغناء، في حين أن بعضه الآخر أفضل في القراءة والجرافيتي.
للشعر في اللغة العربية تاريخ طويل وعظيم معروف أيضًا عند علماء الأدب الغربيين (بالنسبة للأبحاث الغبرية انظر على سبيل المثال: كينيدي ٢٠٠٧، جيوشي ١٩٩٧، بدوي ١٩٧٥، خوري ١٩٧١). فكان أقدم الشعر العربي المعروف متداولاً قبل الإسلام بكثير، وتم جمعه في قالب كتابي في القرون الأولى للإسلام. ما زال “شعر الجاهلية” يُنظر إليه بصفته المعيار الأعلى للتعبير الشعري العربي حتى الآن، ولابد أن يبدأ التعليم الأدبي العربي بقصائد الأولين تلك، ثم القوافي والأوزان، ونظريات الخطابة والشعر، وأعمال الشعراء الكلاسيكيين عبر القرون، ثم أخيرًا، قد يدخل في المنهج بعض الشعر المعاصر. لكن الشعر المكتوب أو المنطوق في مكان مثل مصر حالياً يختلف من عدة أوجه عن الموروث الشعري. القصائد المعاصرة هي في الأغلب قصيرة، ونادرًا ما تلجأ إلى قالب الشعر العمودي الكلاسيكي. تتميز بوحدة معنى تضم القصيدة بالكامل، على النقيض من الشعر العربي الكلاسيكي حيث وحدة المعنى للبيت وليس للقصيدة. كما أنها كثيراً ما تكون مفتوحة على تأويلات كثيرة، وتستمد إلهامها من النظرية الرومانطيقية يعبر فيها الشاعر عن ذاته، على النقيض من الشعر العربي القديم، حيث الإبداع في التعبير هي النقطة المهمة، وليس أصالة المعنى. وهناك جزء يزيد عرضًا من الشعر المعاصر يُكتب ويُقرأ بالعامية المصرية، ويختلف عن شعر الفصحى في المظهر والتراكيب، وفي المجاز. نتيجة لهذا، بدأ يظهر تقسيم يفصل الشعر العربي الكلاسيكي -الأكثر جدية والمحافظ عمدًا أو الطليعي بشكل واعٍ- عن الشعر المصري العربي كحامل لرسالة شعرية أكثر شعبية وظرفًا وبساطة. هناك استثناءات مهمة في هذا التقسيم، على سبيل المثال قصيدة النثر بالعامية، التي أطلقتها مجموعة من الكُتاب الشباب في التسعينيات، والمرتبط بالجماليات الأدبية الطليعية.
وسواء كان بالفصحى أو العامية، فإن للشعر وجود قوي في الحياة، ويقتبس الكثيرون منه للتعبير عن مشاعرهم، وللمحاججة لإثبات نقطة بعينها، أو لمحاولة فهم موقف ما. وكما هو ظاهر في السنوات القليلة الماضية، أصبح الشعر مرتبطاً بلغة الخلاف السياسي والمعارضة.
في شتاء 2010 و2011 وأثناء الربيع والصيف التاليين، هزت مجموعة من الانتفاضات الثورية الوطن العربي. كانت بداية موسم عاصف من المواجهات السياسية والتحولات العشوائية في الأمزجة والتحالفات، واضطرابات اجتماعية عامة، وكانت الأيام الحماسية الأولى –تحديدًا- لحظة شعرية من وجهين. أولاً، تحول الشعر إلى شعارات ثورية مهمة لحشد الانتفاضات وللتعبير عن المطالب. ثانياً، الحالة الشعرية للحظة الانتفاضة في حد ذاتها:
“الثورة في حد ذاتها لحظة شعرية من حيث أنها تتناول الأمور العادية، الظاهرة والواضحة، كالكلام والنثر، وتتلاعب بها، وتتساءل عن ماهيتها، ولا تقبل بالمسلمات، فتجمعها في منظومات جديدة. […] إذا كان الخيال في الأيام العادية يسبق العمل على الأرض بفتح مساحة للتفكير في البدائل، ففي وقت الثورة، يسبق الفعل الخيال ويشكله. كانت تلك هي اللحظة الثورية الأولى: مولد الإحساس بشيء لم يكن حتى تاريخ لحظة الثورة في نطاق ما يمكن تخيل أنه قابل للتحقق”. (شيلكه ٢٠١٤)
وتبين على امتداد السنوات التالية أن الأمر أكثر تعقيدًا وإحباطًا وعنفًا بكثير. وأنا أكتب هذا المقال في يناير ٢٠١٤، تبين الإخفاق الكارثي لجميع الثورات تقريبًا (ربما باستثناء تونس التي لم يتحول فيها حتى الآن الخلاف السياسي في مرحلة ما بعد الثورة إلى إراقة الدماء). حالة تلك الأيام الخيالية، تبدو الآن أنها في نطاق الخيال والفانتازيا بالفعل. أو – وهذه فكرة أكثر إزعاجًا – ربما أسهم الطابع الفانتازي لتلك الأيام في الفوضى الدموية التي تلتها. سأعود إلى هذه الفكرة في نهاية المقال.
في معرض الكتابة عن الشعر الذي سُمع وأُنتج أثناء الأيام الأولى للثورة المصرية، وصف مترجمان الأدبيان لويس ساندرز الرابع ومارك فيسونا (٢٠١٢) الشعر بأنه “روح التحرير” وأعلنا أن له القدرة على تشكيل وتسمية ما كان يتجسد في تلك اللحظة. كما أشارا إلى مفهوم وجسد “الشعب” كونه كان في القلب من تلك القصائد التي تعكس رؤية للانتفاضة وتوجهها، على مسار التحرر الوطني والوحدة الوطنية. مرَّ هذا الأمر في البداية دون أن يلاحظه الأكاديميون والمراقبون في الإعلام الغربي، الذين أولوا اهتمامًا زائدًا للإسلاميين في لحظة بدوا فيها أنهم الفائزون بالانتفاضة. لكن السياسة الدينية لم تنجح في إيجاد الوحدة بين المصريين من مختلف الاتجاهات، بل بالعكس تبين أنها قاسمة للغاية لدرجة أنها وفرت فرصة لثورة مضادة في ٢٠١٣ تشكلت بوضوح وجلاء في صورة “الشعب” ضد “الإرهابيين”. روح الوطنية وحب الوطن التي تشكلت في التحرير في عام ٢٠١١، أصبحت في ٢٠١٣، هي الأساس للإيمان بإنشاء نظام عسكري جديد دخل في مواجهة عنيفة للغاية للقضاء على الإخوان المسلمين وحلفائهم.
ولقد انحازت الكثير من الدوائر الأدبية البارزة في العاصمة لهذا التحول القومي، ودعموا في مناسبات عدة القيادة العسكرية الجديدة والقمع الغاشم لمعارضيه تحت لواء “الحرب ضد الإرهاب”. هناك روائيون مثل علاء الأسواني وصنع الله إبراهيم، وشعراء مثل عبد الرحمن الأبنودي وأحمد فؤاد نجم، دافعوا في ٢٠١١ بضراوة عن الثورة، ثم تحدثوا بعد صيف ٢٠١٣ عما اعتبروه تطهيرًا ثوريًا لمصر من العناصر الإرهابية غير الوطنية (عظيمي ٢٠١٤، الأبنودي ٢٠١٤، ليندسي ٢٠١٣، سي إن إن عربي ٢٠١٣، نجم ٢٠١٣). وعلى الجانب الآخر من الخلاف، فقد أنتج شعراء أقل شهرة متعاطفين مع الإخوان المسلمين نصوصًا تخدم قضيتهم، وأحيانًا تعبر عن إحباطهم من تحول الكثير من الناس لما يسمونه “عبيد البيادة” (انظر على سبيل المثال موسى ٢٠١٣). لكن هناك آخرين اتخذوا موقفًا مختلفًا، إذ لا يدعمون الحكم العسكري أو الإخوان المسلمين، فهم يشعرون بالإحباط والتهميش في وجه هذه الدائرة المدمرة للغاية من المواجهات والعنف (انظر على سبيل المثال شحاته ٢٠١٣). وكان الكاتب الساخر البارز بلال فضل من بين أصوات هذا المعسكر الثالث.[vii]
لذا، عندما نسأل هل يمكن للشعر تغيير العالم، فهو سؤال موجه إلى تغير ملتبس ومتباين. لا مفر من اليقين المتعجرف الذي أعلنه سارتر (١٩٤٩، ص ص ٦٣ – ٦٤) الذي زعم في دعوته لـ”الأدب الملتزم” (littérature engagée) أن الأدب الجيد والقضية الجيدة لا انفصال بينهما. لابد من طرح السؤال بشكل مختلف: ما العلاقة بين الشعر والعالم الذي نحياه؟
نقاش مع الشعراء حيث تبدأ الإجابة في اتخاذ هيئتها
منذ عام 2010 وأنا أقوم ببحث انثروبولوجي مع الروائي مختار سعد شحاته[viii] بشأن من يكتبون الشعر والقصة القصيرة والرواية في مختلف المجموعات الأدبية والاجتماعية في الإسكندرية. في خريف ٢٠١١ بدأنا في الاجتماع بدائرة من الأصدقاء من مناطق عشوائية في شرق الإسكندرية، وهم -جميعًا- مدرسون، رجال، في أواخر الثلاثينيات والأربعينيات. في تلك الأيام، كانوا يتجمعون في حديقة صغيرة لمقهى على مشارف الحي لمناقشة السياسة والشعر والحياة. أغلبهم كُتاب ممارسون، وبعضهم معروفون في الدوائر الأدبية بالمدينة. الأدب بالنسبة لهم ليس مهنة، إنما هو شغف يطاردونه في حياة تكاد تكون موازية، تجاوز حياتهم العادية كمدرسين وأرباب أسر.
تمَّ أحد اجتماعاتنا مع هذه المجموعة في أكتوبر ٢٠١١ في حضور الشعراء كمال علي مهدي ومحمد محمود موسى وأشرف دسوقي علي وحمدي موسى، وكذلك نزيه، الذي وصف نفسه بأنه قارئ ومتذوق لكن لا يكتب، ومختار، وأنا.[ix] وقتها كان مصير الثورة المصرية ما زال بعيدًا كل البُعد عن الوضوح، وقت أن كان التفاؤل المستمر ممتزجًا بإحباط وتشاؤم متزايد، وكانت الكثير من الانقسامات السياسية التي ستدفع الناس بعد ذلك للوقوف ضد بعضهم البعض لم تتخذ هيئتها الكاملة بعد. كان جميع أفراد المجموعة من المناصرين المخلصين للثورة، لكن في السنوات التالية اتّخذوا مواقف مختلفة من القضايا السياسية.
كان موضوع المناقشة الأساسية هو بحث الشعراء عن الشهرة والخلود، لكن تحول الموضوع لمسار آخر لدى ذكر تأثير شاعرين على الثورة المصرية، الأول هو أمل دنقل، والآخر هو أبو القاسم الشابي (١٩٠٩ – ١٩٣٤)، وكانت قصيدته “إرادة الحياة” المكتوبة أصلاً ضد الاستعمار الفرنسي، قد أصبحت من تمائم الثورة في تونس ومصر.
في اجتماع سابق في الأسبوع نفسه، كان الشاعر كمال علي مهدي قد ذكر أن أمل دنقل قد “هزّ” المجتمع بشعره ونصوصه المستفزة مثل “المجد للشيطان” و”لا تصالح”. الآن، تحدث كمال مرة أخرى عن شعر أمل دنقل موضحًا أن الشعر الجيد قد يكسب دورات حياة جديدة بعد عشرات السنين من تاريخ كتابته. أسفر هذا عن نقاش عن قدرة الشعر على تحريك الناس وتغيير العالم.
كان نقاشًا مطولاً، وأقتبس منه ما يلي من أقسام كاملة. السبب هو أنني أريد أن أعطي الشعراء الذين حضروا الجلسة مساحة لتطوير أفكارهم، بحيث يمكننا التفكير معهم بشأن ما قدموا من حجج وأفكار. المشتغلون بالأنثروبولوجيا عادة ما يترجمون بياناتهم من البحث الميداني (الإثنوغرافيا) إلى خطابات أكاديمية يتداولها الأكاديميون، ويفسرونها بنظريات تستخدمها مؤسساتهم الأكاديمية تحديدًا. هذا هو الجزء الممل في الكتابة الأنثروبولوجية. إننا ندين دائماً بأفضل أفكارنا لمن نقابلهم في الميدان، ممن لديهم نظريات جيدة عما يواجهون. فها هنا بعض أفكارهم:
كمال على مهدي: “عبقرية أمل دنقل الثابتة إنه هزّ وعمل تغير في المجتمع، يعني العبقرية اللي خلاته ثابت وخلت عنده الدوام، هي عبقرية الحاجة اللي معملهاش حد غيره، إن هو عمل هزة في المجتمع المصري…”
محمد محمود: “أنا أعتقد إن الشعر زيّ البذور المختلفة، كل بذرة بتطرح وتنمو وترعرع في أرض معينة، فالقصيدة اللي تلاقي ظروف معينة تناسبها هتترعرع، يعني إمتى ظهرت قصيدة أمل دنقل؟ في ثورة ٢٥ يناير، علشان هو ثوري، ولو قصيدة رومانسية جامدة تظهر لو المجتمع ارتاح والحياة المادية عليت، هتلاقي أعظم القصايد اللي تردد هي القصايد الرومانسية، فالقصايد زي البذور عاوزة أرض مناسبة علشان تترعرع وتكبر، فليه ظهر أمل دنقل دلوقتي؟ ليه مش من ٥ سنين ٦ سنين؟ ليه بنتكلم عليه دلوقتي؟ علشان ثورة ٢٥ يناير.”
نزيه: “أبو القاسم الشابي لما قال:
إذا الشعبُ يوماً أراد الحياةْ فلا بد أن يستجيب القدرْ
.. في فترة الاحتلال كان البيت ده مناسب قوي، جت بعد كده فترة مبقاش مناسب، في الفترة الحالية دلوقتي مناسب قوي، فمش شرط الثبات، حسب الفترة اللي هو ليها، تبص تلاقي البيت يغير دنيا، ليه؟؟ الناس متأثرة في الجو ده بده، عايزة التغيير، فلقى قدامه البيت ده فتأثر بيه، فانتشر”.[x]
محمد: “إذا اتوجدت الظروف دي والمجتمع ثار، هتلاقي أمل دنقل وقصيدة أمل دنقل أُحيت من جديد بالنسبة له.”
صامولي: “أنت شايف إن الثورة مناسبة لقراءة أمل دنقل، لكن أمل دنقل مش سبب الثورة؟”
محمد: “لا مش سبب في الثورة، هو مجرد إن قصايده كُتبت في حالة ثورة، هو إبداع، فكل ما يثور الشعب هيلاقي قصيدة أمل دنقل مناسبة ليه، وإلا أين أمل دنقل في التلاتين سنة اللي فاتت أيام حكم مبارك اللي مفيهوش ثورة؟ أمل دنقل لم يذكره أحد.”
كمال: “الهزة اللي أنا قصدتها … إن أمل دنقل تواجده بعد هزيمة سنة ٦٧ قال حاجة هزّت المجتمع، يعني رفض الواقع اللي هو بيعيش فيه. … أنا مقصدتش إن أمل دنقل كان معترض على هزيمة سنة ٦٧ بس، لأ … لو كان عايش مثلا في أيام ثورة ٥٢، كان ممكن يكون ضد الثورة نفسها، ولو كان عايش قبل ٥٢ كان ممكن يكون ثائر ضد الملك، ولو كان عايش مثلا قبل الملك كان هيبقى ثائر مثلا ضد هموم الشعب … عبقريته هو في إنه يتناول الرفض، ويخلينا أحنا نقتنع بإن إحنا نرفض معاه ونمشي معاه في الاتجاه ده…”
حمدي موسى: “أنا بأيّد كلام أخويا كمال، بس هأروح له في سكة تانية … الشاعر فوضوي ماجن، يسعي لإثبات ذاته وشخصيته من خلال المغايرة، لمجرد المغايرة، بس المغايرة برؤية، أمل عمل كده، أمل هدم بناء تقليدي لقصايد، وسعى لفكرة مغايرة تماما، اللي هي الفكر الجديد أو النهج الجديد، اللي هي زاوية الكتابة عند أمل، دي فكرة مغايرة، عايز يقول من خلالها، إن انا مختلف عن الآخرين بعبقرية.. وبالتالي بعبقريته وصل لمستوى مختلف، وأبهر القارئ بالإختلاف بتاعه. … لكن الشعر مبيغيرشي واقع مجتمع، بل أنا بأقول إن القرآن نفسه مبيغيرش؛ الله سبحانه وتعالى هو اللي بيغير، طيب أنا هأقول على حاجة، وأنا بأبقى قاعد في القهوة، والقرآن شغال، وأنا أعي معاني الآيات جيدًا، وأعي الأمر بالمعروف والنهي، ومع ذلك بنستمر فيما أفعل، إذن القرآن لم يغيرني لأن إرادة التغيير من الله سبحانه وتعالى ماجتشي، وهو الكتاب الأعلى…”
نزيه :”إنته كونك متغيرتش دا مش عيبه، لكن بيغير عند غيرك.”
حمدي : “بيغير لأنه بيوافق مشيئة.”
نزيه : “ما كل حاجة بتوافق مشيئة، أنا دلوقتي لو عربية دهستني، فده بيوافق إيه؟”
حمدي : “البيت بتاع أبو القاسم الشابي لما قال هذا البيت، ربما ما قالشي البيت لاعتراض سياسي فج زي ما إحنا متخيلين، ربما أبو القاسم الشابي ربما كان في قضية ظلم اجتماعي محدود، لكن لما يحدث ثورة، اللي إحنا بنسميها في البلاغة موافقة الكلام لمقتضى الحال، البيت الشعري ده في ظروف زمن معين وافق حالة نفسية معينة، فبالتالي أخد بُعد أكثر من اللي كان بيتخيله أبو القاسم الشابي.”
نزيه :”سؤال لو سمحت: ليه الرسول عليه الصلاة والسلام، ضمّ واحد زي حسان بن ثابت[xi] معاه في كتيبة الدعوة؟ حسان بن ثابت مكانشي فقير، مجرد شاعر، إيه اللي غيره في المجتمع الإسلامي علشان الرسول يضمه؟”
في تلك اللحظة دخل نزيه وحمدي في نقاش تفصيلي حول دور الشعراء في نشر الإسلام في عهد النبي. قال حمدي إن الدور كان مجرد الرد على الهجاء الموجه للنبي، في حين استعرض نزيه أمثلة حيث دفع الشعراء المشركين إلى الاعتراف بسمو الإسلام. دفع هذا حمدي لأن يوضح موقفه:
“أنا بأقول الشيء بيغير لما بيوافق المشيئة، أنا ما لغتشي دور الشعر في تقويم الحياة، ولكن هو في ظل الثقافة المجتمعية الحالية، تغيير نسبي نسبته واحد من المليون.”
نزيه: “الحالي ولا عامــّةَ؟”
حمدي: “من فترات زمنية طويلة جدا، وأنا ضربت مثل، وإن كان فج في الصياغة، فهو أبلغ الكتب القرآن والإنجيل، يعني الكتب السماوية موجودة، وأعلى صياغة وحكمية من الشعر، إذا كان بيزيد عدد المسلمين ، عدد النصارى، عدد اليهود، فده ازدياد نسبي لازدياد لعدد البشرية اللي هي موجودة.”
أشرف دسوقي علي: “يمكن حمدي دخل قضية غيبية مش هي قضيتنا النهارده، اللي هو التغيير بالمشيئة، دي مسألة غيبية أنا مليش إرادة فيها، وهتدخلنا في أمر آخر، وطالما الكلام عن الإبداع، فأحد عناصر الإبداع هو الاصالة، والعنصر الآخر هو الطلاقة … إذا كنت شاعرًا أو كاتبًا أصيلا تمتلك أدواتك تمتلك الموهبة، تمتلك الرؤية، تستطيع أن تغير، وتستطيع أن تغير في الزمان والمكان، فهناك شاعر محدود يستطيع أن يغير في نطاق قبيلته أو نطاق عشيرته، أو نطاق أمته في العصر الحديث، هناك شاعر آخر تستطيع أن تقول إنه عالمي، يستطيع أن يغير الآخرين تغييرًا جذريًا، والتغيير الجذري لا يعني أن الجميع ينضوي تحت هذه المشكلة، فنحن نقول أن الشعب المصري خرج عن بكرة أبيه في ثورة ٢٥ يناير، هذا لا يعني أن الـ٨٠ مليون مصري خرجوا، لكن يعني الأغلبية المهتمة، والتي تعنيها مشكلة التغيير هي التي خرجت … فأنت إذا كنت شاعرًا أو كاتبًا أصيلاً، فأنت قادر على الوصول إلى المشتركات الإنسانية العُليا، عندما أكتب قصيدة وتصل إلى أكبر كمّ، تصل إلى المصري والأوربي والأمريكي، هذا يعني أنني استطعت ان ألمس المشترك الإنساني الذي خرجنا كلنا منه، لأننا جميعا ننتمي إلى آدم … أمّا الشاعر الذي لا يغيّر فهو الذي يعبر عن نفسه فقط، مشكلته الذاتيه، أما عندما يتكلم عن مشكلة تمس الآخرين، فهذا يدل على أني قادر على الوصول إلى هذا المشترك الإنساني.”
نزيه :”هو ده السؤال اللي عاوز أسأله ليه الشاعر دلوقتي مبيغيرشي في حاجة أو الكتابة مثلا؟ هل عيب في الشعر؟ أم عيب في الشعراء؟”
محمد محمود :”العيب في المجتمع، المجتمع اللي مأهلشي الناس تقرا… السياسة شاركت في إبعاد المجتمع عن القراءة، يبقى الشاعر بيكتب لنفسه.
نزيه: “المجتمع بتاعنا ملوش لازمة، ليه هشام الجخ لمع؟”
مختار: “هشام الجخ دا ظاهرة صوتية.”
نزيه: “بس قدر..قدر.“
لقد أسهبت في المساحة التي خصصتها لهذا النقاش لأن الشعراء الأربعة، وخامسهم المتذوق نزيه، قدموا مفاتيح نظرية للإجابة على السؤال المؤطر للمقال. هذا النقاش مؤداه بالأساس إجابتان نظريتان. طبقاً للنظرية الأولى، التي تظهر من كلام محمد موسى وحمدي موسى، فإننا نلجأ للكلمات والأفكار التي تفسر الموقف الذي نجد أنفسنا فيه. إذا كانت هناك ثورة، فسوف يحيي الناس الشعر الثوري للتعبير عن موقفهم، لكن ليس للشعر نفسه القدرة على بدء ثورة. يذهب حمدي إلى مدى إنكار أن للوحي الرباني القدرة على تغيير عقول الناس. مثل هذه القدرة، على حد قوله، هي لله وحده، ومن ثم فهي خارج العلاقات السببية لهذا العالم. في المساء نفسه، أضاف أن الشعر قادر على التأثير على الأفراد من خلال قدرته على الإمتاع الجمالي، لكن أيا كان التغيير الذي يؤدي إليه هذا، فهو على المستوى الفردي تماماً.
طبقاً للنظرية الأخرى، التي مضى فيها بحذر كمال علي مهدي وتحدث عنها بقوة نزيه وأشرف دسوقي علي، فالشعر له القدرة على إمداد الناس بقوالب من المشاعر والأفعال. وطبقًا لكمال فإن شعر أمل دنقل هز قيمًا كانت من المُسلّمات، وساعد أيضًا على تدشين توجه الرفض كقيمة أخلاقية، وهو شيء مهم للغاية للعملية الثورية . يمضي نزيه وأشرف أبعد، ويقولان بأن الشعر قادر على دخول عقول وقلوب الناس، وإقناعهم وإلهامهم بالحلول.
في حين لم يتفق الشعراء في الجمع حول الإشكالية النظرية (قدرة الكلمة أو عجزها) ، فقد أجمعوا على أن في الواقع، فللشعر قوة أقل بكثير مما يليق به لأن الناس لا يقرأون ولأن شعرًا من الدرجة الثانية (مثل شعر هشام الجخ) يكتسب قبولاً شعبيًا. هذا هو مأزق جميع الأعمال الفنية والمنتجات الإبداعية: كلما زاد تعقد المنتج الإبداعي وانفتاحه على التأويل، أصبح أكثر اقترانًا بقلة من المثقفين، وأقل قربًا من الجمهور الأعرض. وفي مصر تحديدًا، هناك فجوة مذهلة بين السلطة الاجتماعية والأخلاقية التي يعلن الكتاب أنها قرينة بهم (ويكتسبونها أحياناً) والمقروئية الفعلية للأعمال الأدبية (جاكمون، ٢٠٠٨، ص ٦). الشعر القادر على هز المسلمات لا يفعل هذا إلا في أوساط من يبلغهم والمهتمون بألعاب العقل هذه، وهو ما يقتصر على الدوائر الأدبية الضيقة. هناك استثناءات قليلة، مثلما حدث في ثورة ٢٥ يناير عندما اكتسب شعر أمل دنقل الطليعي فجأة جمهورًا أعرض. لكن على ذلك، فما وصل إلى وجدان الناس كانت أبياتًا قليلة من القصائد وليس قصائد كاملة.
السؤال يحتاج لإعادة صياغة.. والإجابة متناقضة!
من واقع هذه المناقشة، أعد مختار سعد شحاته خلال الأيام التالية نظرية توحد النظريتين وتُظهر كيف يمكن للتخييل الأدبي أن يحدث فارقًا، ولماذا قوته دائمًا محدودة. النتيجة كانت ما وصفه بمثلث جدلي بين الخيال والأحلام والاختيارات. الخيال (بمعنى خيال واعٍ بعدم حقيقة ما هو متصور)، في هذه النظرية، هو مساحة الحرية حيث يمكن للمرء أن يتخيل ويستكشف الأفكار دون أن يضطر للنظر إلى جدوى التحقق العملية. غير أن المرء ليس حرًا في أن يكون له مجال غير محدود من الخيال. لذا ليست هذه نظرية يمكن للناس بموجبها أن يجرؤوا على تخيل شيء ويسعون لتحقيقه. على النقيض، فإن مجال الخيال مورد نادر (في مفهوم علم الاقتصاد) متوفر لناس مختلفين بدرجات متفاوتة. الخيال، على حد قول مختار، مرتبط بدوره بالأحلام (الأحلام هنا بمعنى الخيالات المرتبطة بالتوقعات التي يمكن أو يجب تحقيقها). ما كان على مستوى الخيال لعبة ذهنية، يمكن كحلم أن يُطارد ويُخطط له. مثل هذه الأحلام، في النهاية، يمكن أن تكون أساسًا لاختيارات الناس، وتحركات ملموسة لها تأثير مادي، وتغير في الواقع بشكل أو بآخر. وتلك الحقيقة بدورها هي الأساس الذي يحدد مجال الأحلام والخيالات. لكنها عملية غير قابلة للتنبؤ، كما يوضح مختار: الثورة كانت وبشكل جزئي مرتبطة بكيف تمكن الناس من تحويل الخيالات المستحيلة إلى أعمال ملموسة، لكن هذه الأعمال لانهائية المجال. إنها تبدأ دورة جديدة من الاختيارات والأحلام والخيالات، وطالما الدائرة غير مكتملة، فإننا نفتقر إلى مجال لتخيل تبعاتها.
على ضوء هذه النظرية، يصبح من الواضح أن سؤال ما إذا كان بإمكان الشعر تغيير العالم، قد طُرح بشكل مضلل لسببين: أولاً، الشعر ليس منفصلاً عن العالم أصلاً، ومن ثم لا يمكن ربطه بالعالم بعلاقة سببية. إنما هو جزء من العالم مع تغيره، ومع تحول الخيالات إلى أسس للأحلام والأفعال، والأفعال والخبرات تغذي المتخيل وتلجّمه في الوقت نفسه. الخيال بدوره مورد نادر. ثانياً، تم طرح السؤال بقدر كبير من الهوس، كأن الأشياء الدراماتيكية والعظيمة فقط هي المهمة. هذا الهوس كان مغريًا في مصر في عام ٢٠١١. الحديث عن “التغيير” كان في كل مكان، ولم يكن معناه أي تغيير. بل تحول ضخم وأساسي وكامل في مسار الإنسانية والسياسة والمجتمع في العالم. هذه الرؤية العظيمة للتغيير تتجاهل إمكانية مسار تغير بعض الأشياء عند قلة من الناس. كما تتجاهل إمكانية أن يأتي التغيير بأمور سيئة.
والأكثر حدوثاً أن العلاقة المنتجة بين الخيالات والأحلام والأفعال مقتصرة على التغير الحميمي والشخصي وليس لها كبير أثر على العلاقات الأكبر الخاصة بالسلطة. كما يذكرنا أمل دنقل في “من أوراق أبي نواس”، فإن ذهب الأمراء أقوى بكثير من ثرثرة الشعراء. ومن هنا أيضًا يرى مختار الموقف بعد أكثر من عامين، إذ يطلعنا على إحباطه المرير مما آلت إليه الأحداث:
“الشعرا بيغيروا بس ف دنياهم المتخيلة اللي بتتوازي مع دنيا المحبطين. مفيش تغيير حقيقي بيحصل، لكن لو حصل التغيير بيكون بقوة ومكر وألاعيب، والحالمين والشعرا بس بيتم استغلالهم وتصديرهم بكلامهم الحلو لتجميل الصورة… اللي بيغير هو صاحب المصلحة الواقعية والشعرا والحالمين بيقدموا تغيير لعالم حالم ملوش علاقة بعالم الواقع وبس بيتم استغلالهم [من خلال أصحاب المصلحة السياسية]. يعني عُمر الإخوان حبوا أمل دنقل، ولا عُمر الثوريين بطلوا حلم، ولا عمر العساكر ف أي بلد بيفهموا ف الشعر ولا الأحلام.”
هذه ملخص عن مراجعة مختار المتشائمة لنظريته في يناير ٢٠١٤: أصحاب السلطة هم من يحدثون فارقًا، ولا يهتمون لأمر الشعر، لكن يعرفون كيف يستغلون الكلمات المعسولة لتجميل جرائمهم. التغيير الحقيقي الأصلي المرتبط بالشعر لا يصل إلا إلى الحالمين المجانين، وهم قلة، ويبقى في عالم موازٍ.
هذه في واقع الأمر رؤية منتشرة في أوساط الشعراء والكتاب الذين تحدثت معهم، والكثير منهم متشككون للغاية في فكرة قدرة كتابتهم على التغيير في المجتمع. لكن، يرون أن الكتابة قادرة على تغيير الكاتب. من يتغيرون بشكل ملموس بالأدب هم فقط الأدباء أنفسهم، وربما أيضًا أصحابهم المقربين، والعائلة، وبعض الأشخاص الذين يسعون لرفقتهم لأنهم منجذبون لعالم مختلف يجسدونه.
وعلى هذا المسار، تنازع الشاعرة السكندرية شيماء بكر في صحة فكرة الدراسة الأنثروبولوجية للكتاب والشعراء:
“لماذا تدرس الشعراء أنثروبولوجيًا؟ الأنثروبولوجيا يجب أن تكون عن المجتمع ككل. الشعراء غرباء، هم استثنائيون ومنفصلون عن المجتمع، ولا يعبرون عنه أو يمثلونه.”
وهي محقة بالطبع. الشعراء من بين الأشخاص غير الممثلين لمجتمع من وجهة نظر الأنثروبولوجي. هي نفسها مثال حي على قولها، تعتبر نفسها متفردة واستثنائية للغاية.
لكن تفردها هذا، وتفرد الكثير من الكتاب، هو الذي يثير أسئلة مهمة عن الشعر كجزء من العالم. مثل العديد من الشعراء، ترى شيماء نفسها على درجة من الاستثنائية والغرابة تجعل من المستحيل أن يكون لها أهمية اجتماعية، لكن في الوقت نفسه لديها الدافع والمهارة اللازمة للحديث عن أمور لابد من قولها وسماعها. السؤال عن مكانة الشعر في العالم، من هذا المنطلق، هو سؤال عن دور الأشخاص المتفردين والغريبين والأفكار المتفردة والغريبة في تشكيل المجتمع.
ولا يمكن للإجابة إلا أن تكون متناقضة. بين عامي ٢٠١١ و٢٠١٢ سجلت شيماء بكر نسختها المتشككة من حلم التغيير الثوري في قصيدتها “أقول أنا”، وتصفها بأنها “تمرُّد ضد التمرد”:
كان لابد أن نقبض الريحَ
لابد للشاة أن ترفض السلخَ
من بعد أن ذبحت
أن يموت لنا إخوةٌ ..
فالقبور التي فـُتحت ..
سوف تـُنْبؤنا أننا لم نمت بعدُ
ومن القتل ما ليس يقتلنا
إنما لم يكن ينبغي
أن نربي الطموحَ ليأكلنا
كان لابد أن نشعل النارَ
في كل هذا الهشيم
ثم لا نسأل الوقتَ
أن يـُرجعَ الأرض خضراءَ
من ذا يصدق أقدامه لو ترنـّحَ..
لو جرَّبت خطوة
أن تغير إيقاعها
فوق نفس الطريق العقيم ..
قصيدة “أقول أنا” هي نسخة مثيرة للاهتمام من أزمة الثوار المصريين الذين طبقًا لمختار “لم يكفوا عن الحلم مطلقًا”، ويقفون في الصفوف الأولى على أعتاب فكرة التغيير، وأسهموا في الانفجار السياسي، لكن أخفقوا في تحقيق أي من أهدافهم أو أحلامهم. وتشير شيماء بكر إلى أن المشكلة لا تقتصر على تعرضهم للهزيمة، بل الأفدح، على حد قولها لنا، أن رؤيتهم للتغيير الثوري خلقت نضالاً مبنيًا بشكل لا يمكن معه الانتصار. أشعلنا النار في الهشيم ونتوقع أن تخّضر الأرض ثانية. نحاول تغيير إيقاع خطواتنا، فوق نفس الطريق. الحالمون الثوريون الذين ألهمتهم خيالات مجنونة وأحلام غير ممكنة التحقق، حولوا بعض هذه الأحلام من الدوائر المغلقة لقلة من الأفراد إلى شوارع مصر. فشلوا، ولكنهم تركوا علامتهم على التاريخ. نضالهم كان فعالاً، لكن لم يؤد إلى التحرر.
لهذا أعتقد أنه لا يكفي أن نفكر في الشعر والشعراء والأدباء والفنانين وغيرهم من الحالمين والمتفردين في أفكارهم بصفتهم قلة لا حيلة لها في مواجهة قوة القمع الغاشمة. إن لم تكن لهم حيلة فهم أبرياء مما حدث. وقد يكون غير كافٍ أيضًا التفكير فيهم بصفتهم أمدوا عن غير قصد الأقوياء بغطاء أيديولوجي. هناك أيضًا احتمال ثالث أكثر إزعاجًا.
قال كمال علي مهدي إن أمل دنقل علّم المصريين اعتبار الرفض فضيلة، وهي قيمة في حد ذاتها على الرغم من الهزيمة المؤكدة دائماً. ولقد تأثر قلة من المصريين في واقع الأمر، والدور الذي لعبه شعر أمل دنقل قد لا يكون كبيرًا للغاية، لكن هذه القلة تنتمي إلى أقلية سياسية راديكالية، تتبنى منذ عام ٢٠١١ الرفض كمبدأ سياسي له تبعات عملية مهمة. موقفهم “لا” المبدئي تصاحبه رؤية راديكالية للتغيير كقيمة في حد ذاتها، وينطوي على السعي للنقاء والنضال بلا أية مساومات. إنهم من كافة الأوجه أضعف من اكتساب السلطة، لكنهم أمكنهم مرة تلو الأخرى تحريك المشهد السياسي وزلزلة المسار المتوقع للأحداث. ولقد ساعدوا أكثر من مرة – وأحيانًا دون تدبر كافٍ، وأحيانًا كامل الوعي – قوى أكثر نفوذًا منهم في الاستفادة من الأحداث.
ليس هذا الأمر بأي حال من الأحوال غريبًا على مصر. فالشعر، ومعه الأغاني والشعارات المشتقة من القصائد، كان لها حضور قوي في جميع الانتفاضات العربية تقريبًا. بعض الشعر – لا سيما قصيدة “إرادة الحياة” لأبي قاسم الشابي – سافر في أرجاء الوطن العربي وأصبح مرتبطًا بلغة الاحتجاج والثورة. وفي الوقت نفسه، ثبت أن للثورة تبعات ملتبسة، قد تكون تحررية، لكن من المرجح للغاية أنها مدمرة. ليست هذه فكرة جديدة بالطبع. قال الأديب والفيلسوف الفرنسي ألبير كامو في ١٩٥١ إن الثورة الفلسفية الراسخة في لحظة قول “لا” سمة إنسانية أساسية تسفر مع الوقت عن ثورات على أرض الواقع. لكن، كما يضيف كامو: المشكلة أن الثورات من حيث المبدأ قاتلة، وأن الثورات التاريخية الكبيرة في أوربا كلها أدت إلى تقوية سلطة الدولة وليس إلى تحرر المقهورين.
لقد وعد أمل دنقل من يقول “لا” بعذاب أبدي. لكنه ليس فقط عذاب العبث أو الهزيمة التي أعرب عنها مختار؛ إنه عذاب الضمير. أمل دنقل في “لا تصالح” عندما تناول واقعة تاريخية لعملية قتل بدأت حربًا ثأرية عميقة ومريرة لدرجة استمرارها لأربعين عامًا، لم يكن حديثه هذا دون سبب. مع دخول مبدأ الرفض إلى الحياة اليومية لمصر، أصبح أيضًا جزءًا من عالم تعتبر فيه الحلول الوسط خيانة، ويبدو أن المواجهة هي الخيار الأخلاقي الوحيد. الشعر، بدوره، هو جزء من دائرة مفرغة من الاستقطاب وإراقة الدماء، تطارد مصر منذ ربيع ٢٠١١.
عن المؤلف: حصل صامولي شيلكه على الدكتوراه في الأنثروبولوجيا من جامعة أمستردام في هولندا سنة 2006 برسالته عن موالد الأولياء في مصر وما حولها من جدل واختلافات. ويعمل باحثًا منذ 2009 في مركز الشرق المعاصر ZMO في برلين في ألمانيا، ويُدَرّس الأنثروبولوجيا المرئية في جامعة برلين الحرة. وتستضيفه وحدة الدراسات المستقبلية في مكتبة الإسكندرية –حاليًا- كباحث زائر في الإسكندرية بمصر. تناول في أبحاثه ما بعد الدكتوراة عدة مواضيع منها شهر رمضان في مصر، الازدواجية فى الأخلاق، تجارب الشباب في الالتزام الديني، الحب والزواج، الملل والإحباط، الاستهلاك والبحث عن مصدر رزق، أحلام الهجرة وواقعها، دور الخيال في الواقع الاجتماعي، ودوافع الكتابة الأدبية وتأثيرها على حياة الكاتب. نُشر له باللغة العربية المقال “ما الشعبي في المعتقدات الشعبية؟” في مجلة فصول 2002 والكتاب “هتتأخر على الثورة: دفتر يوميات عالم أنثروبولوجيا شهد الثورة”، ترجمة عمرو خيري، دار النفيسة، القاهرة 2011. شارك مع دانيالا سفاروفسكي في إنتاج فيلم “رسائل من الجنة: عن البحث الدائم عن مكان أفضل: مصر-النمسا” (2009) كما شارك في ثلاثة أفلام مع مختار سعد شحاتة: “الناحية التانية” (2010) و”العاصمة السرية” (2013) و”ما زال يحدث في العاصمة السرية” (2013).
المراجع
عبد الرحمن الأبنودي. ٢٠١٤. مش كل ورقة تتمضي. قصيدة على قناة CBC+2 التلفزيونية، ٩ يناير. وثيقة على الإنترنت:
http://www.youtube.com/watch?v=vBrkI0kHY5c&feature=youtu.be
أدونيس. ١٩٨٦. مقدمة للشعر العربي. دار الفكر، بيروت.
أشرف دسوقي علي. ٢٠٠٧. وساوس والسبب ليلى: ديوان. الإسكندرية: سلسلة ألوان إبداعية.
أشرف دسوقي علي. ٢٠٠٨. ليس الآن: ديوان. الإسكندرية: سلسلة تغيير.
Azimi, Negar. 2014. “The Egyptian Army’s Unlikely Allies” The New Yorker January 8, online document: http://www.newyorker.com/online/blogs/newsdesk/2014/01/why-egypts-liberal-intellectuals-still-support-the-army.html?mbid=social_retweet&mobify=0
Badawi, M.M. 1975. A critical Introduction to Modern Arabic Poetry. Cambdirge: Cambridge University Press.
Camus, Albert. 1991 [1951]. The Rebel: An Essay on Man in Revolt. Transl. Anthony Bower. New York: Vintage Books.
سي إن إن عربي. ٢٠١٣. “نجم: متخافوش على مصر والإخوان يغوروا”. ٣٠ نوفمبر. وثيقة على الإنترنت: http://archive.arabic.cnn.com/2013/entertainment/11/30/nejm.amman/
أمل دنقل. ٢٠٠٥. الأعمال الكاملة. القاهرة: مدبولي
عبلة الرويني. ١٩٩٢ [١٩٨٥]. الجنوبي: أمل دنقل. الكويت والقاهرة: دار سعاد الصباح.
بلال فضل. ٢٠٠٥. بني بجم. القاهرة: ميريت.
حسان بن ثابت. ١٩٩٤. ديوان حسان بن ثابت. علي مهنى (محرر). بيروت: دار الكتب العلمية. وثيقة على الإنترنت:
http://ia600401.us.archive.org/6/items/waqdwaween1/32476.pdf.
مصطفى إبراهيم. ٢٠١٣. المانيفستو: ديوان بالعامية المصرية. الدوحة: مؤسسة بلومسبري قطر للنشر.
Jacquemond, Richard. 2008. Conscience of the Nation: Writers, State, and Society in Modern Egypt. Cairo: American University in Cairo Press.
Jayyusi, Salma Khadra. 1977. Trends and movements in modern Arabic poetry. Leiden: Brill.
Kendall, Elisabeth. 2006. Literature, Journalism and the Avant-Garde: Intersection in Egypt. London: Routledge.
Kennedy, Philip F. 2007. Abu Nuwas: A Genius of Poetry. Oxford: Oneworld.
Khouri, Mounah A. 1971. Poetry and the Making of Modern Egypt (1882-1922). Leiden: Brill.
Lindsey, Ursula. 2013. “A voice of dissent joins the nationalist chorus.” Mada Masr October 6, online document: http://madamasr.com/content/voice-dissent-joins-nationalist-chorus.
Mada Masr. 2014. “Belal Fadl leaves Al-Shorouk following censorship of article.” February 2, online document: http://madamasr.com/content/belal-fadl-leaves-al-shorouk-following-censorship-article
كمال علي مهدي. ٢٠٠٧. يوم يكون الراعي. شعر. القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة.
كمال علي مهدي. ٢٠٠٥. رجل من يحموم. القاهرة: كتب عربية.
حمدي موسي. ٢٠١٢. القاطرات تعبئ الأحلام صوب المنتهى. ديوان شعر. المنصورة: دار الإسلام للطباعة والنشر.
حمدي موسى. ٢٠١٢. حليب الشمس. رواية. المنصورة: دار الإسلام للطباعة والنشر.
حمدي موسى. ٢٠١٣. لمع بيادة. وثيقة على الإنترنت: http://www.youtube.com/watch?v=HWhWDJ3ku4Y.
أحمد فؤاد نجم. ٢٠١٣. مقابلة على قناة المحور ٢ التلفزيونية. ٣ ديسمبر. وثيقة على الإنترنت: http://www.youtube.com/watch?v=v-W5odYhL1M.
Sanders, Lewis IV and Mark Visonà. 2012. “The Soul of Tahrir: Poetics of a Revolution.” In: Samia Mehrez (ed.) Translating Egypt’s Revolution: The Language of Tahrir, Cairo: The American University in Cairo Press, pp. 213-248
Sartre, Jean-Paul. 1949 [1947]. What is Literature? Transl. Bernard Frechtman. New York: Philosophical Library. Online document: https://archive.org/details/whatisliterature030271mbp.
مختار سعد شحاته. ٢٠١٠. لا للإسكندرية. القاهرة: أرابيسك.
مختار سعد شحاته. ٢٠١٣. “أنا جبااااااان… وأنت الشجاع.. هذه كل الحكاية!” الحوار المتمدن. ٢٧ يوليو. وثيقة على الإنترنت: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=370559.
مختار سعد شحاته. ٢٠١٤. تغريبة بني صابر. الإسكندرية: دار كلمة.
هوامش
[i] كُتب هذا المقال أصلا بالإنجليزية كفصل مستقل في كتاب “الإسلام والثقافة الجماهيرية” أعده كل من: كارن فان نيوكيرك، مارك لي فاين ومارتن ستوكس وسينشر،دار جامعة تكساس Karin van Nieuwkerk, Mark LeVine, Martin Stokes (eds.): Islam and Popular Culture: Austin: University of Texas Press. والشكر واجب إلى معدي الكتاب وكذلك إلى عمرو خيري ومختار سعد شحاتة لتعليقاتهم النقدية التي ساعدتني في إتمام المقال.
[ii] أمل دنقل ٢٠٠٥، ص٩١. قصيدة بصوت الشاعر: http://www.youtube.com/watch?v=YuInA7MCLq4
[iii] أمل دنقل ٢٠٠٥، ص ٣٧٤. قصيدة بصوت الشاعر: http://www.youtube.com/watch?v=uF5OHwLqOhg.
[iv] أمل دنقل ٢٠٠٥، ص ٩٣.
[v] إحنا اللي قلنا لأ: https://www.facebook.com/No4everythingisWrong.
[vi] أجد مسمى “الربيع العربي” مجازاً موسمياً مضللاً للغاية للأحداث التي بدأت في ٢٠١١. إذا أردنا استخدام مجازاً موسمياً لسنوات الثورات والثورات المضادة، فشهر أمشير القبطي (٨ فبراير إلى ٩ مارس) الذي يتسم في مصر بالمناخ العاصف المتقلب، هو التعريف الأنسب من “الربيع”.
[vii] بلال فضل الرائد في أسلوب في الكتابة الساخرة التي أصبحت تتمتع بشعبية بالغة قبل ٢٠١١ بقليل (انظر على سبيل المثال بلال فضل ٢٠٠٥). أصبح بلال فضل صوتاً مهماً يعبر عن تيار ثالث من خلال عموده في صحيفة الشروق اليومية، حتى يناير ٢٠١٤، رغم أنه لا يقارب دور الكوميديان التلفزيوني باسم يوسف. انظر مدى مصر ٢٠١٤. للمزيد عن مقالات بلال فضل بالعربية: http://www.shorouknews.com/columns/BilalFadl
[viii] انظر مختار شحاته ٢٠١٠، مختار شحاته ٢٠١٤. للاطلاع على كتاباته المقالية على الإنترنت انظر: http://www.ahewar.org/m.asp?i=6026
[ix] للاطلاع على أعمالهم المنشورة، انظر أشرف دسوقي علي ٢٠٠٧، ٢٠٠٨ ، كمال على مهدي ٢٠٠٥، ٢٠٠٧، حمدي موسى ٢٠١٢.
[x] أبو قاسم الشابي، إرادة الحياة. لعل هذه القصيدة هي أيضاً مصدر شعار “الشعب يريد إسقاط النظام” التي اصطكت في تونس أولاً في ديسمبر ٢٠١٠ ثم تكررت في جميع الانتفاضات بالوطن العربي منذ ٢٠١١.
[xi] للاطلاع على سيرته وشعره، انظر “حسان بن ثابت ١٩٩٤”.