ترتبط فكرة الديمقراطية التشاورية deliberative democracy بالسعي إلى تحسين صناعة القرار السياسي من خلال التوصل لآليات تسمح للمواطنين بفرص معقولة لمناقشة والتشاور حول السياسات والأهداف. هذه الفكرة تعجب المنظرين للديمقراطية الليبرالية الماضين على نهج روسو؛ فكرة أن التفضيلات السياسية والقيم الخاصة بالناس يمكن أن تصبح أكثر ثراء وملائمة من خلال النقاش المنطقي في محادثة بين أنداد، وأن تتحسن القرارات السياسية عن طريق هذه العملية. هذه الفكرة لا تساوي بالضبط فكرة حكمة الحشود، إنما أن يصبح الأفراد أكثر حكمة من خلال تفاعلاتهم مع أشخاص آخرين أكثر فهماً وانفتاحاً على تداول الأفكار، ومن ثم تتحسن آراء الحشود.
هذا هو تعريف الديمقراطية التشاورية كما عرضتها آمي جوتمان ودينيس تومسون في “لماذا الديمقراطية التشاورية” (2004):
بالأساس فإن الديمقراطية التشاورية (أو الديمقراطية التداولية أو الديمقراطية التواصلية) تؤكد على الحاجة إلى تبرير القرارات التي يتخذها المواطنون وممثلوهم. من المنتظر من المواطن ومن يمثله تبرير القوانين المفروضة عليه. في الديمقراطية يتعين إذن على القادة أن يبدوا أسباباً لقراراتهم وأن يردوا على الأسباب التي يبديها المواطنون في المقابل… الأسباب التي تطلب الديمقراطية التشاورية من المواطنين وممثليهم أن يبدوها يجب أن تراعي مبادئ أن الأفراد الذين يحاولون الوصول إلى شروط عادلة للتعاون لا يمكنهم – منطقياً – أن يتحروا الرفض التام لما يُعرض عليهم.
كل دفع بأجندة سياسية معينة يشتمل لا محالة على مجموعة متباينة من الأهداف والمبادئ والحقائق. ما الذي نسعى لتحقيقه؟ ما المبادئ الأخلاقية التي نحترمها كقيود على الخيارات السياسية؟ كيف نفكر في الخصائص السببية للعالم الطبيعي والاجتماعي الذي نعيش فيه؟ الاختلاف السياسي قد يحدث نتيجة للاختلاف حول كل من هذه الأبعاد، والتشاور من حيث المبدأ مُنتظر منه أن يساعد المواطنين على تضييق نطاق الاختلافات حول الأهداف والمبادئ والحقائق. والمنظرون التقليديون للديمقراطية التشاورية، من عهد ما قبل سقراط إلى جوتمان وتومسون وفيشكين، يرون أنه من الممكن لأصحاب النية الحسنة إدراك أن المعتقدات والافتراضات التي يسوقوها أثناء التداول والتشاور قد تحتاج إلى تعديلات.
لكن تغير شيء مهم منذ التسعينيات، التي شهدت الكثير من المناقشات للديمقراطية التشاورية. التغير يكمن في السوشيال ميديا: المدونات والتعليقات ومناقشات تويتر وتعليقات الفيس بوك. عندنا هنا ملايين الناس يتفاعلون مع بعضهم البعض ويتحاورون ويتجادلون حول مختلف القضايا، لكن يبدو أنه لم يطرأ تحسن ملحوظ في الوصول إلى تفكير أكثر استنارة ووضوح حول القضايا الأساسية. على جانب، قد نأمل في أن يؤدي اتساع مجال النقاش والجدل حول القضايا وإشراك أعداد كبيرة من مواطني العالم، إلى تعميق فهم الجمهور للقضايا والسياسات المعقدة. وعلى الجانب الآخر، يبدو أن لدينا أدلة على استمرار التفكير السطحي الضحل حول القضايا، وتخندق المواقف الأيديولوجية والعادات العميقة من قبيل العنصرية والهوموفوبيا والزينوفوبيا. يبدو أن الإنترنت تؤدي – كالعادة – إلى زيادة في جمود الآراء وضيق الأفق بقدر ما توسع وتعمق من تفكير الناس في القضايا الجادة التي نواجهها.
من ثم، فمن المهم تأمل ومحاولة فهم ماهية التداعيات على أفكارنا حول الديمقراطية جراء توفر البنية التحتية للسوشيال ميديا. شوهد مثلاً أثناء شهور الربيع العربي أن تويتر ومنصات السوشيال ميديا الأخرى لعبت دوراً في تحريك جماعات من الناس لهم نفس الاهتمامات الإصلاحية. يختلف هذا قليلاً عن نظرية الديمقراطية التشاورية، بما أن الحشد يختلف عن التداول والتشاور حول تكوين القيم. السؤال الأساسي يبقى بلا إجابة على ذلك: هل يمكن تحسين جودة التفكير والتشاور في أوساط الجمهور من خلال استخدام السوشيال ميديا؟ هل يمكن للجمهور أن يزيد من فهمه لقضايا مثل التغير المناخي وإصلاح الرعاية الصحية وتضييق الفروق الاقتصادية من خلال أدوات مثل تويتر وفيس بوك وجوجل؟ إلى الآن ليست الأدلة مشجعة، فمن الصعوب العثور على أدلة – من خلال الاستخدام الثقيل والموسع للسوشيال ميديا – على الالتقاء حول “مشتركات” سياسية واجتماعية. والمثال الأحدث الأكثر دراماتيكية للتغير في سلوكيات الجمهور – الزيادة المفاجئة في القبول العام لزواج المثليين – لا يبدو أن له صلة بالسوشيال ميديا.
هناك تقرير مهم لمؤسسة Pew حول التشظي السياسي لعالم تويتر، وفي القلب من نتائجه نرى أن مناقشات تويتر السياسية تؤدي عادة إلى التشظي في الآراء إلى جماعات متمايزة في الأغلب الأعم من الأفراد والمواقع:
أدت المناقشات على تويتر إلى شبكات متمايزة مع رد الناس على تغريدات بعضهم البعض. تختلف بنية النقاش من حالة لأخرى، بحسب الموضوع وبحسب الأفراد الذين يحركون النقاش ويوجهونه، لكن تم رصد ستة بنيات في كل الحالات: منقسمة، موحدة، متشظية، مجمعة في مجموعات متمايزة، خلق عقدة نقاش تصب للداخل والخارج، وأخيراً بنية كلامية. يستقر الحال على هذه البنية أو تلك بحسب اختيارات الأفراد، على من يردون في تغريداتهم، ونخرج من بنية النقاش الخاص بالقضية بفهم لدلالة المناقشات التي تمت على الموقع.
إذا كانت القضية المطروحة سياسية، فمن الشائع أن ترى جماعتين منفصلتين بينهما استقطاب. تتشكل إذن مجموعتان متمايزتان لا تتفاعل الواحدة منهما مع الأخرى كثيراً. تكون عادة مجموعة ليبرالية والأخرى محافظة. المشاركون في كل من المجموعتين يسوقون مجموعات مختلفة تمام الاختلاف من المواقع والروابط ويستخدمون هاشتاجات وكلمات مختلفة. الانقسام يظهر في المناقشات المثيرة للجدل: الأشخاص في المجموعات التي تتسم بكونها ليبرالية يستخدمون روابط من المواقع الإخبارية العادية، في حين أن من يتسمون بالمحافظة يسوقون روابط من مواقع إخبارية ومواقع آراء محافظة. في القلب من كل مجموعة قادة النقاش، وهم الأشخاص البارزون الذين يتم الرد عليهم على نطاق واسع أو يُذكرون بالاسم في المناقشة كثيراً. في المناقشات التي تتسم بالاستقطاب، تشير كل مجموعة إلى طاقم مختلف من الأشخاص أو المنظمات النافذة التي تجدها في مركز كل مجموعة نقاش من المجموعتين.
ويرى المؤلف أن أهمية انقسام مناقشات تويتر إلى مجموعات متمايزة تكمن فيما يلي:
السوشيال ميديا تشهد بإطراد تحولها إلى “بيت” أو وطن للمجتمع المدني، حيث تحدث المشاركة في المعرفة والمناقشات والمساجلات العامة والخلافات. بصفتها ميدان عام جديد، يعد توثيق السوشيال ميديا مهماً بقدر أهمية توثيق أي تجمع عام كبير آخر. خرائط الشبكات الخاصة بمناقشات السوشيال ميديا في خدمات مثل تويتر يمكن أن تبصرنا بدور السشيال ميديا في مجتمعنا. هذه الخرائط تعتبر وكأنها صور ملتقطة بطائرات لحشود على الأرض، ويظهر منها حجم وتكوين الحشد. هذه الخرائط يمكن أن تدعمها المقابلات على الأرض مع المشاركين من الجمهور، مع جمع كلماتهم وفهم اهتماماتهم. يمكن للرؤى التي تقدمها التحليلات الشبكية أن تكمّل الاستطلاعات أو مناهج البحث التي تركز على عينات، ويمكنها أن تحسن من تحليل المشاعر مثلاً عبر تحليل نصوص الرسائل الواردة في التغريدات.
مع بدء مجهودات بحثية كبيرة حالياً للبيانات والرسوم البيانية الواردة من شبكات السوشيال ميديا، يظهر أن الانقسام إلى جماعات – لا الالتقاء حول مشتركات – هو النمط الغالب. يبدو هذا مناقضاً لأهداف الديمقراطية التشاورية. فبدلاً من كشف الأفكار على الانتقادات من الناس والمصادر المختلفة في تجمعات أخرى، ينزع الناس للبقاء داخل دوائرهم المألوفة.
هذا إذن هو أفق السوشيال ميديا إذا تُركت لحالها. هل ثمة أمثلة واعدة على استخدامات أكثر عمداً للسوشيال ميديا في إشراك الجمهور في مناقشات أعمق حول القضايا الراهنة؟ مؤكد أن هناك منظمات سياسية متنوعة وكثيرة تبذل جهوداً كبيرة في استخدام السوشيال ميديا كمنصات لبث رسائلها والترويج لقيمها. لكن ليس هذا بالضبط ما يعد “تشاورياً”. المهم لنا هنا أكثر هو إن كانت هناك مؤسسات ومنظمات غير هادفة للربح ركزت تحديداً على تهيئة مجتمع تشاوري أكثر على السوشيال ميديا بما يساعد في بناء إجماع أعرض على خيارات السياسات الصعبة. حتى الآن لم أتمكن من العثور على أمثلة جيدة على هذا النوع من الجهود.