عن العطش للدولة والريبة منها وأزمات المنطقة التي لا تنتهي

د. أحمد محمد أبوزيد – زميل بقسم السوسيولوجيا، جامعة كامبردج

أثناء حضوري لمؤتمر عقد مؤخراً في بيروت، قابلت عدداً من أصدقائي من مختلف الدول العربية، وكم كان الأمر مثيراً للانتباه مقارنة بكيف ينظر المواطنون والمواطنات العرب للدولة من المغرب والجزائر وتونس وليبيا ومصر والسودان وبالطبع من سوريا. كانت المشاهدات والملاحظات التي رصدها من لقاءاتي هذه هي أننا – كمواطنين قبل أن نكون باحثين – كبشر من ساكني هذه المنطقة تتحكم في رؤيتنا لدولنا نظرة تتراوح ما بين “العطش للدولة” و “الريبة منها”. على وجه الخصوص، كانت الحالة السورية هي ما شد انتباهي أكثر من أية دولة أخرى. هذا البلد العزيز، كان سكانه واقعين تحت تأثير مخدر إزالة نظام الأسد الإجرامي، وتنصيب مجرم وقاتل، تمكنت عصبيته الإرهابية من الاستيلاء على السلطة في دمشق.

أحد هذه اللقاءات كان مع صديق سوري عزيز درسنا معنا للدكتوراة في جامعة سانت أندروز بإسكتلندا. بعد السلام والسؤال عن أحوال أسرته في سوريا وفي إسكتلندا، فوجئت به يقول لي: “أنا راجع سوريا خلاص. مش قادر أتحمل إنجلترا أكثر من كده. وخلاص، بشار، الله يلعنه، ونظامه انزاحوا من على قلوبنا”. كان صديقي هذا قد رزق بطفل فقط أسبوعين أو ثلاثة قبل المؤتمر. لا أعرف لماذا لم أكن فرحاً بما قاله. بالطبع الأمر ليس من حقي لأقرر عليه ما يجب عليه فعله، ومن أنا لأقول لصديق أعلم يقيناً كم يحب بلاده ودفع ثمنا كبيرا نتيجة موقفه المعادي لبشار – مثل أغلبية السوريين – تجسدت في تغربيتهم وهجرتهم وتشردهم في المنافي الشاقة خلال الخمسة عشر عاماً الأخيرة، ويريد أن يعيد الشمل مع أهله وأن يربي أبنائه في وسط أحضان جدتهم وجده وبقية أهلهم في حماة (مسقط رأس صديقي هذا). قلت له ونحن نشرب الشاي في قهوة شعبية في زقاق جانبي مظلم بجوار شارع الحمراء: “أتمنى لك التوفيق، ولكن أرجوك فكر مرة ثانية قبل أن تأخذ هذا القرار الخطير”.

منذ هذه المحادثة، مازالت أفكر في وقائعها خلال الشهور الثلاثة الماضية. وأصدقائي يعرفون موقفي الواضح من النظام الإرهابي الحاكم في دمشق الآن وكم من مرة تجنبت الدخول في مناقشات ومناهدات مع أصدقائي السوريين عندما أرى سعادتهم (المبالغ فيها والخادعة من وجهة نظري) بإزالة نظام بشار. كنت أرى وراء هذه السعادة الطافية على السطح، إلا أنهم في نفس ذات الوقت لا يرون الكارثة المحدقة التي وقعت فيها سوريا، والطوفان القادم ليدمر وحدتها العضوية (الجزئية على أقل تقدير). وكم كان مفجعاً أن تسمع من أصدقاء يقولون لك: “أتركونا نفرح شوي”، أو “سوريا ما راح تتدمر أكثر من هيك”.

كباحث في نظرية الدولة (وتحديداً عند ابن خلدون وماكس فيبر وتشارلز تيللي) ودراسة العنف السياسي والإرهاب، وخصوصاً في الجنوب العالمي، وبالأساس كمواطن مصري مازال يتذكر جيداً ما فعلته جماعات الإسلام السياسي والإخوان المسلمون في مصر خلال فترة وجودهم في السلطة وما تلى خروجهم منها، كنت أعلم على وجه اليقين أن هذا التفكير بالتمني كان أبعد ما يكون عن الحقيقة، وأن عواقبه وخيمة، ونهايته مفزعة.

منذ أيام تلقيت رسالة من صديقي العزيز هذا، كنت قد أرسلت له إعلاناً عن مؤتمر جديد، وسألته عن أحواله وأحوال الأهل، فكان رده على رسالتي هذه: “شكراً أحمد … أسف على التأخير … الوضع سيء… أنا رجعت سوريا من أسبوعين… حسبنا الله ونعم الوكيل”. ومنذ أن تلقيت هذه الرسالة المؤلمة، بدأت أفكر في أوضاع صديقي، وعائلته وطفله الرضيع، وفيما جرى ويجري للدولة في سوريا، والتأرجحات والأوضاع الجنونية في المنطقة خلال السنوات المتأرجحة القليلة الماضية.

من واقع دراستي لنظرية الدولة، وخصوصاً في الجنوب العالمي، أزعم أن هناك علاقة عضوية بين مسألة كراهية الباحثون/الباحثات المتحدثين/ات بالعربية للنظرية والتنظير (وبصراحة، وبدون زعل، عدم القدرة على التنظير أو الاهتمام بالنظرية أصلاً في منطقتنا)، وما نراه من حالة عدم القدرة المستحكمة، والمنتشرة على نطاق واسع، على تفسير وفهم الأزمة التي تمر بها الدول العربية. وكذلك، تفسير هيمنة منطق التفكير بالتمني والإيمان بنظريات المؤامرة والخزعبلات، من نوعية “كل هذا مجرد أفلام، أو مسرحيات، أو لعبة مُعْدَة مسبقاً …. إلخ). إن السبب الرئيس وراء انتشار هذا التفكير اللاعقلاني هو عدم وجود أطر نظرية لدى من يقدمون أنفسهم لنا كخبراء وعارفين ببواطن الأمور، ولديهم القدرة على معرفة الخفي وكشف المؤامرات.

 أشدد، أن أحد الأسباب الرئيسية في انتشار التصورات الجامحة (من اليمين ومن اليسار على السواء) في فهم وتفسير ما حصل (وما زال يحصل) في المنطقة خلال الخمسة عشر سنة المنصرمة مرجعه الرئيسي عاملين: (1) عدم فهم طبيعة بنية الدولة/السلطة العربية أو في الشرق الأوسط – الإسلامي عموما، (2) القراءة الخاطئة وغير المنضبطة لماهية النظام العالمي ولطرق ووسائل إدارة الصراعات والعلاقات بين القوى الدولية. وحتى لا نقع في خطيئة وآفة التعميم، فبعيداً عن عدد قليل جداً من الباحثين/ات في المنطقة الممتدة من العراق شرقاً للمغرب وموريتانيا غرباً، لديهم فهم وإدراك واضح لحركة التاريخ، ودينامية وتعقد النظام الدولي، وطبيعة بنية السلطة في المنطقة، والأهم القدرة على الربط بين التحولات المحلية والبيئات الإقليمية وطريقة إدارة وحل الصراعات الدولية بين القوى الدولية (وخصوصاً في أبعادها الاقتصادية والجيوبولتيكية)، نادراً ما نجد كتابات أو مواقف جادة نستطيع الاشتباك معها، أو تأملها بجدية، بعيد عن “الهبد” والتشبيح والبلطجة الفكرية، والتحدث بيقينية شبه إلهية، والتي أصبحت السمة المميزة للكثير مما نستهلكه كتابة ونشراً وإذاعة ومشاهدة مؤخراً.

خلال الأيام الماضية، وجدت نفسي كثير التذكر والتأمل في نص محاضرة قصيرة ألقاها البروفيسور غسان سلامة سنة 2017.  كانت المحاضرة ملهمة وقتما استمعت إليها (ثم قرأتها عندما صدرت مطبوعة) بعد أن شاركها معي صديق عزيز مذ سنوات. وغسان سلامة لمن لا يعرفه، هو عالم سياسة وعلاقات دولية مخضرم، لكن حقه مَبْخُوسٌ للأسف. رغم أن مكانته في حقل العلوم السياسية والعلاقات الدولية لا تقل أهمية عن مرتبة عالم سياسة مخضرم مثل البروفيسور علي الدين هلال في رأيي. على كل حال، هذه المحاضرة الملهمة كان عنوانها مبهر: “العطش للدولة والريبة منها“. أما محتواها فهو في رأيي يمثل أهم ما كتب عن الدولة العربية خلال العشرين سنة الاخيرة – بالعربية أو بأية لغة تانية. ربما حتى منذ أن نشر عالم السياسة المصري نزيه الأيوبي كتابه الأهم “تضخيم الدولة العربية” في العام 1994.

لسوء الحظ، بسبب سيادة الغوغائية وعدم التخصص، نجد أنفسنا في حاجة لإعادة اختراع العجلة (يجب أن نبدأ من البداية، من زرع كما كنا نتعلم القراءة والكتابة في طفولتنا). هذه المحاضرة الكاشفة تقول لنا – وتشرح برصانة نظرية متقنة ومحكمة، ونادرة للغاية في الأدبيات العربية – أن التحولات والتغيرات الجذرية التي نشهدها في المنطقة ليست استثنائية أو غير مسبوقة، وبالطبع ليست انتكاسة كما يحب البعض أن يردد. هذه التحولات هي حقيقة نتاج حتمي لأزمة تاريخية واجتماعية مستحكمة ممتدة منذ قرنين – وربما أكثر.

هذه الأزمة متعلقة بالأساس بالطبيعة الانطولوجية التي تأسست عليها الدولة والسلطة (منطق الدولة تحديدا) في هذه المنطقة من العالم. ويجادل سلامة أن هذه الأزمة ليست نتاج أوضاع ثقافوية أو متوارثة، أو لها علاقة خاصة بكوننا مسلمين أو عرب أو عالمثالثين (مثلما يردد أنصار مدرسة الاستشراق، أو باحثي الأنثروبولوجيا الثقافية أو الدراسات الثقافوية والهوياتية، وبالطبع أنصار المدرسة الحداثية وما بعد الحداثية في دراسة نشأة الدولة العربية الحديثة).  هذه الازمة وبالأساس هي نتاج للاستبداد، والنظر للسلطة باعتبارها “غنيمة“، وللدولة باعتبارها “امتداد زماني ومكاني لحكم العصبية” (مثلما جادل ابن خلدون قبل ستة قرون). وكيف أن هذه “العصبيات” (والتي يمكن ترجمتها لـ “قبائل سياسية” كما جادلت أستاذة القانون في جامعة ييل آيمي شو وغيرها) التي تنظر للدولة باعتبارها “ملكية خاصة” أو المٌلك “كملكية” أو كما قال البروفيسور سلامة “وهكـذا انزلقنا إلى أنظمة نيو-باترومانية لم تكن تفرق بين الدولة والنظام، ولا بين ممارسة الحكم والتحكم به، واندثرت بالذات تلك الفوارق الأساسـية بيـن الملكيـة الخاصة والعامة”.

تمثال نصفي لابن خلدون، الجزائر. الصورة من ويكيبيديا

هذا الخلل أدى لمعضلة بنيوية مستحكمة، هي في رأيه – وأنا أتفق فيما ذهب إليه – تتمثل في “عجز الدول القائمة إجمالًا عن تحقيق أحد أهم عناصر بناء الدول الحديثة، أي انتقال الولاء مـن البنى القبلية والطائفية فـي الداخل ومـن التصورات القوموية والدينية العابرة للدول لصالح المشاعر الوطنية التي من شـأنها تسهيل قيام الدول وثباتهـا”. باختصار، غسان سلامة بيقول لنا: نحن ليس لدينا دول حديثة من الأساس، ما لدينا هنا شيء غرائبي هجين، يشابه ما وصفه الدبلوماسي المصري تحسين بشير في تسعينات القرن الماضي بأن الدول العربية ما هي إلا “قبائل تحمل أعلاماً“. برغم وجود كل تكنولوجيات الحكم والإدارة والضبط الحديثة (بلغة تيموثي ميتشيل) والمؤسسات الحداثية، فإن الهيكل العظمي للدولة العربية الحديثة مازال يعكس تأثيرات التشكيلات الاجتماعية السياسية والاقتصادية والاجتماعية التقليدية ما قبل الصناعية/الحداثية (حرفياً، هي التشكيلات التي تحدث عنها ابن خلدون، أي القبيلة والعصبية والوازع الديني والغلبة والشوكة والقهر”.

إن عدم القدرة على رؤية تجليات هذه التشكلات، وتمفصلها في بٌنى الدولة الحديثة، يمثل معضلة ابستمية حقيقة، مازال أنصار الدولة الحديثة والحداثة وما بعد الكولونيالية وما بعد البنيوية غير موفقين بالمرة في عدم الاعتراف بهذه “الحقائق” أو فهم تأثيراتها السياسية على أرض الواقع، أو يقبلوا الاعتراف بوجودها، رغم كل الأدلة المادية والحسية التي تؤكد ذلك. وهنا مكمن العطب.

إذا قبلنا هذه المقولات، فإن ما يجري الأن من مأسي مفجعة وبغيضة ووحشية في سويداء سوريا، ومن قبلها في ليبيا والسودان والعراق واليمن ولبنان وغيرها، ليس في الحقيقة شيء مستغرب (ناهيك عن أن يكون غير متوقع). لذلك، يقول لنا البروفيسور سلامة، أنه ليس مستغرباً أن نرى “الخرائط البديلة ومشاريع التوحد أو التقسـيم أو الضم ما زالت تعود للواجهة من دون توقف، بل إننا شهدنا تزايدها في السنوات الأخيرة”. وكيف أن كل هذه الأمثلة “ليست أبداً حصرية، على نوع من المرض المؤرق التـي تختص به منطقتنا، وهو ذلك الاسـتعداد المكبـوت لترجمـة الأزمات السياسية المعقدة إلـى مشـاريع جغرافيـة جديـدة.”

وهكذا تظل الأزمة كما عكسها عنوان هذه المحاضرة الرصينة، أننا كسكان وقاطني هذه الدول (نعم، فالبروفيسور سلامة يقول ويوحي بأننا لسنا مواطنين كاملين الأهلية والحقوق بعد، ببساطة لأن العقد الاجتماعي المؤسس للعلاقة المتوازنة بين الدولة والمجتمع في معظم بلداننا ببساطة إما “غائب” أو فــي الأقل “ضحل” أو ببساطة – وكما جادل غسان سلامة نفسه قبل أكثر من عقدين من الزمان، فنحن بحاجة إلى “عقد اجتماعي جديد“. ومن المعلوم والمتفق عليه بالضرورة هو أن “وحده ذلك العقد يسـمح للأفراد وللجماعات أن تجد في الدول القائمة ذلك الأمان والاحتضان اللذين لولاهما سـنجهد بصعوبــة لبناء دول ثابتة وفعالة“). لذلك لا عجب في أننا نجد أنفسنا حائرين وممزقين بين خيارين، من ناحية نجد أنفسـنا اليوم كمواطنين “عطشى” للدولـة (الحديثة) باعتبارها الشكل والكيان الوحيد المقبول الان لإدارة الصراعات الاجتماعية وتحقيق الأمن والاستقرار وإدارة العلاقات بين الجماعات السياسية داخل إقليم محدد المعالم من ناحية، ومواجهين من قبل جماعات إرهابية مسلحة تريد ليس فقط تدمير الدولة، بل والعودة بنا لعصور مظلمة يحسبونها زوراً “عصراً ذهبياً” من ناحية أخرى. وبين “الريبة” و “الحذر” من هذه الدولة، بسبب تجاربنا السابقة المؤلمة مع ممارسات نظمها الوحشية والإجرامية والطائفية …. إلخ. ويبدو أننا سنظل عالقين بين سندان العصبية ومطرقة الاستبداد لعقود قادمة ما دام عدم الفهم وعدم الرغبة في التعلم هي السائدة.

ومن هنا أقول لكل معلق: رجاءً، قبل ما “تهبد” على الكيبورد، وتقدم لنا سيناريوهات عن مستقبل الصراعات الاقليمية وترتيبات وخطط جهنمية خفية من نوعية “ممر داود“، أو “الهلال التركي“، أو “الشرق الأوسط الجديد“، أو “النظام العالمي الجديد”، (التي يمكن بالمناسبة أن تكون حقيقة وبها بعض الوجاهة بالتأكيد) لمجرد أنك تشعر “إن عقلك مليء بالعقارب” (كما تصف إحدى شخصيات شكسبير الشهيرة حالة الذهان والأوهام التي تعصف بها). لا أحد هنا يقول لك لا تكتب أو تقول ما تريد، أو حتى رجاءً راجع مقولاتك أو أن توسع منظورك وخٌلقك والصبر على انتقادات الأخرين، في النهاية، فكل شخص حر في رأيه وفي صفحته على وسائل التواصل الاجتماعي. لكن، وهذا ما أقوله، لو كنت تنظر لنفسك فعلا كمثقف وعندك وجهة نظر، وتحاول أن تقول شيئاً مفيداً للناس، على الأقل حاول أن تفهم أولاً طبيعة الأمور التي تتحدث عنها، وأن تتأكد من ضبط معلوماتك والتأكد منها، وبعدين “أهبد زي ما انت عاوز”.

فيديو المحاضرة موجود هنا.

النص الكامل موجود هنا


اكتشاف المزيد من قراءات

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

.