اندلعت الحرب العراقية–الإيرانية بين سبتمبر 1980 وأغسطس 1988، لتُصبح أطول حرب تقليدية بين دولتين في القرن العشرين، حيث أسفرت عن مئات آلاف القتلى، دون تغيير في الحدود أو فوز واضح لأي طرف، وانتهت الحرب مع بقاء الحكومات المتحاربة على قوّتها، مما أتاح طابعًا مستمرًا من الصراع والآثار طويلة الأمد على الجماعات المقاتلة والمجتمعات.
في هذا السياق، يركّز كتاب “غبار المعركة لم ينحسر“، لأستاذ الأدب في جامعة روتجرز أمير موسوي (وهو صادر عن “ستانفورد يونفرسيتي برس” في 274 صفحة، على كيفية تعامل الأدب سواء باللغة الفارسية أو العربية مع تجربة الحرب وذكراها، وينطلق من فكرة أن إنتاج الأدبي الرسمي، والدواوين الملحمية المؤيدة للجيش والحرب، تحوّل بعد الحرب تدريجيًا إلى مرثيات تعالج الألم والخسارة، وصولًا إلى سرديات احتجاجية تتحدى الروايات الرسمية . بهذه القراءة، يُنظر إلى الأدب كمجال صراع ثقافي ضد الروايات الرسمية، وموقع لإعادة بناء الذاكرة الجماعية.
الكتاب هو أول دراسة مقارنة شاملة بين الأدب الإيراني والعراقي بشأن الحرب، ويسعى الكاتب فيه ضمن ما يسعى إلى إعادة بناء “أرشيف للحرب” لم يكن متاحًا مسبقًا للباحثين. يعرض موسوي عمله في سياق دراسات مقارنة في الدول الجنوب – العالم الثالث، مما يضفي على المشروع قوة نظرية وثقافية، ويضعه في قلب الاهتمام الأكاديمي الحديث بالأدب العالمي والتحليل العابر للحدود.
ويعد الكتاب نموذجًا رائدًا في الدراسات الأدبية مقارنةً لإنتاجات دول الجنوب، وبشكل خاص بفضل إدماجه نصوصًا عربية وفارسية نادر تداولها في السياق الأكاديمي الغربي. هذا يمكّنه من تقديم نقد شامل لا يعتمد فقط على اختيارات من النصوص، بل أيضًا على فهم السياق الاجتماعي والسياسي بما في ذلك الثورة، والاستبداد، والحرب.
تحوّل السرد والمقاومة الثقافية
يوضّح موسوي كيف تطوّر الخطاب الأدبي من دعم عسكري إلى خطاب حِداد، ثم إلى نصوص انتقادية تصوّر الحرب كأداة قمع، وتكشف عن صمود المجتمع المدني. الأدب هنا ليس مرآة فحسب؛ بل أصبح سيفًا ثقافيًا مُسلطًا على السلطة وصناع القرار. ففي بداية الحرب، ارتفع الخطاب الرسمي في كلا البلدين دعماً لمجهود الحرب، مستفيدًا من ضغوط التعبئة الوطنية. وبعد سنوات الحرب، تحوّل هذا الخطاب إلى نصوص حزينة تمثل الآلام الجماعية، وتابعت طريقها متحوّلة إلى نصوص انتقادية تساءل ما حدث. تنتقل الكتابات الإبداعية إذن إلى ما وراء الخطاب الرسمي، وتكشف أن الحرب أداة سياسية تخضع للتحكم وتعيد إنتاج الصراع الداخلي.
ويوضح الكتاب أن مُجمل النصوص الأدبية التي يحللها لا تعتمد في انتقادها على فشل حرب عسكرية، ولكنها تتوجّه لتسليط الضوء على هزيمة إنسانية. وتُعالج النصوص تجارب العنف والقتل: الجرحى، والقتلى، والعائدون الذين يعيشون في صخب ذكرى الحرب والعنف.
ثم وفي لحظة بعينها، كما يوضح المؤلف، أدرك كُتاب النصوص الأدبية أن إنتاجهم قد أصبح جزءًا من مشروع إعادة تأسيس الذاكرة بعد الحرب. وقد تمثّل هذا في سرديات تعقّب الغيابات والفقد النفسي والجسدي، في تناول قضايا مثل فقدان الأحبة، والجرحى الذين لا تلتئم جراحهم، والأطفال الذين نشأوا بلا آباء. كتاب “غبار الحرب لم ينحسر” إذن لا يتناول الحرب من زاوية السياسة أو الاستراتيجية العسكرية، بل يهتم بزخمها الثقافي الذي استمر حتى بعد أن سكت السلاح. إنه كتاب عن كيف تُجرَّد الحرب إلى تجربة إنسانية يعيشها الكاتب والمثقف والمواطن. والخلاصة أن الكتاب يُجسّد دور الأدب في مواجهة السلطة الرسمية على الجبهة الثقافية، ويعكس تجربة حرب طويلة لا تزال تداعياتها حية في ذاكرة المجتمعات. وهو أيضًا يكسر حاجز اللغة والثقافة، ويُعرّف القارئ الغربي والعالمي بنصوص نادراً ما تُستدعى أو تُقدم خارج بلادها، ويقدّم قراءة مستقبلية في كيفية استخدام الأدب كأداة احتجاجية ومنصة للمقاومة.
اكتشاف المزيد من قراءات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.








































اريد المقال الخاص ب”العنصرة” اذا كان ممكن. شكرا
إعجابإعجاب