ديلان رايلي وروبرت بيرنير
ترجمة: محمد السادات
نُشر الأصل (بالإنجليزية) في نيو ليفت ريفيو
في الأسابيع التى تلت الانتخابات النصفية لعام 2022 في الولايات المتحدة، تأرجح بشدة مزاج المفكرين القابعين في ظل الحزب الديمقراطي من فرك متحمس للأيدي إلى تهنئة الذات بفرحٍ عارم. التحذيرات الخطيرة من “موجة حمراء” والتى أوصلت الجمهوريين إلى أغلبية كاسحة في البرلمان منحتهم بهجة الخلاص من الديمقراطية. في الواقع كانت النتائج مختلطة بلا ريب. أخذ الجمهوريون البيت بأغلبية ضيقة، بينما حافظ الديمقراطيون على تواجدهم المحدود في مجلس الشيوخ. اكتسح الجمهوريون فلوريدا وتقلصت أصواتهم إلى حفنة من المناطق في نيويورك. حظت الحقوق الإنجابية بليلة سعيدة نسبيًا، لكن واصل الديمقراطيون تعاملهم مع نسبة ضئيلة من البيض الذين لم يتلقوا تعليمًا جامعيًا- بحسب أحد الاستفتاءات، إذ فاز الجمهوريون بأكثر من 70 بالمائة من أصوات البيض الذين لم ينالوا تعليمًا جامعيًا.[i]
ظهرت العديد من التفسيرات لأداء الحزب الجمهوري، والذي كان أضعف من المتوقع، وذلك مع وجود رئيس لا يحظى بأية شعبية على الإطلاق ومعدلات تضخم عالية. من ضمن الفرضيات الرائجة فرضية قلة “كفاءة المرشح” بالنسبة للعديد من مؤيدي ترمب؛ فنقض المحكمة العليا لحق الإجهاض لدوبس ضد جاكسون يصدر هذا الصيف[ii]، وارتفعت المشاركة بين شباب المصوتين نسبيًا، بنسبة 27 بالمائة. كل تلك النقاط لها بعض المعقولية، لكنها تُفَوِت القضية الأكبر. خضعت السياسة الأمريكية لتحول تكتوني[iii] عبر العشرين سنة الماضية، المرتبط بتحول عميق في بنية نظام التراكم. لم تخضع تلك التحولات لتخطيطٍ كافٍ ولم يتم التنظير لها بعد؛ إلا أن نتائج الانتخابات النصفية غير المتوقعة كانت مناسبة جيدة للبدء في فعل ذلك.
إن ما نقدمه هنا ليس طرحًا نهائيًا لكنه مجموعة من سبع فرضيات تلغرافية محاطة بأدلة إمبريقية، بغرض إثارة نقاشات أكثر حول تلك الأسئلة النقدية. حتى نحقق ذلك، بدأنا بمخطط مختصر عن الظروف الحالية وتوضيح للمصطلحات.
1
كانت أحزاب الولايات المتحدة في أغلب القرن العشرين عبارة عن تمثيلات لتحالفات من الرأسماليين، الذين جذبوا الناخبين من الطبقة العاملة على أساس أنهم سيدعمون التنمية الاقتصادية، التي تؤدي إلى زيادة فرص العمل وتحقيق إيرادات لاستثمارها في المجال العام. كانت تلك هي “الأسس المادية للتصويت بنعم” والتى حسمت نجاح الحزب في الانتخابات: الرؤية المحلية للسياسات التى شكلت معظم ديمقراطيات الرأسماليين خلال الإزدهار الطويل بعد الحرب. في الولايات المتحدة، أنتج هذا بدوره تقلبات إنتخابية محددة وأغلبية برلمانية للجانب المنتصر: إيزنهاور في1956 وجونسون في 1964 وونيكسون في1972. اختفت تلك الساحة السياسية الآن. فبداية من التسعينيات وتحديدًا منذ 2000 يتبادل الجمهوريون والديمقراطيون الحكم بهامشٍ ضيق. لم يعد يشمل الفوز في الانتخابات جذب التحولات المركزية الشاسعة وإنما يرتكز على الحث على المشاركة وحشد الناخبين المنقسمين بعمق وإن كانوا متقاربين في انقساماتهم.
ترتبط تلك البنية الإنتخابية بصعود النظام الجديد من التراكم: لندعوها الرأسمالية السياسية. تحت حكم الرأسمالية السياسية، تعتبر القوة السياسية الخام هي المفتاح الحاسم لنسبة العائد وليس الاستثمار الانتاجي. اقترن هذا الشكل الجديد من التراكم بسلسلة ميكانيزمات جديدة من”الاحتيال الممثل سياسيًا”[iv]. يشمل ذلك سلسلة متصاعدة من الإعفاءات الضريبية، وخصخصة أصول القطاع العام بالأسعار الدنيا، والتسهيلات الكمية بالإضافة إلى انخفاض معدل الفائدة، لتعزيز المضاربات في سوق الأسهم-وبشكل أساسي، الإنفاق الحكومي الضخم لدعم التصنيع الخاص مباشرة، وتدفق آثار ذلك على الشريحة الأوسع من السكان: تشريعات الأدوية الموصوفة التي أصدرها بوش، وقانون الرعاية الصحية الميسرة الذي أصدره أوباما، وقانون الرعاية الذي أصدره ترامب، وخطة الإنقاذ الأمريكية التي أصدرها بايدن، وقانون البنية الأساسية والرقائق الإلكترونية، وقانون خفض التضخم[v]. كل تلك الميكانيزمات لانتزاع الفائض هي سياسية بشكل علني واضح. تسمح تلك الميكانيزمات بالعوائد غير المستندة على أسس الاستثمار في المصانع والمعدات والعمالة والمساهمة في إنتاج قيم الاستخدام، بل على أسس الاستثمار في السياسة[vi]. تلك البنية الجديدة هي الأساس الواقعي لاستنتاج بكيتي الرئيسي: أن معدل العائد في رأس المال الآن يفوق معدل النمو(على الرغم من أن بيكيتي نفسه، غير صحيح من منظورنا، إذ يعلل ذلك بأنه عودة إلى الرأسمالية الطبيعية بعد فترة إستثنائة من الإزدهار الطويل”.[vii]
أعاد صعود الرأسمالية السياسية تشكيل السياسات. فعلى مستوى النخبة ارتبطت بمستويات أعلى من الإنفاق على الحملات وفتح نطاق أوسع للفساد. أما على مستوى الجماهير، ارتبطت بإنهيار نظام الهيمنة السابق، ففي بيئة تتسم بالانخفاض المستمرللنمو أو انعدامه ــ “الركود المزمن” ــ لم يعد بوسع الأحزاب العمل على أساس برامج النمو. لذلك لا يتسطيعون أن يترأسوا “التسوية الطبقية” على النحو التقليدي. في تلك الظروف، أصبحت الأحزاب السياسية مؤسسات مالية بدلًا من كونها تحالفات إنتاجية. قبل الشروع في إفتراض كيفية عمل هذه التحالفات، علينا أولًا شرح المصطلحات التى نستخدمها للتحليل الطبقي.
2
الطبقات الاجتماعية من منظورنا هي مواقع بنيوية مرتبطة بعلاقات الإستغلال. إذ تنتزع الطبقة المهيمنة جهد العمل- ما نقول عنه”الاستغلال”- من الطبقات الخاضعة. فجهد العمل هو أساس سيطرة الطبقة الخاضعة على الفائض الاجتماعي، والذي يمنحها بدوره دورا قياديًا في تحديد دينامكية التطور الكلي للمجتمع عند الحاجة. ينبع اختلاف الطبقات من طرق متمايزة كيفيًا حيث تنتزع الطبقات المهيمنة جهد العمل من هؤلاء الذين تهيمن عليهم. على سبيل المثال، في ظل الرأسمالية، ينتزع ملاك وسائل الإنتاج عادة جهد العمل من العمال في عملية الإنتاج بعد شرائهم لقوة العمل-القدرة على العمل- في السوق. على النقيض من ذلك في ظل الإقطاع، لاينتزع الاقطاعيين جهد العمل عادة في عملية الانتاج الفعلية لكن بعد ذلك من خلال استخدام القوة أو التهديد بها. تنبع من هذه المواقف العامة العديد من النقاط.
أولًا، نرى الغرض من “التحليل الطبقي” هو تعريف عصب النظام الاجتماعي مع نظرة إلى إمكانية الارتقاء به. بناءً على تقديم المفكر الراحل اللامع إيريك أولين رايت فهي ليست نظرية “التقسيم الطبقي الاجتماعي” أو تصميم إجرائي يوفر الخرائط الاجتماعية “لفرص الحياة”. في الواقع، إن دراسات العلوم الاجتماعية السائدة تفوق التحليل الطبقي في التنظير لذلك. أعمال أولين رايت بمثابة إقرار ضمني على هذا، حيث يتضح في “خريطة الطبقات” التى وضعها طبقًا لمعايير الملكية، والسلطة والخبرات أنها غير متصلة بنظريته الماركسية الأساسية عن ماهية الطبقة:إنها مجموعة متشابكة من المواقع التى شكلتها علاقات الإستغلال[viii]. بالتالي، وخصوصًا في ظل الظرف الرأسمالي، من المحتمل تكَوُن فجوة من الاختلافات في “فرص الحياة”، في الدخل وأسلوب الحياة ضمن الطبقة العاملة. في الواقع، في سياق الأمور العادية، نتوقع أن تكون العلاقات الطبقية الحقيقية غير مرئية تقريبًا باعتبارها حقيقة يومية بالنسبة لمعظم الفاعلين الاجتماعيين، في معظم الأوقات.
ثانيًا، وعلى نحوٍ مماثل، نشير في استخدامنا تعبير “السياسات الطبقية” إلى تسييس العلاقات الرئيسية للإستغلال في بنية الطبقة في إطار المناقشة. في المجتمع الرأسمالي، يعني هذا تسييس أجر العمل\العلاقات الرأسمالية- وبالأخص، المحاولات لفرض السيطرة السياسية على كيفية استثمار الفائض الاجتماعي.السياسات الطبقية من هذا المنظور هى حدث استثنائي: في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة، تميل أغلب السياسات إلى أن تكون سياسات غير طبقية، كما أوضحنا في الفرضية السابقة. أخيرًا، إن نظريتنا هي حول بنية جديدة للإستغلال في إطار الظهور في العالم الرأسمالي المتقدم؛ وبناءً على ذلك، سنشهد ظهور بنية طبقية جديدة، مستبعدة من علاقات “إعادة التوزيع التصاعدي المصمم سياسيًا”. حاولنا، برغم كونها محاولات مختصرة وتلسكوبيَّة، تشخيص تلك العلاقات الطبقية الجديدة باستخدام مفاهيم التحالفات المالية ومكانة الجماعات. لإستيعاب خصوصيتهم علينا إستبدال اللحظة الراهنة بمنظور نظري وتاريخي ملائم.
3
الفرضية الأولى: منذ التسعينات، ظهرت سياسات غير طبقية جديدة لكنها شديدة المادية. أبدى المشهد السياسي الأمريكي لمدة طويلة جانب متناقض للغاية: بينما تستند بنية السياسة في كل مكان إلى الطبقة، إلا أن السياسة الأمريكية تتميز بافتقارها إلى “السياسات الطبقية”[ix]. يلبي الحزبين، في قمتهما، احتياجات فئات مختلفة من رأس المال ولكن تتجه قواعد الحزبين إلى فئات مختلفة من العمال. بالتالي، لم يكن أيًا من الحزب الجمهوري ولا الحزب الديمقراطي أبدًا، “حزب الطبقة العاملة”؛ من الأصح ترجمة الحزبين على أنهما حزبَي رأس المال. حتى الآن وعلى الرغم من هذا التوجه الأساسي، يسعى كليهما للمطالبة بالمصالح المادية لمَن “يملكون قوة عملهم فحسب”. نظرًا لأن هذا القطاع يشكل الأغلبية العظمى من السكان الأمريكين، فإن أي حزب ينافس في الانتخابات السياسية يجب عليه الاستجابة لبعض مصالح الطبقة العاملة. وبرغم الحديث عن سياسات الهوية و”قيم ما بعد المادية”، فالسياسات الأمريكية لديها قاعدة مادية جماهيرية واضحة. لكنها ليست سياسات طبقية لأنه بطبيعة الحال لا يسعى أي من الحزب الجمهوري ولا الحزب الديمقراطي لحشد العديد من العمال الذين صوتوا لهم ضد الرأسمالية؛ ولا يحاولان ممارسة سيطرة سياسية مؤثرة على رأس المال، خصوصًا في حقبة “الرأسمالية السياسية”. بالتالي لدينا في صيغتنا، سياسات للمصالح المادية بدون سياسات للطبقة العاملة.
ترسَّخ ذلك التفسير في فهم العلاقة بين سياسات الطبقة العاملة والبنية الطبقية وتشكيل الطبقة. نزعم أن البنية الطبقية داخل الرأسمالية تُقلِص من محددات السياسات الطبقية. ذلك التقلص، متأصل في بنية علاقات الإستغلال في ظل الرأسمالية،؛وشديد التأصل على الأخص في الأسباب التاريخية للولايات المتحدة، ومنهما سببان يستحقان التركيز عليهما: ظهور نظام عنصري للسيطرة على عمال الجنوب في سبعينيات القرن التاسع عشر (جيم كرو)؛ وهجرة الجماهير التى خلقت أسس “التقسيم العرقي”.
4
على المستوى التجريدي، يمكن للعمال الذين يلاحقون مصالحهم الاقتصادية في ظل الرأسمالية الاختيار بين استراتجيتين: الفردانية والتحالف الطبقي، أو الفعل الجماعي على أساس الطبقة[x]. من خلال الاستراتيجية الأولى، في بعض الأحيان الأشد اعتيادًا، يلاحق العمال مصالحهم كمُلاك “سلعة خاصة”، وهي قوة العمل. قد يحتمل هذا أشكالًا عدة: لكن بشكل أساسي، تتركز المصالح المادية لكل العمال خارج الطبقة في تحسين الأجور وفرص العمل داخل نظام الملكية الخاصة. هذه ليست “سياسة الطبقة” للطبقة العاملة لأنه في تلك السياسات لا يمارس العمال كونهم طبقة ولا يتصورون أنفسهم على أنهم كذلك. يدعم أحد أقطاب هذه السياسة غير الطبقية المساومة الجمعية؛ بينما يدعم القطب الأخر، معاداة المهاجرين والسياسات العرقية. في الولايات المتحدة المعاصرة، وبذخيرتها الضخمة من العمال ذوي التعليم العالي نسبيًا، يشكل الاعتماد على المؤهلات والدفاع عن قيمة المؤهلات استراتيجية غير طبقية شائعة. تميل الفئات المتنوعة من الطبقة العاملة المنظِمة لحماية قيمة العمل إلى التكتل كما اصطلح فيبر “جماعات المكانة”، وينشرون الوسائل الإيديولوجية-السياسية لإدارة المنافسة. تميل هذه الصيغة من السياسات إلى تفرقة وعزل العمال عن بعضهم.
البديل هو “سياسة الطبقة” للطبقة العاملة. يربط العمال الذين يسعون إلى استراتيجية طبقية مطالب إعادة التوزيع بمحاولات أوسع لبسط سيطرتهم السياسية على الفائض الاجتماعي الذي ينتجه العمال ويمتلكه رأس المال. بل أنهم يتصورون أنفسهم كأعضاء في طبقة من مجتمع مقسم حسب الطبقات. إن السعي إلى سياسة الطبقة العاملة محفوف بالمخاطر للعمال المستقلين دومًا، إذ أنها تتطلب مجموعة كبيرة تستطيع التفاعل بشكل تضامني. من المغري دومًا، ومن العقلانية العالية غالبًا للأفراد أن ينسحبوا من الاستراتيجية الطبقية ويختاروا نهج مجموعة المكانة، في ظل الإغراء بزيادة العائد من بيع وحدة قوة عملهم. بينما الميكانيزم الوحيد الذى يمكنه جمع العمال كـ “طبقة” تبيع قوة عملها، وليس “كيس من البطاطس” ، هو النضال الطبقي. بالتالي، لا تقتصر دلالة النضال الطبقي في السياق بين العمل ورأس المال، إنما بمركزيتها في النضال لتغيير مُلاك قوة العمل المفتتين والمعزولين بطبيعتهم إلى عامل جمعي، لاختراق الدرع الصلبة للصيغة السِلَعية وتحريك الطبقة العاملة كفاعل تاريخي. كما قالت روزا لوكسمبورج، في تلخيصها دروس الثورة الروسية 1905:”تحتاج البروليتاريا إلى درجة عالية من التعليم السياسي، عن الوعي الطبقي والتنظيم. كل تلك الشروط لا تتحقق بالكتيبات والمنشورات، بل من خلال مدرسة الحياة السياسية فقط، بالقتال والقتال في مسار الثورة المستمرة”[xi]. باختصار، تتشكل سياسة الطبقة العاملة في سياق النضال الطبقي.
من هذا المنطلق، أصبحت سياسة الطبقة العاملة حدثًا نادرًا جدًا في تاريخ الولايات المتحدة؛ إذ تحققت خلال فترتين قصيرتين فحسب من القرن العشرين. الأولى، والتى امتدت من 1934 إلى 1937، حيث شهدت مرور قانون فاجنر في 1935[xii] (ألغى في 1948). الثانية، والتى امتدت من منتصف الستينيات إلى مطلع السبعينيات، جالبة معها قانون الحق في التصويت والبرامج المجتمعية الكبرى. إلا أن موجات سياسة الطبقة هذه ما لبست إلا أن تلاشت سريعًا. لقد تمكنت الشرائح السياسية الإصلاحية التي أنشأوها من تحقيق بعض المكاسب المادية للناس العاديين، لكن فقط في ظل الظروف الاقتصادية المناسبة لإزدهار ما بعد الحرب الطويل. حينما تلاشت تلك الظروف، أفسحت المجال للركود الطويل، فلم يستطع قادة النقابات البيروقراطيين والساسة الديمقراطيين إلا فرض التنازلات على قاعدتهم الجماهيرية.
5
هنالك تصاعد في النضال الطبقي منذ عام 2010، لكن استمر أعضاء الطبقة العاملة في السعي وراء مصالحهم بوتيرة كاسحة كمُلاك لقوة عملهم، عوضًا عن تحركهم كطبقة. ولا نقصد هنا القول أن شيئًا لم يتغير. فالآن، توجد مجموعة متنوعة من القواعد التي يمكن من خلالها ممارسة سياسات التحالف الطبقي أو سياسات مجموعات المكانة[xiii].حتى الثمانينات، أمكن وصف هذه السياسات على نطاق واسع بأنها سياسات إصلاحية، أو “ديمقراطية اجتماعية”. مثل كل السياسات الديمقراطية الاجتماعية القائمة على احتمالات النمو الاقتصادي. لكن لا تتعلق سياسة الفترة الراهنة حتى بأمل النمو. إنها سياسات إعادة توزيع محصلتها صفرية، خاصة بين مجموعتين مختلفتين من العمال. إنها تختلف عن السياسات الديمقراطية الاجتماعية ، لا لأنها ليست سياسة الطبقة،لكن لأنها ليست سياسة نمو، والأمر نفسه ينطبق على الديمقراطية الاجتماعية. بالتالي ما عاد الحزبين الرئيسيين في الولايات المتحدة يظهران على أنهما نماذج نمو بديلة، إنما تحالفين ماليين مختلفين: سياسة لنجعل أمريكا عظيمة مجددا (MAGA politics). التى تسعى إلى إعادة توزيع الدخل بإقصائها للعمال غير البيض والعمال المهاجرين، والنيوليبرالية المتعددة ثقافيًا، التى تسعى إلى إعادة توزيع الدخل على ذوي التعليم العالي[xiv]. تميل كلتيهما إلى تفتيت وتفرقة الطبقة العاملة.
6
بوضع هذا الإطار المفاهيمي في الحسبان، سنعرض بعض الشواهد الأساسية على شخصية الطبقة العاملة الأمريكية. كتقريب أولي، يمكن وضع إطار مفاهيمي للطبقة العاملة من حيث علاقاتها بالأصول الرئيسية للمجتمع. فالعمال هم كل مَن لا يتمتعون بدخل من الإيجارات أو أرباح الأسهم أو الفوائد. كما يبين الجدول الأول، لا تمتلك 21 بالمائة من الأسر أصولًا (عدا إمتلاك منازلهم)، مما يترك تقريبًا 79 بالمائة من الأسر عاجزين عن الوصول لمثل تلك الأشكال من الدخل. ربما يُعتقد بذلك أنها مبالغة في تقدير حجم الطبقة العاملة، إذ ربما توجد مجموعة كبيرة من العمالة الحرة ممن لا يمتلكون أصول أو مصدر دخل يتمثل في الأجور. لكن كما يبين الجدول الثاني، تجني 11 بالمائة فقط من الأسر دخلًا من عملها الحر، والعديد منهم بلا شك هم عمالة مأجورة من الباطن. بجمع الدليلين معًا، يمكننا تحديد الحد الأدني للنطاق الكمي للطبقة العاملة. حتى بافتراض أن كل الأسر ذوات الدخل من العمالة الحرة هم ملاك وسائل انتاجهم الرئيسية ولا يعتمدون على الأجور، سيكون 69 بالمائة من سكان الولايات المتحدة هم طبقة عاملة. وبناءً على ذلك، عند هذا المستوى من التعميم، يظل ادعاء ماركس بأن الطبقة العاملة في القرن التاسع عشر أسست “الأغلبية العظمي” من المجتمع الرأسمالي صحيحًا.[xv]
جدول 1: الأسر التي لديها فوائد أو أرباح أو دخل إيجاري صافٍ
| لديها فوائد أو أرباح أو دخل إيجاري صافٍ | 25218729 | 20.6% |
| ليس لديها فوائد أو أرباح أو دخل إيجاري صافٍ | 97135490 | 79.4% |
| الأسر | 122354219 | 100.0% |
جدول 2: الأسر ذات دخل من العمل الحر
| أسر ذات دخل من العمل الحر | 13437280 | 11% |
| أسر ليس لديها دخل من العمل الحر | 108916939 | 89% |
| الأسر | 122354219 | 100% |
المصدر: المستكشف الاجتماعي: مكتب الإحصاء الأمريكي
7
إلا أنه سيكون من قمة الغباء العقائدي عدم الاعتراف بالانقسامات العميقة داخل الطبقة العاملة-الانقسامات التي لم تُمَثَل بشكل كاف أبدًا في التقاليد الماركسية. المشكلة التى يمكن الإشارة إليها هنا ببعض العلامات الإمبريقية القليلة، تشير إلى التعليم، وقطاعات سوق العمل والعرق. لنبدأ بظاهرة التعليم: من الشائع في الولايات المتحدة اليوم مساواة “غير الحاصلين على تعليم جامعي” بالطبقة العاملة. من أرضية نظرية هذا الخلط إشكالي جدًا لأن “التعليم” ليس مصدرًا مماثلًا لملكية الأصول. فالشهادة المعلقة على الحائط من أي مؤسسة مرموقة، لا تُدِر دخلًا. من منظورنا، فإن أي تنازلات لمفاهيم «رأس المال الثقافي» أو «رأس المال البشري» أو «الطبقة المهنية والإدارية» هي في النهاية استسلام لواحدة من أقدم الأيديولوجيات في المجتمع البرجوازي: فكرة أن تلك المجتمعات تتكون على الأغلب من ملاك مستقلين يبيعون سلعهم في السوق. فحتى العمال ذوي المستوى العالي من التعليم، في حال افتقارهم أو افتقارهن للأصول فلابد من دخولهم أو دخولهن علاقة عمل مأجور- والخضوع لسلطة رأس المال لتأمين سُبل العيش.
ذلك لا يعني أن التعليم غير مهم اقتصاديًا؛ بل على العكس، يرتبط التعليم بوضوح في الولايات المتحدة بالأجور العالية[xvi]. لا يخبرنا توزيع السكان لدرجات أعلى بحسب إمتلاكهم أو عدم إمتلاكهم شيئًا هامًا عن الطبقة العاملة كلها ، بل عن قطاع كبير منها. مع الأخذ بذلك في الاعتبار: فما هي النسبة المئوية من سكان الولايات المتحدة التى تنتفع بالانتماء لتلك الدرجة الأعلى؟ كما يوضح الجدول الثالث أدناه، ثلث سكان الولايات المتحدة ممن من أعمارهم فوق الخامسة والعشرين لديهم شهادة البكالوريوس، وحوالي 38 بالمائة أتموا المدرسة الثانوية أو ما يعادلها. يترك ذلك نسبة 29 بالمائة قد حظوا بـ “بعض الدراسة الجامعية”، على الأغلب “درجة الزمالة” في المهارات المهنية، كالتمريض. تتقلص تلك النسب في المستوىات العليا من نظام التعليم العالي . فهنالك 9 بالمائة فقط لديهم درجة الماجستير و2 بالمئة تقريبًا إما لديهم “شهادة من المدارس المهنية” كشهادة الطب المطلوبة لمزاولة المهنة أو”الدكتوراة”، مثل درجة الدكتوراة. ويجدُر التأكيد على أن أغلبية سكان الولايات المتحدة يواجهون سوق العمل كعمالة غير ماهرة بالأساس.
جدول 3: التحصيل التعليمي للسكان 25 عاما فأكثر
| لم يحصل على الثانوية | 25562680 | 11.5% |
| تخرج من الثانوية ( أو ما يعادلها) | 59421419 | 26.7% |
| بعض التعليم الجامعي | 64496416 | 28.9% |
| البكالورويوس | 45034610 | 20.2% |
| الماجستير | 20210271 | 9.1% |
| المدرسة المهنية | 4863846 | 2.2% |
| الدكتوراة | 3247592 | 1.5% |
| السكان 25 عامًا فأكثر | 222836834 | 100% |
المصدر: المستكشف الاجتماعي: مكتب الإحصاء الأمريكي
جدول 4: المجال المهني للسكان المدنيين ممن أعمارهم أكبر من 16 عامًا
| الزراعة والتحطيب وصيد الأسماك والصيد والتعدين | 2658413 | 1.7% |
| التشييد والبناء | 10416196 | 6.7% |
| التصنيع | 15617461 | 10.0% |
| تجارة الجملة | 3971773 | 2.6% |
| التجارة بالتجزئة | 17195083 | 11.0% |
| المواصلات والمخازن والخدمات | 8576862 | 5.5% |
| المعلومات | 3066743 | 2.0% |
| المال والتأمينات والعقارات: الإيجار والتأجير | 10319201 | 6.6% |
| المهنية والعلمية والإدارة؛ الإدارية؛ خدمات إدارة النفايات | 18312454 | 11.8% |
| الخدمات التعليمية والرعاية الصحية والرعاية الاجتماعية | 36315080 | 23.3% |
| الفنون والترفيه والاستجمام: خدمات الإقامة والطعام | 14651909 | 9.4% |
| الخدمات الأخرى ما عدا الإدارة العامة | 7516616 | 4.8% |
| الإدارة العامة | 7271189 | 4.7% |
| مجموع الموظفين من السكان من 16 عام فأكثر | 155888980 | 100.0% |
المصدر: المستكشف الاجتماعي: مكتب الإحصاء الأمريكي
الطبقة العاملة أيضًا غير متجانسة من حيث تكوينها القطاعي. يشكل العمال الصناعيون “الطبقة العاملة التاريخية” أقلية متمايزة: بينما يمثل العاملون في “الزراعة، التحطيب، صيد الأسماك، الصيد والتعدين” و”التشيد والبناء” و”التصنيع” و”المواصلات والمخازن والخدمات” مجتمعين ما يقارب 24 بالمائة من السكان الموظفين، في حين تشكل الفئة الوحيدة من “خدمات التعليم والرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية” ما يفوق 23 بالمائة. من المحتمل أن يمتلك العاملين في تلك المجالات نوعا ما من أوراق الاعتماد.[u1]
إن الطبقة العاملة الأمريكية منقسمة بشدة أيضًا بسبب “العِرق”. يُعرف حوالي 70 بالمائة من السكان على أنهم “بيض” وحوالي 13 بالمائة على أنهم “سود”، لكن الاختلافات الاقليمية واسعة؛ على سبيل المثال، يُعرَف 56 بالمائة من سكان كاليفورنيا بأنهم “بيض” و6 بالمائة على أنهم “سود”. أضف إلى ذلك، فئة “اللاتينين” أو “ذوي الأصول الإسبانية” والتي تتقاطع مع فئة “البيض”. يتم تعريف 10 بالمائة من السكان البيض على الصعيد الوطني بأنهم “ذوي أصول إسبانية” أو “لاتينين”، ما يعني أن فئة “البيض من غير ذوي أصول إسبانية ” يشكلون حوالي 60 بالمائة من سكان الولايات المتحدة، وحوالي 40 بالمائة في الولايات التى تستقبل هجرات ضخمة مثل كاليفورنيا وتكساس وفلوريدا. من المعروف أن هذه الهويات تشكل أرضية خصبة لسياسات اللا طبقة أو مجموعة المكانة.
كيف يمكن تلخيص هذا التركيب الأساسي؟ تعرف الطبقة العاملة على أنهم من لا يملكون أصول ويجب أن يعيشوا على العمل المأجور، ما يشكل بين 68 بالمائة و80 بالمائة من كل أسر الولايات المتحدة. لكن هذه الطبقة منقسمة بعمق بسبب مستويات التعليم، وقطاع النشاط الاقتصادي، والعرق. تلك التقسيمات متجذرة في منطق التكوين الشامل حيث يصبح ملاك رأس المال معفيين تماما من أي محاولة ذات معنى لإعادة التوزيع. يسمح لنا هذا التصور بالجمع بين التعليم والعرق في إطار مفاهيمي واحد. إذ يمكن التفكير في “الأوراق الاعتمادية ” و”العرق” على أنهما أشكال من الانغلاق الاجتماعي التى تظهر في الطبقة العاملة الأمريكية المنظمة في المقام الأول من حيث إعادة التوزيع الداخلي. لتوضيح النقطة بإيجاز قدر الإمكان، ينبغي اعتبار “بياض البشرة” أو “المواطنة بموجب الميلاد” على أنها بكالوريوس غير المتعلمين جامعيًا، وينبغي اعتبار حمل درجة البكالوريوس على أنه “بياض بشرة” أو “المواطنة بموجب الميلاد” للمتعلمين جامعيًا.
8
الفرضية الثانية. البايدينية تقدم الكينزية دون النمو. البايدينية ظاهرة خاصة. ومن أجل تشخيصها بدقة علينا أولًا الاعتراف بحجم طموح أجندة الإدارة. فقد استند مشروع قانون Build Back Better الذي أقره مجلس النواب الذي يسيطر عليه الديمقراطيون في سبتمبر 2021، مثل سابقيه، على السخاء الموزع بالوسائل السياسية على رأس المال ؛ عند 2.2 تريليون دولار، فإنه لا ينافس قانون الرعاية في الحجم فحسب، بل كان سيدخل تحركات جديدة، وإن كانت محدودة، على نظام التأمين الصحي الشامل، والإجازة العائلية المدفوعة، ورعاية الأطفال المدعومة والتعليم في مرحلة الطفولة المبكرة. فسلفها المنكمش المتمثل في قانون خفض التضخم (IRA) الذى اعتُمِد وأصبح قانونًا في أغسطس 2022، يوفر 738 مليار دولار في عشر سنوات، من خلال مزيج مالي من التخفيضات الضريبية بمقدار الثلثين، ثلثها سيذهب للنفقات المباشرة، لتشجيع الرأسمالية الخضراء- شركات الطاقة الشمسية و النووية، والأعمال التجارية الزراعية، وكفاءة الطاقة المنزلية، والسيارات الكهربائية- خفض سعر الأدوية وتمديد الدعم الحالي لقانون الرعاية الميسرة (64 مليار دولار، على مدى ثلاث سنوات).
إلا أن الأجندة الجديدة لها سِمَتين أساسيتين ، الأولى تتعلق بشروط تحققها. على الرغم من أن النسخة الأمريكية من دولة الرفاه الكينزية لم تكن أبدًا نتيجة التحقق المباشر لسياسة الطبقة- كانت لها علاقة على الأقل بالتعبئة في زمن الحرب- تاريخيًا، إلا أنها بنيت على تشدد سابق لموجة الطبقة العاملة. على النقيض من ذلك، فإن السياسة التوسعية لما بعد عام 2020 ليس لها مثل هذا الأساس ؛ فهي بشكل كبير عبارة عن إستجابة طارئة لوباء كوفيد وربما أيضًا استجابة للمنافسة مع الصين، فالتتابعية بين البايدينية والترامبية تقع هنا تحديدًا[xvii]. الثانية هي البيئة الاقتصادية التى تعمل فيها الأجندة. اعتمدت كل دول الرفاه الكينزية الأخرى على الازدهار الاقتصادي؛ بينما البايدينية على النقيض من ذلك، هي برنامج من الإنفاق المستدين بلا نمو. نجد أدلة بسيطة في عوائد الربح من التصنيع الأمريكي.
9
إذًا كيف لنا أن نفهم هذا المخلوق العجيب؟ ربما يكون سردًا بسيطًا عن كيف احتل بايدن موقعه الحالي ذو إفادة هنا. كانت حملة هيلاري كلينتون الرئاسية في 2016 شديدة الإلتزام بالنيوليبرالية كحال الإدارات الثلاث السابقة- حيث ناشدت من بين دوائرها الإنتخابية الطبيعية للحزب الديمقراطي الجزء المعتمد من الطبقة العاملة من حيث الخبرة والتنوع، لكنها لم تقترح أي شئ تقريبًا فيما يتعلق بالنموا لاقتصادي. لو فازت كلينتون، لأصبحت التجسيد الأمثل لهيمنة النيوليبرالية متعددة الثقافات.
أغلق فوز ترامب المفاجئ هذا المسار. تفاقم هذا الانفصال الانتخابي مع النيوليبرالية متعددة الثقافات بسبب الوباء. وبرغم مقاومة ترامب نفسه الاستجابات الواضحة والعقلانية لأزمة وباء كوفيد 19 حتى أخر لحظة، إلا أن إدارته فتحت الطريق أمام شكل جديد من السياسات نظرًا لضرورة التصدي للوباء. تدخلت الدولة الفيدرالية بشكل كبير للحفاظ على حياة العديد من الأمريكيين من الطبقة العاملة العادية-وكان هذا مخالفًا لما أراده ترامب وحلفاؤه. أدى هذا إلى وضع غريب، حيث أساء ترامب إلى سمعة السياسات التي اتبعتها إدارته، وخاصة فيما يتعلق بالأقنعة وتطعيمات الجماهير.
قُرأت تلك التناقضات بشكل خاطئ على أنها سقطات شخصية. في الواقع، إن عشوائية ترامب مركزة وتجسد الظروف التاريخية المتناقضة التي قادت الجمهوريين شئنا أم أبينا إلى أن يصبحوا أول حزب أمريكي يتخذ خطوات نحو دخل أساسي مضمون. كان تشويه ترامب المستمر لنفسه، وصياغته السخيفة حول المنظفات كترياق لكوفيد-19 وما إلى ذلك، محاولة لتجنب الاعتراف بأن السياسات التي فرضها عليه الوباء كانت مناسبة وفعالة. من المشروع لإدارته أن تنسب لنفسها بعض الفضل في التطوير السريع والاستثنائي للقاحات الفعالة- لكن كما أكتشف ترامب نفسه، أن ذلك يمكنه جديًا عزل قاعدة ماجا (MAGA)[xviii].
انتصر بايدن على أنقاض مشروع كلينتون، بعدما دبرت قيادات الحزب الديمقراطي من خلف الكواليس هزيمة بيرني ساندرز. فالبايدينيه هي أيضًا، على الرغم من ذلك، وبشكل جوهري ظاهرة ما بعد ترامبية تحديدًا. فمن أجل الفوز في 2020، كان على بايدن الاستفادة من التناقضات التاريخية التى تجسدت بايولوجيًا، إذا جاز التعبير، في لا عقلانية ترامب. في البداية كانت الرياح في ظهر بايدن، لأنه بدا أفضل قائد سياسي متاح في المعركة ضد كوفيد. أدى هذا في حد ذاته إلى انفصال عن سياسات كلينتون متعددة الثقافات والنيوليبرالية، على الرغم من أن بايدن كان من أقوى أنصار النيوليبرالية في ولاية ديلاويرمنذ تسعينيات القرن العشرين. وكما توضح أجندته المحلية، جاء بايدن ليجسد بإيجاز وبشكل عرضي شيئًا يشبه اتفاق جديد. كانت استجابة ترامب-بايدن لركود كوفيد بين مارس 2020 ومارس 2021 أكثر من 5 تريليون دولار، أي خمسة أضعاف التحفيز المالي لعام 2008، وما يقرب من ربع الناتج المحلي الإجمالي. والأمر الحاسم هنا هو أن 1.8 تريليون دولار من هذا المبلغ ذهبت مباشرة إلى الأفراد والأسر من خلال شيكات التحفيز وإعانات البطالة، وزاد المبلغ بمقدار 600 دولار أسبوعيا بين مارس ويوليو 2020، مع جولة أخرى من الشيكات بقيمة 2000 دولار تم صرفها في يناير 2021. وإلى هذا، أضاف التشريع اللاحق لبايدن في الفترة 2021-2022 ــ قانون البنية التحتية، والرقائق، وحساب التقاعد الفردي ــ 2 تريليون دولار أخرى.
إذًا وبطريقة غريبة، مَثّل كوفيد المكافئ الوظيفي لإحدى سياسات الطبقة التى ساعدت على إنتاج صفقة جديدة وحزمة من سياسات المجتمع العظيم. لكن خصائص تكوين تلك الأجندة تم تحديد قيودها أيضًا. فعلى الرغم من أن إدارة بايدن- التى حرصت على تملُق الساندريين المؤيدين والتعاون معهم -ولاسيما ساندرز نفسه، وطرحت سياسات عمالية موضوعيًا، حيث تم كل ذلك بصوت خافت، ضمن القيود الموضوعه لمنع أي محاولة لإعادة توزيع الأرباح. كما تحدد مصير تجربة بايدن بواسطة الظروف الاقتصادية السائدة. ساهم السعي وراء برنامج مالي شبه جديد بدون النمو الرأسمالي المطلوب بشكل متوقع في ارتفاع التضخم، الذي أججته بالفعل تحولات الطلب في حقبة الوباء واضطرابات سلسلة التوريد، تليها ارتفاعات أسعار الغذاء والوقود في حرب أوكرانيا. في المقابل، أفقدت أزمة تكلفة المعيشة بايدن مصداقيته محليًا. وهكذا، تبدو المفارقة البايدينية على أنها حزمة السياسات العمالية التي أدت إلى فقدان شعبية كبير، ما ظهر في تقييمات منتصف المدة بالرفض المساوي لتقييمات ترامب[xix].
10
الفرضية الثالثة. إن فرضية “الانفصال الطبقي” تشكل إطاراً غير ملائم لفهم السياسة الأميركية المعاصرة. ووفقاً لهذا النهج، الذي يمثله مات كارب، وهو من أكثر ممثلي اليسار تطوراً وخبرة، فإن السياسة الأميركية كانت في وقت من الأوقات سياسة طبقية، ولكنها الآن منظمة وفقاً للهوية[xx] ويدعم تحليل “الانفصال الطبقي” سياسة تسعى إلى إعادة استقطاب السكان بناءً على الطبقات، وهو ما كان يشكل، وفقاً لهذا التفكير، الأساس للتوجهات الإصلاحية في مظاهرها المتمثلة في الصفقة الجديدة والمجتمع العظيم. وهذا الموقف يبالغ في التأكيد على الطابع الطبقي للسياسة الأميركية قبل انهيار ائتلاف الصفقة الجديدة ويقلل من التأكيد على أساسها المادي القوي ولكن الواضح تماماً أنه غير طبقي في الفترة الحالية.
ولنكرر: إن السياسات الإصلاحية أو سياسات دولة الرفاهة في الولايات المتحدة (وفي أماكن أخرى) لم تكن قط نتيجة مباشرة لتمرد الطبقة. كانت التعبئة في زمن الحرب على نفس القدر من الأهمية، حيث لم ترفع الولايات المتحدة من الكساد الأعظم فحسب، بل أنتجت أيضًا العديد من أكثر سياسات العصر طموحًا: بناء نظام مستشفى المحاربين القدامى، على سبيل المثال، أو قانون جي آي. وعلاوة على ذلك، لم يجد استمرار “دولة الرفاهة” الأمريكية الضئيلة نسبيًا أساسه الرئيسي للدعم في الطبقة العاملة بقدر ما وجده في طبقة المسؤولين الإصلاحيين الذين نشأوا من نوبات السياسة الطبقية النادرة والقصيرة المذكورة أعلاه. كان المشروع السياسي لهذه المجموعة من مسؤولي النقابات ونشطاء الحزب الديمقراطي في منتصف القرن موجهًا نحو ضمان استمرار ربحية الرأسمالية الأمريكية، لأنهم رأوا الربحية بحق حجر الزاوية لاستمرارهم. لذلك، سعت هذه الطبقة باستمرار إلى فرض حلول فردية وتعاونية على العمال، واعتبرت تعبئتهم المستقلة تهديدًا. ومع تحول الطفرة الطويلة إلى ركود طويل، لم تقدم سوى التقشف للعمال الذين كانت تمثلهم ظاهرياً. وعلى هذا فليس هناك أساس لخلط دولة الرفاهة الكينزية في الولايات المتحدة بالسياسة الطبقية.
وثانياً، لا يقدم مفهوم الإنفصال الطبقي وصفاً إيجابياً للأساس الذي تقوم عليه السياسة الأميركية اليوم. ففي حين يلتقط هذا المفهوم الحقيقة المهمة المتمثلة في استمرار نضال الديمقراطيين لجذب العمال البيض ــ وعلى نحو متزايد العمال غير البيض ــ من دون شهادة جامعية، فإنه يفشل في تفسير كيف يتم إعادة تعبئة العمال البيض بوصفهم عمالاً بيض ، أو العمال الأصليين بوصفهم عمالاً أصليين، في الائتلاف الجمهوري. كما لا يفسر هذا المفهوم الحقيقة المحيرة بنفس القدر المتمثلة في إعادة تعبئة المتعلمين تعليماً عالياً في الائتلاف الديمقراطي[xxi]. ولعل الأمر الأكثر لفتاً للانتباه في السياسة الأميركية اليوم هو أن الحزب الجمهوري بذل جهداً متضافراً وناجحاً للغاية لمغازلة الشريحة الأقل تعليماً من الطبقة العاملة؛ والواقع أن الحظوظ السياسية للحزب الجمهوري ترتبط بشكل متزايد بهذه الفئة[xxii]. ولكن وصف هذه التحولات التكتونية بأنها متجذرة في “الهوية” أمر مضلل، أو على الأقل متحيز للغاية.
الآن، الأدلة هنا ساحقة. تشير الجداول 5 و6 و7 إلى طبيعة ومدى المشكلة التي يواجهها الديمقراطيون. في الاقتراع العام للكونجرس، يميل حاملو شهادة البكالوريوس إلى الديمقراطيين بنحو 14 نقطة. يمثل غير حاملي شهادة البكالوريوس صورة طبق الأصل من هذا، حيث يميلون إلى الجمهوريين بنحو 15 نقطة. والانقسام نفسه بين حاملي شهادة البكالوريوس البيض ، لكن حاملي شهادة البكالوريوس البيض يشيرون إلى تفضيل للمرشح الجمهوري بهامش 32 نقطة. تظهر صورة مماثلة من حيث معدلات الموافقة على بايدن وترامب. إن تأييد بايدن منخفض تمامًا بين الناخبين الذين لا يحملون شهادة جامعية: لا يؤيده ثلثا غير حاملي شهادة البكالوريوس، الرقم الذي يرتفع إلى ما يقرب من ثلاثة أرباع البيض غير حاملي شهادة البكالوريوس. في المقابل، تتراوح نسبة مؤيديه بين حاملي شهادة البكالوريوس إلى ما يقارب 50 بالمائة. الأنماط بالنسبة لترامب هي عكس ذلك. بين حاملي شهادة البكالوريوس، تنخفض معدلات تأييد ترامب بفارق 28 نقطة، بينما يتميز بين غير حاملي شهادة البكالورويوس بفارق طفيف . النمط مشابه لحاملي البكالوريوس البيض، حيث يتراجع بـ 25 نقطة. بين غير حاملي شهادة البكالوريوس البيض، يتمتع ترامب بهامش إيجابي يبلغ 14 نقطة.
جدول 5: تفضيلات التصويت للمرشحين
| بكالوريوس | دون بكالوريوس | أبيض حاصل على بكالوريوس | أبيض دون بكالوريوس | |
| المرشح الديمقراطي | 55% | 39% | 52% | 31% |
| المرشح الجمهوري | 41% | 54% | 45% | 63% |
| لا يعلم | 4% | 7% | 6% |
المصدر: استطلاع نيويورك تايمز سيينا
جدول 6: الموافقة على جو بايدن كرئيس
| بكالوريوس | دون بكالوريوس | أبيض حاصل على بكالوريوس | أبيض دون بكالوريوس | ||
| موافق | 49% | 31% | 47% | 24% | |
| غير موافق | 47% | 66% | 48% | 74% | |
| لا يعلم | 4% | 3% | 5% | 1% |
جدول 7: الرأي في دونالد ترامب
| بكالوريوس | دون بكالوريوس | أبيض حاصل على بالكوريوس | أبيض دون بكالوريوس | |
| مفضل | 35% | 49% | 37% | 56% |
| غير مفضل | 63% | 45% | 62% | 42% |
| لا يعلم | 3% | 6% | 1% | 3% |
أفضل فهم لهذا التحول من العمال البيض غير الحاصلين على شهادات جامعية إلى الحزب الجمهوري ليس على أنه عملية انفصال طبقي، وإنما على أنه نتيجة لمحاولة الجمهوري الناجحة لمناشدة مصالح جزء معين من الطبقة العاملة بعبارات أصلية وعنصرية[xxiii]. النقطة الجوهرية هي أن انتقال هذا الجزء إلى الجمهوريين لا يجب تفسيره من حيث المواقف أو التحيزات وإنما يجب رؤية تلك المواقف كنتيجة موضوعية لوضع هذه الطبقة الممزقة. فتنظيم العمال البيض على أنهم بيض، أو عمال أصليي المنشأ هو من نواح عدة إستراتيجية عقلانية لهؤلاء العمال الذين حصلوا على فرصة لتشكيل أنفسهم كذلك، في سياق حيث هوية الطبقة لا مجال لها. من خلال إبعاد المهاجرين، وتقييد غير البيض، تسعى الطبقة العاملة البيضاء، أو الطبقة العاملة أ أصلية المنشأ، إلى زيادة قيمة وجاذبية قوتها العمالية. وهذا لا يعني ضمنًا استناد هذه الاستراتيجية إلى تحليل دقيق، أو ترجيح نجاحها. النقطة المهمة هي ببساطة أن التفضيلات السياسية للمتعلمين غير الجامعيين يمكن فهمها بشكل عملي دون الحاجة إلى أن تنسب إلى هذه المجموعة تعصبًا لا تتسم به.
يجب تطبيق المنطق نفسه على العمال ذوي التعليم العالي نسبيًا الذين يصوتون للديمقراطيين. اتخذ قلة قليلة جدًا من المحللين هذه الخطوة. إنهم يميلون بالفعل لطرحٍ، غير معقول، يفيد بأن المتعلمين جامعيًا مدفوعون “بالقيم” عوضًا عن المصالح الاقتصادية. لكن جوهر “القيم” التى يتبناها المتعلمون هو مصالح مادية تتلائم تمامًا مع مصالحهم المادية، والتى تكمن في تقييم الخبرات الفنية. ربما يكون هذا أكثر وضوحًا في اعتناقهم العلم كقيمة إيديولوجية. ورغم أن هذه الأيديولوجية التكنوقراطية الجديدة أقل رجعية بشكل واضح من نظيرتها التي تنادي بالملكية، فإنها تؤدي وظيفة اجتماعية مماثلة في صياغة استراتيجية لزيادة قيمة نوع معين من قوة العمل ــ المؤهلين، وليس البيض ــ المنتشرة على نطاق واسع في التحالف الديمقراطي. وهي بالطبع ليست مجرد مظهر من مظاهر سياسات الطبقة العاملة مثل نظيرتها الجمهورية. وباعتبارها منظمات جماهيرية، فإن الحزبين راسخَين في أجزاء مختلفة من الطبقة العاملة: الجمهوريون في الجزء الأقل تعليماً، والديمقراطيون بين المؤهلين. وفي كلتا الحالتين، يتم تأطير نداءاتهما في مصطلحات تصور العمال باعتبارهم مالكين صغار لقوة العمل. ويميل هذا النمط من السياسة إلى زيادة تفتيت الطبقة العاملة ودفع سياسات الطبقة العاملة بعيداً ــ حتى وإن كان ذلك يرجع في الواقع إلى مصالح مادية محددة للغاية.
11
الفرضية الرابعة. إن النجاح النسبي للديمقراطيين في الانتخابات النصفية هو إنعكاس لقاعدتهم الاجتماعية الخاصة. بالنظر إلى طابع القواعد الجماهيرية للحزبين الجمهوري والديمقراطي، فليس من المستغرب أن يتفوق الديمقراطيون الآن على الجمهوريين في انتخابات التجديد النصفي. وسوف يستمرون في هذا التفوق بلا شك بسبب قاعدة الحزب الديمقراطي، الأكثر تعلمًا، فمن المرجح مشاركتهم في السياسات الانتخابية. بينما ينتفع الحزب الجمهوري أشد انتفاع حاليًا من عدم المساواة في الدستور، فالجمهوريون الآن لديهم عيب في أن يكونوا مرتبطين بقوة بقطاع من الناخبين أقل احتمالا للمشاركة في الانتخابات النصفية[xxiv]. ومن وجهة نظر تحليلنا، إن نجاح الديمقراطيين في هذه الدورة الانتخابية مبني على الطبيعة المجزأة للطبقة العاملة، ومن المرجح أن يعززها، مما يجعلها أقل احتمالا للعمل كقوة اجتماعية متماسكة. لتقديم هذه النقطة بشكل مباشر قدر الإمكان: لا يتحول الديمقراطيون إلى قاعدتهم من خلال مناشدة سياسات الطبقة العاملة، ولكن من خلال مخاطبة العمال بعبارات غير طبقية صريحة.
12
الفرضية الخامسة. يقع اليسار الأمريكي تحت ثلاثة أوهام عن السياسة المحلية. وفي فهم السياسة الأميركية، من الأهمية بمكان إدراك الاستراتيجية الانتخابية للحزب الديمقراطي. وفي هذا الصدد، ابتليت التحليلات اليسارية بثلاثة أوهام شائعة. الأول هو فكرة مفادها أن المسار الواضح للنجاح الانتخابي هو مناشدة الطبقة العاملة الأميركية “بشروط طبقية”. ونادرًا ما فعل الديمقراطيون هذا، حتى في أوج عهد الصفقة الجديدة. يعتمد هذا الوهم ضمنًا على تصور خاطئ سابق: مفاده أن الحزب الديمقراطي كان فاشلا انتخابيا في السنوات الأخيرة. والواقع أن السؤال ليس لماذا لم يفز الديمقراطيون بمزيد من المقاعد، بل لماذا حققوا هذا النجاح في الدورات الثلاث الأخيرة، منذ عام 2018. وكانت نتائج الانتخابات النصفية لعام 2022، التي يبدو أنها تحدت التفكير المنطقي مرة أخرى، ناجحة وفقا لمعايير تاريخية مماثلة. لقد جاءت هذه التطورات بعد انتخابات عام 2020 التي هزم فيها المرشح الديمقراطي الرئيس الحالي الذي يتمتع بقاعدة فائقة الطاقة، والذي فاز بأصوات أكثر من أي مرشح آخر في التاريخ – باستثناء الشخص الذي هزمه.
لذا فمن غير الصحيح أن نصور الديمقراطيين على أنهم ينتهجون استراتيجية غير طبقية بشكل غير عقلاني. فالحزب الديمقراطي الحالي ليس لديه مصلحة في مناشدة قاعدته السياسية من منظور طبقي. ويستند نجاح الحزب إلى كسب جزء من الطبقة العاملة من منظور غير طبقي بشكل صريح. ونظراً للدائرة الانتخابية الفعلية للديمقراطيين ــ تلك الشريحة من الطبقة العاملة التي تعتمد على أوراق الاعتماد لزيادة قيمة قوتها العاملة ــ فإن استراتيجياتهم الانتخابية ومرشحيهم لا يمكن اعتبارهم غير عقلانيين؛ فقد كانوا فعالين بشكل لافت للنظر. ومن المنطقي تمامًا استمرار تدخُل العاملين الديمقراطيين في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري للترويج لأكثر المرشحين غرابة، كما فعلوا في عام 2022، لأن هزيمتهم أسهل على أساس ادعاءات مباشرة بتمثيل العقلانية في مواجهة الجنون. وكان هذا هو الدرس الواضح الذي استخلصه كل عامل كفء من الانتخابات النصفية. بعبارة أخرى، من المرجح أن يرتبط نجاح الحزب الديمقراطي الانتخابي سلباً بالسياسة الطبقية، بحيث يشكل ظهور مثل هذه السياسة من جديد تهديداً انتخابياً.
الوهم الثاني الشائع في التحليل اليساري هو فكرة أن إدارة بايدن انتهجت سياسات محلية خجولة أو ضعيفة أو مخيبة للآمال. وهذا يتناقض مع التجربة التاريخية برمتها منذ أوائل عام 2020. في الواقع، لم تقترح أي إدارة منذ جونسون هذا النوع من المبادرات المحلية التي اقترحها بايدن؛ وكان هذا ليصبح واضحًا تمامًا لو تمتعت الإدارة بميزة أكبر قليلاً في الكونجرس. وكما نوقش أعلاه، عانت البايدنية من التناقضات، لكنها لم تفتقر إلى الطموح على الجبهة الداخلية.
أما الوهم الثالث، فهو وهم تكميلي يجمع بين الوهمين السابقين ليزعم أن عدم شعبية بايدن والصراعات الانتخابية التي يخوضها الحزب تنبع من خجله السياسي. ولكن بما أن بايدن، والديمقراطيين على نطاق أوسع، حققوا نجاحا ملحوظا في الانتخابات، وبما أنهم سعوا أيضا إلى تبني بعض السياسات الطموحة بشكل لافت للنظر، فلا يمكن وصف هذا الموقف إلا بالوهم المركب. والواقع أن المشاكل السياسية التي واجهها بايدن تنبع في الواقع من القيود التي تفرضها الرأسمالية السياسية كنظام للتراكم. والواقع أن الهيكل السياسي الجديد الذي أدى إلى نشوء هذا النظام يمنع بناء تحالفات النمو المهيمنة والظاهرة المرتبطة بها المتمثلة في الانهيارات الانتخابية الضخمة. بل إنه ينتج بدلا من ذلك سياسة شرسة منقسمة بشكل ضيق تقوم على إعادة توزيع الثروة على أساس محصلة صفرية، وترتكز إلى حد كبير على صراعات المصالح المادية داخل الطبقة العاملة.
13
الفرضية السادسة. المحصلة الإيجابية من مساومة الطبقة مستحيلة في الفترة الحالية. لطالما كانت قواعد دولة الرفاه في كلٍ من الولايات المتحدة وأوروبا ذات ربحية عالية ومعدلات استثمار عالية في التصنيع. لكن ظل الربح من التصنيع والاستثمار ضعيفًا. (حتى أكثر القطاعات المفترض أنها دينامية للاقتصاد الجديد هي في خضم الأزمة). تظل الرأسمالية السياسية ثابتة في مكانها، ما يعني أن إعادة التوزيع من رأس المال إلى العمال سيكون شديد الصعوبة، إذا لم يكن مستحيلًا، بسبب إعتمادية الربح على إعادة التوزيع التصاعدي المصمم سياسيًا. ربما تفسر تلك الحقيقة قبل كل شئ، العودة المفاجئة للتضخم. التصخم هو ما يحصده الفرد عندما يسعى للإنفاق العاجز في غياب رأسمالية دينامكية.
14
الأطروحة السابعة. إن الأيديولوجية الطبيعية للبايدنية هي التقدمية، وليس الديمقراطية الاجتماعية. وهناك خصوصية واحدة للبايدنية لم نؤكد عليها بعد بشكل كافٍ: ملفها الأيديولوجي المميز. ففي الاتجاه والنبرة، تمثل سياسات الإدارة مصالح الجزء المتعلم من الطبقة العاملة في سياق الرأسمالية السياسية لأن هذه هي القاعدة الواضحة للحزب. وفي هذا، تشبه البايدينية إلى حد كبير “التقدمية” في أواخر القرن التاسع عشر. والمثل الاجتماعي للإدارة هو اقتصاد السوق غير المشوه بالاحتكارات والذي تديره نخبة منفتحة ومتنوعة ومجندة على أساس الجدارة. والأداة المستخدمة لتنفيذ هذه الرؤية هي الدولة التنظيمية، بما في ذلك البيروقراطية المتضخمة للتنوع والمساواة والإدماج والتي لها فائدة جانبية تتمثل في توفير أماكن عمل جيدة الأجر لأعضاء الطبقة العاملة المتعلمة نفسها. والشعارات الرئيسية لهذا المشروع هي “العدالة” و”الإنصاف”: مصطلحان لا يصفان مثالاً اجتماعيًا على الإطلاق، بل حالة من الشؤون بين الأفراد.
كل هذا بعيد كل البعد عن مفهوم السيطرة الديمقراطية على الفائض الاجتماعي. نحن بحاجة إلى لغة لوصف المشروع البايدني الجديد؛ ربما يكون مصطلح “التقدمية الجديدة” هو المصطلح الأفضل. من حيث المحتوى والقصد، يظل هذا المشروع بعيدًا عن الاشتراكية مثل أسلافه من الديمقراطيين الاجتماعيين والليبراليين الجدد؛ لكنه مع ذلك يشكل تشكيلًا تاريخيًا مميزًا يجب النظر إليه ودراسته وفقًا لشروطه الخاصة.
15
ملحوظة أخيرة. نحن نعرض تلك الفرضيات بروح تجريبية مؤقتة. وبرغم كونها قاسية وغير مكتملة، إلا أنها تشير على الأقل إلى بعض القضايا المركزية التي يجب معالجتها وجهاً لوجه إذا كان سيتم استيعاب الفترة السياسية الحالية الغريبة للغاية. فالشعارات البالية وأنماط التفكير القديمة لن تكون كافية للتعامل مع هو آت.
[i]‘Exit Polls 2022’, nbc News, source: National Election Pool, accessed 7 December 2022.
[ii] عندما أصدرت المحكمة العليا حكمها في قضية دوبس ضد منظمة صحة المرأة جاكسون، والذي ألغى الحق الدستوري القديم في الإجهاض الذي تم تأسيسه في قضية رو ضد وايد، فإنها لأول مرة في تاريخها انتزعت حقًا دستوريًا أساسيًا. بالتالي، هذا القرار هو انتهاك لكل معايير المساواة بين الجنسيين واعتداء على الخصوصية والحق في تفنيد لحق النساء في الاجهاض. (المترجم)
[iii] الصفائح التكتونية، وهي نظرية تتعامل مع ديناميكيات الغلاف الخارجي للأرض – الغلاف الصخري – والتي أحدثت ثورة في علوم الأرض من خلال توفير سياق موحد لفهم عمليات بناء الجبال والبراكين والزلازل بالإضافة إلى تطور سطح الأرض وإعادة بناء قاراتها ومحيطاتها الماضية. (المترجم)
[iv] Robert Brenner, ‘Introducing Catalyst’, Catalyst, Spring 2017, p. 11.
[v]إن كتاب لويجي زينجاليس “A Capitalism for the People” يحتوي على مادة وصفية ممتازة لهذه الظاهرة: حيث كان 43% من أرباح شركة آرتشر دانييلز ميدلاند الزراعية العملاقة مرتبطة بمنتجات مدعومة من الدولة مثل شراب الذرة والإيثانول، في حين ارتفع عدد المخصصات في الفواتير الفيدرالية من 10 في عام 1982 إلى 4128 في عام 2005. كما يقدم زينجاليس وصفاً حياً لكيفية عمل عملاقي الرهن العقاري فاني ماي وفريدي ماك، اللذان وصفا بأنهما احتكارات خاصة ضخمة “تستخدم علاقاتها السياسية لكسب المال على حساب دافعي الضرائب”: لويجي زينجاليس، “رأسمالية من أجل الشعب: استعادة العبقرية المفقودة للازدهار الأميركي”، نيويورك 2012، ص 44، 79، 45.
[vi]يمكن فهم التكثيف الهائل للضغط السياسي على أنه شكلا من أشكال”التراكم السياسي”، والذى هو مختلف بالطبع عن سلفه الإقطاعي، إلا أنه شديد التميز.
[vii]توماس بيكيتي، رأس المال في القرن الحادي والعشرين، كامبريدج، ماساتشوستس 2014، ص 449-450. يُظهِر بيكيتي أن معدل العائد على رأس المال يفوق بشكل كبير معدل النمو بعد عام 2012، لكنه لا يفسر تمامًا معنى هذا الانعكاس.
[viii]لشرح أفضل عن الاختلاف بين الطبقات “فرص الحياة” والطبقة من املنظور الماركسي، انظر Erik Olin Wright, ‘The Shadow of Exploitation in Weber’s Class Analysis’, American Sociological Review, vol. 67, no. 6, 2002.،لا يثير العجب، أن تقسيم السكان حسب أعمالهم عوضًا عن الطبقة يوفر وصفًا أدق عن “فررص الحياة”، انظر على سبيل المثال: Kim Weeden and David Grusky, ‘The Case for a New Class Map’, American Journal of Sociology, vol. 111, no. 1, July 2005.
[ix]كما كتب مايك ديفيس، في حديثه عن أواخر القرن التاسع عشر”لم تقترن زيادة البروليتاريا في البنيان الاجتماعي الأمريكي ببميل مماثل نحو توحيد الطبقة العاملة كثقافة أو سياسة جماعية. دُعم التقسيم الطبقي المتجذر في مواضع مختلفة في عملية العمل الاجتماعي بالعداءات الإثنية والدينية والعرقية والجنسية العميقة داخل الطبقة العاملة”. يقدم ديفيس تفسيرًا يمكن قراءته كصيغة مادية للإستثناء الأمريكي: Mike Davis, ‘Why the us Working Class Is Different’, nlr i/123, September–October 1980, p. 15.
[x]Robert Brenner, ‘The Paradox of Social Democracy: The American Case’, in Mike Davis, Fred Pfeil and Michael Sprinker, eds, The Year Left: An American Socialist Yearbook, New York 1985, p. 39.
[xi]Rosa Luxemburg, ‘The Mass Strike, the Political Party and the Trade Unions’ [1906], in Peter Hudis and Kevin B. Anderson, eds, The Rosa Luxemburg Reader, New York 2004, p. 182.
[xii] قانون فاغنر هو تشريع يهدف إلى تعزيز وحماية حقوق العمال. يُعرف رسميًا باسم قانون علاقات العمل الوطنية لعام ١٩٣٥، وكان من أوائل التشريعات التي كفلت حق العمال في تشكيل النقابات والمفاوضة الجماعية لتحسين الأجور وظروف العمل. (المترجم)
[xiii]Brenner, ‘The Paradox of Social Democracy’, p. 85.
[xiv]Dylan Riley, ‘Faultlines’, nlr 126, November–December 2020.
[xv]وهذا يتوافق أيضاً مع بحث بيكيتي، الذي يُظهِر أن النصف الأدنى من توزيع الدخل لا يملكون أي شيء تقريباً. ويكتب بيكيتي عن الولايات المتحدة،: “يملك العشر الأعلى 72% من ثروة أميركا، في حين لا يملك النصف الأدنى سوى 2%: رأس المال في القرن الحادي والعشرين، ص 322”.
[xvi]للحصول على وصف واضح للتفاوتات التي ينتجها نظام التعليم العالي في الولايات المتحدة، انظر ديفيد جروسكي وبيتر هول وهيزل روز ماركوس، “صعود أسواق الفرص: كيف حدث ذلك وماذا يمكننا أن نفعل؟”، دايدالوس، المجلد 148، العدد 3، صيف 2019، ص 19-45. يصف المؤلفون الموارد الهائلة التي تنفقها أسر “الطبقة المتوسطة” على التعليم الخاص. ما لا يؤكدون عليه بشكل كافٍ هو أن الأسر التي تسعى بجدية إلى هذه الاستراتيجيات لا تزال من أصحاب الأجور، كما من المرجح أن يكون أطفالهم كذلك.
[xvii] “يمكن النظر إلى اقتصاد بايدن باعتباره خطوة نحو إعادة صياغة النظام الرأسمالي المركزي القائم على النقد والمدفوع بالديون في شكل أكثر تعويضًا – طريق ثالث جديد، مدفوع بالصدمة الشعبوية، وقبل كل شيء، بالاحتكاك التنافسي مع الصين الصاعدة”: Susan Watkins, ‘Paradigm Shifts’, nlr 128, March–April 2021.
[xviii] Jill Colvin, ‘Trump reveals he got Covid-19 booster shot; crowd boos him’, Associated Press, 20 December 2021.
[xix] Amina Dunn, ‘Biden’s job rating is similar to Trump’s but lower than that of other recent presidents’, Pew Research Center, 20 October 2022.
[xx] انظر مات كارب، «The Politics of a Second Gilded Age»، جاكوبين، رقم 40، 2021. يكتب كارب: “ظل العمال ذوو الياقات الزرقاء منقسمين بشدة حسب الجغرافيا والعرق والدين والعرق والثقافة في كلمة واحدة، والهوية مع تصويت الجنوبيين والكاثوليك البيض للديمقراطيين، بينما دعم البروتستانت الشماليون والأمريكيون الأفارقة (حيث يمكنهم التصويت) الجمهوريين: ص 99. ولن نجادل في أن هذه الانقسامات حاسمة ؛ ولكننا نتحدى فكرة أنها تنطوي على الهوية بدلا من المصالح المادية. في الواقع، فإن انقسامات الهوية داخل الطبقة العاملة الأمريكية مادية للغاية
[xxi] توماس بيكيتي يسير على الطريق الصحيح هنا عندما كتب، “إذا أصبح الحزب الديمقراطي حزب المتعلمين تعليماً عالياً بينما فر الأقل تعليماً إلى الجمهوريين، فيجب أن يكون ذلك لأن المجموعة الأخيرة تعتقد أن السياسات المدعومة من قبل الديمقراطيين تفشل بشكل متزايد في التعبير عن طموحاتهم. Capital and Ideology, Boston ma 2020, p. 834.
[xxii] برنامج جمهورية الطبقة العاملة رسمه نيكولاس ليمان جيدًا في «أزمة الهوية الجمهورية بعد ترامب»، نيويوركر، 23 أكتوبر 2020. يرسم ليمان سيناريو «الانعكاسية»، حيث يصبح الجمهوري، ربما تحت قيادة ماركو روبيو أو جوش هاولي، الموطن الطبيعي للطبقة العاملة الأمريكية.
[xxiii] الاثنان ليسا متساويين. من المحتمل أن تصبح «النزعة الأصلية» أكثر بروزًا من «العنصرية» إذا تمكن الجمهوريون من استغلال جاذبيتهم لكامل جزء العمال غير الحاصلين على درجة علمية.
[xxiv] على النقيض من ذلك، كما لاحظ مات كارب، فإن هجرة الديمقراطيين إلى جمهور ناخب أكثر رفاهية تعني أن الناخبين من المرجح أن يصوتوا في انتخابات خارج العام. شاهد المقابلة مع سيث أكرمان، “ربما فاز الديمقراطيون بمزيد من أصوات الضواحي في الانتخابات النصفية. هذا لا يبشر بالخير، جاكوبين، 11 نوفمبر 2022.
اكتشاف المزيد من قراءات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.







































