ترجمة وتقديم: بسمة ناجي
لطالما اعتُبر سيجموند فرويد الأب الروحي لتحليل الأحلام، وكتابه “تفسير الأحلام” بمثابة ثورة غيَّرت وجهة نظر الغرب إلى هذه الظاهرة الليلية. لكنَّ هذا الاعتقاد الشائع قد لا يكون دقيقًا تمامًا. في كتاب “حين تحلم العقول” (When Brains Dream)، يقدم العالمان أنتونيو زادرا وروبرت ستيكجولد منظورًا جديدًا وشاملًا لعلم الأحلام، ويضعان أعمال فرويد في سياقها التاريخي والعلمي الصحيح.
يُعد كتاب “حين تحلم العقول” دليلًا يجمع بين التاريخ، وعلم الأعصاب، وعلم النفس، ليجيب عن أسئلة كُبرى حول النوم والأحلام: لماذا نحلُم؟ وما وظيفة الأحلام في حياتنا؟ يعيد الكتاب تعريف الأحلام من مجرد رموز غامضة تحتاج إلى تفسير، إلى عملية معرفية أساسية تُعد جزءً لا يتجزأ من وظائف الدماغ. يتتبع المؤلفان مسيرة فهم الأحلام من الفلاسفة الأوائل مرورًا بمُنظري القرن العشرين وصولًا إلى أحدث الأبحاث العلمية التي تُجرى في مختبرات النوم، ويستعرضان أبرز النظريات والنماذج التي حاولت فك شفرة هذا العالم السري.
في هذا الفصل، “اكتشَف فرويد خفايا الأحلام، أو هكذا اعتقَد”، يتعمق المؤلفان في الأسطورة المحيطة بفرويد، وكتابه الذي لم يحقق نجاحًا فوريًا. كما يوضحان كيف أن النظريات النفسية لفرويد حول الأحلام، رغم تأثيرها الهائل على الثقافة الشعبية، لم تكن الوحيدة في ذلك الوقت، وكيف أن علماء آخرين مثل سانتيانا رامون إي كاخال كانوا يقدمون نماذج قائمة على علم الأعصاب لتفسير الأحلام، وهي نماذج سبقت النماذج العصبية الحديثة بعقود.
لا يهدف هذا الفصل إلى التقليل من أهمية فرويد، بل يهدف إلى وضعه في إطاره الصحيح كأحد “المستكشفين الأوائل لعالم الأحلام”، ويقدم نقدًا بناءً لمنهجه، ما يمهد الطريق لفهم لماذا وكيف تطور علم الأحلام إلى ما هو عليه اليوم. إنه يمثل دعوة إلى تجاوز النظرة التقليدية والبدء في التفكير في الأحلام من منظور أكثر علمية وشمولية، وهو ما يجسده الكتاب بأكمله.
*
كحال الكثيرين، دائمًا ما اعتقد بوب (روبرت ستيكجولد) أن كتاب فرويد تفسير الأحلام، الذي نُشر عام 1899 (أُعلِن تاريخ النشر على أنه 1900 ليتم ربطه بالقرن الجديد)، حقق نجاحًا فوريًا، وأدى إلى تغيُر وجهات النظر الغربية حول الأحلام بين عشية وضحاها. وفي ظهيرة أحد الأيام، بينما كان بوب مشغولًا ببعض الأفكار الخاصة بهذا الكتاب، تصفح نسخة والده من الطبعة الحادية عشرة العتيقة من الموسوعة البريطانية، والمنشورة عام 1910 – بعد نحو عقد من نشر كتاب فرويد تفسير الأحلام – وبحث عن كلمة حُلْم. بلغ عدد مرات تكرار الكلمة في مجال بحثه ما يقارب ستة آلاف مرة، ولم تكن واحدة منها عن نظرية فرويد، رغم ورود ذِكر كتابه تفسير الأحلام ضمن عشرين اقتباسًا للكتب والمقالات في نهاية الكتاب. لم تكن الموسوعة البريطانية وحدها التي منحت عمل فرويد القليل من الاهتمام.
بعد عِقد من نشره لأول مرة، تضمنت معظم النصوص الطبية والنفسية الرئيسية حينها على القليل من الإشارات إلى تفسير الأحلام. في الواقع، استغرق الأمر ثمانِ سنوات حتى اكتمل بيع الطبعة الأولى المكونة من ستمائة نسخة. والأسوأ من ذلك، كما سجَّل فرويد، ثم ذَكَر آخرون فيما بعد،[1] أن كتابه لم يلق ترحيبًا من قِبل الأوساط الطبية والعلمية والنفسية. بعد تسع سنوات من نشر كتابه، كتب فرويد أن ما نُشر في المجلات العلمية من مراجعات نقدية لأفكاره “لا يمكن إلا أن تنبئ بالحكم على عملي بالتجاهل التام”.[2] ومع ذلك، صار تفسير الأحلام أشهر أعمال فرويد في النهاية، إذ وضع الأساس لنموذجه في التحليل النفسي وشكَّل آراء الناس عن الأحلام وعلاقتها باللاوعي طوال الجزء الأكبر من القرن. انقلاب درامي!
حين يكتشف الطلاب أو الصحفيون أو الغرباء وجود توني (أنتونيو زادرا) تنتشر في الأجواء “مرحى! لدينا باحث في علم الأحلام!”، ويسألونه عن رأيه في نظرية الأحلام الفرويدية، غالبًا ما يستهل إجابته بسؤالهم عما يعرفون عن أفكار فرويد المستحدثة حول الأحلام. دائمًا ما تتضمن الإجابات، المختصرة في الغالب، واحدة على الأقل من الأفكار التالية: تنشأ الأحلام من اللاوعي؛ تتعلق الأحلام بالجنس؛ الأحلام مرتبطة بالرغبات المكبوتة؛ الأحلام رمزية، و تحتاج إلى تفسير لفهمها بصورةٍ صحيحة. لكن كما عرفنا في الفصل الثاني من هذا الكتاب، تم توضيح معظم هذه الأفكار قبل نشر كتاب تفسير الأحلام بزمنٍ طويل. من الواضح أن أفكار فرويد لم تكن كلها مُستجدة كما يعتقد معظم الناس الآن.
الحُلْم كحارسٍ للنوم
كانت نظرية فرويد هي أول طرح قائل بأن للأحلام وظيفتين مترابطتين. إحداهما هي التعبير عن الرغبات المكبوتة ذات الطبيعة الجنسية، أو العدوانية في بعض الأحيان، والتي يعود تاريخها غالبًا إلى مرحلة الطفولة المبكرة. أما الوظيفة الأخرى، المجهولة تقريبًا، فهي حماية النوم نفسه من الاضطراب. وأوضح فرويد أن “الأحلام حراس النوم”[3]. وإليك كيفية أداءها لهذه الوظيفة.
افترض فرويد وجود ‘رقيب’، وهي آلية تشبه الحارس داخل العقل تمنع مواد اللاوعي المرفوضة من الوصول إلى العقل الواعي خلال النهار. لكن في أثناء النوم، يفقد الحارس فعاليته. يتخلى عن حذره، إن جاز التعبير، ويسمح بوصول هذه المواد المرفوضة إلى العقل الواعي. ولأن الرغبات المكبوتة بطبيعتها غير أخلاقية ومعادية للمجتمع (وفقًا لفرويد)، كان من الأهمية بمكان منع التعبير عنها بشكل مباشر حتى في أثناء النوم، لأن هذا من شأنه أن يصدم الحالم ويدفعه إلى اليقظة. وبالتالي، تم تكليف رقيب ‘فَضلة’الأحلام (المعروف باسم آلية الأحلام) بتشويه المادة المكبوتة في اللاوعي عادة وتحويلها إلى صور يصعُب التعرف عليها. اقترح فرويد أربع آليات تمويه – التكثيف، والإزاحة، والاعتبارات المتعلقة بالتمثيل، والمراجعة الثانوية – والتي تُمثل معًا آليات الحُلْم. وهكذا يتاح التعبير الجزئي عن الرغبات المكبوتة في الأحلام، والتي غالبًا ما تكون شهوانية (الأحلام باعتبارها “تعبير عن الرغبات”) مع ضمان تحقق نوم مريح (الأحلام باعتبارها “حراس النوم”).
ومن الجدير بالذكر أن فرويد كان يملك اعتقادًا لا يتزعزع بأن كل حُلْم هو مسعىً لتحقيق الرغبات. بعبارة أخرى، لا يمكن لأي حُلْم أن يتجسد إلا إذا غُمِر أولًا بالطاقة النفسية لرغبة مكبوتة.
أدى هذا التصور للأحلام إلى تمييز رئيسي بين المحتوى الظاهر للحُلْم – الحُلْم الفعلي كما اختبره الحالم ووصفه – ومحتواه الكامن – المعنى “الحقيقي” للحُلْم، والذي كان عبارة عن الرغبة المكبوتة التي “تُحفِز” الحُلْم. يمكن الكشف عن المعنى الخفي للحُلْم من خلال تقنية الارتباط الحر، والتي تتمثل في جعل الحالم يقدم وصفًا غير خاضعًا للرقابة على المشاعر والأفكار التي تثيرها عناصر مختلفة من الحُلْم. وفقًا لفرويد، بوضع هذه الارتباطات الحرة في أيدي محلل نفسي متمرس، يمكن “التراجع” عن التشوهات التي خلقها رقيب الأحلام، وبالتالي إرجاع الحُلْم إلى الصراعات والرغبات اللاواعية التي أدت إلى خلق محتواه الواضح.
ورُغم حماس الجمهور العادي في عصر فرويد لوصفه لأصول الأحلام ومعناها، إلا أنه لا يمكن قول الشيء ذاته عن الأطباء والفلاسفة والعلماء، الذين عبروا عن انتقادات عديدة. فيما يلي بعض الاعتراضات التي أثيرت في السنوات التي تلت نشر كتاب تفسير الأحلام:
– كان تركيز فرويد على رغبات الطفولة المكبوتة كمصدر أساسي للأحلام مفرط التقييد؛ إذ قد تنشأ الأحلام عن مجموعة من ردود الأفعال والدوافع والعواطف الفطرية، وفي كثير من الحالات، قد تظهر نتيجة انشغال الحالم بالحياة اليومية دون الحاجة إلى استدعاء دوافع مخفية خلسة.
– اعتماده على الأدلة القصصية، وتقارير الحالات المختارة، والافتراضات التأملية جعل نظريته عن الأحلام بعيدة كل البعد عن كونها نظرية علمية.
– قلل فرويد من أهمية المحتوى الواضح للأحلام بشكل غير مبرر.
– خلافًا لنظريته، من الثابت أن الأحلام -الكوابيس تحديدًا- لا تحمي النوم، بل توقظ الحالم عادةً.
– كانت النتائج المستنبَطَة من منهجه في تفسير الأحلام متحيزة ومضطربة في كثير من الأحيان، واتسمت استنتاجاته بالاعتباطية.
– العديد من أنماط الأحلام، وأبرزها الكوابيس، لم تظهر أي دليل واضح على الرقابة أو التشويه.
– لعل الأمر الأهم هو عجز نظريته عن تلبية المتطلبات الأساسية لأي نظرية علمية، إذ لم تكن قابلة للاختبار أو الدحض.
لم تكن الشكوك حول دقة ومشروعية نظرية فرويد عن الأحلام مقتصرة على مَن هم خارج الدائرة الأقرب له. جاءت بعض أشد الاعتراضات من أتباعه، مثل ألفريد أدلر (أحد تلاميذ فرويد الأوائل، الذي واصل العمل على تأسيس مجال علم النفس الشخصي) ووريث فرويد الأشهر، كارل يونج.

يونج والتصورات الإكلينيكية البديلة للأحلام
رأى فرويد في الحُلْم صمام تنفيس للرغبات المرضية، بينما يعتقد يونج أن الأحلام تلعب دورًا تعويضيًا حيويًا في تنمية شخصية الفرد من خلال تزويد الحالم بمواد من لاوعيه تحتاج إلى التعرف عليها (ودمجها) ليتمكن من تحقيق شعور أشد توازنًا بالذات. تنشأ هذه المادة أحيانًا، بحسب يونج، من لاوعي الحالم وقد تشمل “معاني المواقف اليومية التي أغفلناها، أو الاستنتاجات التي فشلنا في استخلاصها، أو المؤثرات التي لم نسمح بها، أو الانتقادات التي تجنبناها”.[4]
يفترض يونج أيضًا أن الأحلام تنشأ عما أسماه باللاوعي الجماعي، وهو طبقة عميقة من اللاوعي كانت مشتركة بين البشرية وتحمل الخبرة المتراكمة للجنس البشري. كما افترض أن هذا الجانب الموروث من شخصية الأجداد ينتقل وراثيًا ويعبر عن نفسه في شكل نماذج أولية (أنماط وصور شائعة عالميًا) يمكن ملاحظتها عبر الثقافات في القصص الخيالية والأساطير والطقوس المقدسة والتجارب الروحانية والعديد من الأعمال الفنية، وبالطبع في أحلام البشر. كما وَصَّف يونج مجموعة كبيرة من النماذج الأوليَّة المتكررة، بما في ذلك الصور الأولية كالظل، والمحتال، والعجوز الحكيم، والأم الرؤوم، والبطل.
يعتقد يونج أيضًا أن الأحلام قد يكون لها وظيفة استشرافية أو “مستقبلية”. من خلال تتبع ماضي الحالم، يمكن للعمليات اللاواعية الكامنة وراء تكوين الحُلْم أن تقدم للفرد رؤى لمواقف وتحديات محتملة، أو إمكانات غير محددة، أو نتائج يمكن تخيلها تحدث في مستقبل الحالم. وكما سنرى في الفصل الثامن، فإن هذه الأفكار غير مُستبعدة كما قد تبدو.
وهكذا، في حين وصف فرويد الأحلام بأنها “ظواهر نفسية غير طبيعية” أقرب إلى الأعراض العصبية، وأكد على طبيعتها الخادعة، ركز يونج على تعريف الحُلْم كعملية طبيعية مفيدة وسلط الضوء على طبيعته الإبداعية والمتسامية، بل والمُعينة في بعض الأحيان على حل المشكلات. مثل فرويد، اقترح يونج تقنيات للتعامل مع الأحلام وآمن بأن تفسير الأحلام قد يؤدي إلى رؤى شخصية هامة. لكنه أدرك أيضًا الطبيعة التي تبدو تعسفية أحيانًا لتفسير الأحلام، وعلى النقيض من تأكيد فرويد القطعي على أهمية نظريته، شكك يونج في تقنياته الخاصة، بل وذكر أنها تستحق وصف “طريقة” فحسب؛ ولم يكن جازمًا فيما يتعلق باستخدامها.
مهدت نظريات الأحلام لفرويد ويونج الطريق خلال القرن العشرين لعدد من التصورات الاكلينيكية الأخرى الأقل شهرة للأحلام. وتشمل هذه التصورات وجهة نظر ألفريد أدلر، المذكورة سابقًا، بأن المحتوى الواضح للأحلام يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمخاوف الحالم في اليقظة وأسلوب حياته، لا باللاوعي كما اقترح أستاذه؛ كما تشمل النهج الوجودي الظاهري للأحلام الذي طوره المحلل النفسي السويسري ميدارد بوس والذي يعتبر الحُلْم تجربة حقيقية لـ “الوجود في العالم”، وواقعية مثل أي تجربة يمر بها الإنسان في أثناء اليقظة؛ ونظرية الصراع البؤري لتوماس فرينش وإريكا فروم، وهما محللَين نفسيَين مدرَبَين تدريبًا كلاسيكيًا، اقترحا أن الحُلْم يعكس محاولة الأنا للتعامل مع الشواغل الأساسية لدى الحالم في حياة اليقظة؛ ونهج جيشطالت العلاجي الذي طوره فريتس بيرلز ويرتكز على فهم عناصر الحُلْم المختلفة كإسقاطات لكل من الجوانب المقبولة والمُنكرة من شخصية الحالم. علاوة على ذلك، أدت موجة الأبحاث التجريبية في علم الأحلام، والتي أعقبت اكتشاف نوم حركة العين السريعة في عام 1953 إلى ظهور العشرات، إن لم يكن المئات، من النظريات الأخرى حول طبيعة الأحلام ووظيفتها في النصف الثاني من القرن العشرين.
أين يضع كل هذا ادعاءات فرويد بأن “الأحلام هي تعبير عن الرغبات” وأن “الأحلام حراس النوم”؟ أظهرت دراسات لا حصر لها حول الأحلام إلى استنتاج بسيط يفيد بوجود دعم اختباري ضئيل أو معدوم لأي من وظائف الحُلْم المقترحة هذه. علاوة على ذلك، تخلى أغلب علماء النوم والأحلام عن التصورات الفرويدية للأحلام، منذ فترة طويلة، لصالح نماذج أشد حرصًا وقابلية للاختبار ومتأصلة في الأبحاث السريرية وأبحاث علم الأعصاب الحديث. هذا لا يعني تخلي الباحثين في العصر الحديث عن التصورات القائلة بأن الأحلام قد تحمل معاني شخصية، وتعكس اهتمامات اليقظة الحالية للحالم، وتشير إلى ذكريات الماضي البعيد، أو أن العمل مع الأحلام قد يكون مفيدًا من الناحية الإكلينيكية – التحليلية. كانت كل هذه التصورات ولا تزال موضوع دراسات مبتكرة، وعلاقتها ضعيفة بنظرية فرويد عن الأحلام.
قد يتساءل بعضكم الآن – مع اعتقاد الكثيرين من معاصري فرويد بخطأ أفكاره حول الأحلام، وظهور كومة من النظريات البديلة لدراسة الأحلام على مدار المائة عام التالية، وقلة الأدلة التجريبية التي تدعم نموذج فرويد للحُلْم – كيف ترسخت نظريته في الثقافة الغربية؟ وهنا يكمن جزء من الملحمة.
جعل فرويد من كتابه تفسير الأحلام حجر الزاوية لنظريته في التحليل النفسي، فصار من المستحيل عمليًا انتقاد نظريته عن الأحلام دون التشكيك في مشروعه للتحليل النفسي برمته. نتيجة لذلك، صارت الخلافات حول الوظائف المفترضة للأحلام تتحول إلى خلافات حول حزمة من الأمور الأخرى دومًا، كمفهوم الكبت، وطبيعة الذاكرة البشرية، وأصل الأعراض العصبية، ونماذج نمو الطفولة، وتكوين اللاوعي وتأثيره المفترض على الحياة اليومية. لا يزال هذا الوضع قائمًا حتى اليوم، بشكلٍ ما، وندعو مَن يجهلون الضراوة الشديدة لهذه المعارك من القراء للقراءة عن “حروب فرويد”.[5] حتى البحث السريع سيقود القراء المهتمين الى بعض المؤلفات الرائعة لكنها قراءات هامة بالتأكيد.
وبرغم هذه المعارك، كانت أول خمسٍ وسبعون سنة من القرن العشرين في صالح نظرية فرويد. بدعم كبير من المؤيدين المتحمسين المتحكمين في سلسلة من المؤسسات المخصصة لتدريب المتخصصين في مجال الصحة العقلية على أساليب التحليل النفسي، تحولت مدرسة التحليل النفسي للفِكر ببطء إلى حركة مؤثرة وواسعة الانتشار لدرجة أن العديد من مبادئها صارت مسيطرة على مجالات الطب والطب النفسي وعلم النفس السريري. تغلغلت الحركة أيضًا في العلوم الاجتماعية، وربما الأهم من ذلك، في الفنون. من أقسام التاريخ والأدب إلى لوحات سلفادور دالي إلى فيلم ألفريد هيتشكوك “Spellbound” وأعمال أدبية لا حصر لها، ملأت الأفكار الفرويدية حول الحُلْم والعقل وسائل الإعلام والفنون، واستحوذت على خيال الجميع. وكما قال عالم النفس جون كيهلستروم من جامعة كاليفورنيا في بيركلي: “بصورةٍ تتجاوز تأثير أينشتاين أو واتسون وكريك، وتفوق هتلر أو لينين أو روزفلت أو كينيدي، وتزيد على بيكاسو أو إليوت أو سترافينسكي، وأكثر من البيتلز أو بوب ديلان، كان تأثير فرويد على الثقافة الحديثة عميقًا وطويل الأمد”.[6] وعندما يتعلق الأمر بالأحلام، فإن إرث فرويد لا يُضاهى.
لكن كما رأينا، يخلط الناس بين الأساطير المحيطة بفرويد وبين أفكاره وما كتبه بالفعل. يظن الكثير منا خطأً أن فرويد هو أول من اقترح أن الأحلام تحتوي على أمنيات أو رغبات مكبوتة، أو أن الأحلام رمزية، أو أنها تنشأ من اللاوعي. يمكن إرجاع مفهوم اللاوعي، الذي يُنسب عادةً لفرويد، إلى آلاف السنين؛ صِيغَت الكلمة نفسها قبل ميلاد فرويد بنحو مائة عام.[7] وحتى امتياز طرح أول نظرية معتمدة على تجارب سريرية عن العقل اللاواعي لا يعود إلى فرويد، بل الطبيب النفسي الفرنسي بيير جانيت، الذي ساهمت كتاباته بشكل كبير في تشكيل فِكر فرويد التحليلي النفسي. ومع ذلك، مَرَّ الآن مائة وعشرون عامًا على نشر كتاب تفسير الأحلام، ولا تزال معظم هذه الأفكار مرتبطة بقوة – إن لم تكن بصورة غير قابلة للشك – بفرويد.
وأخيرًا، كحال جميع الجهود التسويقية الجيدة، كان التوقيت هامًا بالنسبة لفرويد. ظهرت نظريته في التحليل النفسي للأحلام مع بِدء تصاعد اتسام وجهات النظر الشعبية حول الحُلْم بالعقلانية والعلمانية، ووصف الأحلام بأنها أحداث ليلية لا معنى لها ويمكن تفسيرها من خلال العمليات الجسدية الطبيعية. وكحال الناس اليوم، رفضت قطاعات كبيرة منهم هذه الفكرة وظلت مقتنعة بأن الأحلام، مهما كانت غريبة، تحمل رسائل مهمة، رسائل تتطلب التفسير. هذه الفكرة الأساسية، القديمة قِدم البشرية ذاتها، هي بالضبط ما أعاد إنتاجه فرويد. بأسلوب كتابة بارع ومقنع، نسج فرويد الأفكار والنتائج من مجموعة واسعة من المصادر والتخصصات بسرد غني، لم يخبر الناس أنهم على حق في الاعتقاد بأهمية أحلامهم فحسب، بل أظهر لهم أيضًا كيف يحلمون ولماذا. والحقيقة هي أن هناك شيئًا نرجسيًا مريحًا لنا جميعًا يكمن في فكرة أننا في أعماقنا كائنات يصعُب التعرف عليها، وأن سلوكياتنا تسترشد بدوافع ورغبات مجهولة لنا إلى حدٍ كبير، وأن أحلامنا قد تكشف عن جوهر ما نحن عليه في الحقيقة.
العقول والخلايا العصبية وخصيتي ثعبان البحر
لم يكن طريق فرويد إلى نظرياته في تفسير الأحلام والتحليل النفسي طريقًا مباشرًا. قليلون مَن يعرفون اليوم أنه تدرب في الأصل كطبيب أعصاب وليس طبيبًا نفسيًا، كما يفترض الكثيرون بطبيعة الحال. عدد أقل من الناس يعرفون أن مشروعه البحثي الأول ركز على الأعضاء الجنسية لثعبان البحر. تعود المناقشات حول العادات الإنجابية الغامضة لثعبان البحر إلى زمن أرسطو. في محاولة لحل هذه المسألة القديمة، أمضى فرويد الشاب أسابيع في تشريح مئات الثعابين في بحث مضنٍ ولكنه لم يثمر في النهاية عن اكتشاف الغدد التناسلية الذكرية المراوغة. كتب إلى صديق طفولته: “كل الثعابين التي شرحتُها هي من الجنس الأنعم”.[8] لا يسعنا إلا تصَوُر أثر هذا الجهد على أحلامه، ناهيك عن نظرية أحلامه. كان في التاسعة عشرة من عمره فحسب.
ثم أمضى فرويد ست سنوات من العمل في معهد علم وظائف الأعضاء تحت إشراف إرنست فيلهلم فون بروك، عالم وظائف الأعضاء الألماني الشهير. خلال تلك الفترة، نشر فرويد أول تقرير مُفصَّل يشرح فيه بِنية ووظيفة جزء من جذع الدماغ معروف باسم النخاع المستطيل، وطوّر طريقة جديدة لصبغ الخلايا العصبية في الأنسجة المُشَرَّحة.
بعد مرور اثنى عشر عامًا، بدأ فرويد وضع تصور لنظريته في التحليل النفسي، وكما كتب إلى صديقه المقرب فيلهلم فليس، أصبحت رغبته في تقديم نموذج عصبي دقيق للنفسية أمرًا مُنهِكًا. بدأ فرويد العمل على مشروع يستخدم الأفكار والاكتشافات في علم الأعصاب لشرح العمليات العقلية الطبيعية وغير الطبيعية. تم تخصيص جزء مهم من المخطوطة الناتجة عن ذلك المشروع للنوم والأحلام. خلال تلك الفترة، اختبر فرويد حُلْمه الشهير “حقنة إيرما”، الحُلْم الذي قاده إلى استنتاج أن الأحلام هي تجسيد للرغبات. لاحقًا، في رسالة إلى فليس، تساءل فرويد: “هل تفترض أن يقرأ أحدهم يومًا ما على لوح رخامي في هذا المنزل: ‘هنا، في الرابع والعشرين من يوليو عام 1895، كشف الحُلْم عن أسراره للدكتور سيجم. فرويد؟’”[9]
في هذه المخطوطة غير المعروفة، والتي صِيغت قبل أربع سنوات من نشر كتاب تفسير الأحلام، ذكر فرويد لأول مرة فرضيته المتعلقة بكون الأحلام تجسيدًا للرغبات. لكنه تخلى عن المشروع في النهاية ولم يُشر إليه مطلقًا في أي من أعماله المنشورة لاحقًا. مرت خمس وخمسون عامًا أخرى، بعد فترة طويلة من وفاة فرويد، قبل اكتشاف مخطوطته غير المكتملة ونشرها في عام 1950 تحت عنوان مشروع علمي لعلم النفس.[10]
ومن المفارقات أن القصة لا تنتهي هنا. بانعطافة قدرية، ظهرت مخطوطة أخرى فُقدت لزمنٍ طويل، مخطوطة لأحد معاصري فرويد، بعد عقود من كتابتها أيضًا. تعود هذه المخطوطة، التي أُعيد اكتشافها في عام 2014، إلى سانتياجو رامون إي كاخال، عالم الأنسجة وعلم التشريح الإسباني الفائز بجائزة نوبل في الفسيولوجيا والطب عام 1906 لاكتشافه الخلايا العصبية. بفضل أعماله وأفكاره الثورية، يُعتبر رامون إي كاخال أبًا لعلم الأعصاب الحديث. مع ذلك، لم تكن مخطوطته المفقودة مقالة أخرى عن علم التشريح أو تقنيات علم الأنسجة. تناولت مخطوطته الأحلام، أحلامه. منذ عام 1918 وحتى وفاته في عام 1934، احتفظ كاخال بمذكرة لتدوين الأحلام بهدفٍ معلن، هو إثبات خطأ فرويد.
كان كاخال واضحًا في معارضته لوجهة نظر فرويد بشأن العقل. لكن ازدرائه لنظرية فرويد عن الأحلام لم يظهر بالوضوح الذي بدا عليه في خطابه إلى صديق، ذكر فيه أنه “باستثناء حالات نادرة للغاية، من المستحيل التحقق من مبادئ كاتب فيينا الواثق، لدرجة الغرور أحيانًا، والذي بدا أكثر انشغالًا بتأسيس نظرية مثيرة بدلًا من الرغبة في خدمة قضية النظرية العلمية”.[11]
وكما يفاجأ الكثيرون بأن تدريب فرويد الأول كان في الفيسيولوجيا العصبية، فإن قليلين من يدركون أن أولى اهتمامات كاخال العلمية كانت في علم النفس التجريبي، بما يشمله من دراسة الإيحاءات، والتنويم المغناطيسي، والآليات الكامنة وراء النوم. ومن بين منشورات كاخال البالغ عددها ثلاثمائة وخمسين منشورًا، واحد فقط يتناول الأحلام. نُشر في عام 1908، ويبدأ بالعبارة التالية:
“الحُلْم هو أحد الظواهر الأروع والأشد إثارة في فسيولوجيا الدماغ”. كيف يمكننا الاختلاف معه؟ كما ألمح كاخال إلى أنه سينشر عملًا مُفصلًا عن “النوم وظواهر الأحلام”، يلخص فيه “آلاف الملاحظات الذاتية التي تتعارض مع نظرية فرويد”. من خلال التنبؤ بنموذج للأحلام يستند إلى علم الأعصاب، والذي ذاعت شهرته بعد سبعين عامًا تقريبًا بفضل الطبيبَين النفسيَين في جامعة هارفارد آلان هوبسون وروبرت مكارلي، رأى كاخال أن الأحلام تنتج عن طلقات عصبية جامحة في مناطق مختلفة من الدماغ. على الرغم من أن كاخال لم يكمل عمله الموعود أبدًا، إلا أن مذكراته عن الأحلام والملاحظات المصاحبة لها نُشرت مؤخرًا في كتاب رائع لا يدرس مُجمل أعمال كاخال فحسب، بل يكشف أيضًا ما تخبرنا به هذه الأحلام عن أحد أعظم علماء القرن التاسع عشر.[12]
ومن المذهل معرفة أن الرجل المعروف بأبي علم الأعصاب، وعالم فيسيولوجيا الأعصاب عمل أيضًا كطبيب نفسي تجريبي، قضى ستة عشر عامًا في تسجيل أحلامه بغرض فضح نظريات الرجل المعروف بأبي التحليل النفسي، والذي عمل في البداية كطبيب متخصص في فيسيولوجيا الأعصاب قبل أن يوجِه تركيزه نحو علم النفس. مرة أخرى، هذه هي الطبيعة الساحرة للظاهرة الأعجب التي نسميها الأحلام.
[1] M. Kramer, “Sigmund Freud’s The Interpretation of Dreams: The Initial Response (1899–1908),” Dreaming 4 (1994): 47–52.
[2] Sigmund Freud, The Interpretation of Dreams, trans. J. Strachey (London: George Allen & Unwin, 1900/1954), xxv.
[3] Freud, The Interpretation of Dreams, 233.
[4] C. G. Jung, “Two Essays on Analytical Psychology,” in The Collected Works of C. G. Jung (vol. 7), ed. Sir H. Read, M. Fordham, G. Adler, and W. McGuire (Princeton, NJ: Princeton University Press, 1967), 282.
[5] Frederick C. Crews, Freud: The Making of an Illusion (New York: Metropolitan Books/Henry Holt, 2017).
[6] J. F. Kihlstrom, “Freud Is a Dead Weight on Psychology,” in Hilgard’s Introduction to Psychology, ed. R. Atkinson, R. C. Atkinson, E. E. Smith, D. J. Bem, and S. Nolen-Hoeksema (New York: Harcourt Brace Jovanovich, 2009), 497.
[7] Henri F. Ellenberger, The Discovery of the Unconscious: The History and Evolution of Dynamic Psychiatry (New York: Basic Books, 1970).
[8] Sigmund Freud, “The Complete Letters of Sigmund Freud to Eduard Silberstein, 1871–1881,” in The Complete Letters of Sigmund Freud to Eduard Silberstein, 1871–1881, ed. Walter Boehlich (Cambridge, MA: Harvard University Press, 1900), 149.
[9] Sigmund Freud, Jeffrey Moussaieff Masson, and Wilhelm Fliess, The Complete Letters of Sigmund Freud to Wilhelm Fliess, 1887–1904 (Cambridge, MA: Belknap Press of Harvard University Press, 1985), 417.
[10] Freud, S., “Project for a Scientific Psychology,” in The Standard Edition of the Complete Psychological Works of Sigmund Freud, Volume I (1886–1899): Pre-Psycho-Analytic Publications and Unpublished Drafts, ed. J. Strachey (London: Hogarth Press, 1895).
[11] Benjamin Ehrlich and Santiago Ramón y Cajal, The Dreams of Santiago Ramón y Cajal (New York: Oxford University Press, 2017), 26.
[12] Ehrlich and Cajal, The Dreams of Santiago Ramón y Cajal.
اكتشاف المزيد من قراءات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.







































