مقعد النافذة: تفكيك التاريخ الشخصي

يتناول كتاب “مقعد النافذة: ملاحظات من حياة متحركة” للكاتبة السيراليونية، أميناتا فورنا، مواضيع رئيسية مثل السفر والتنقل من مكان إلى آخر، والعبور من الماضي إلى الحاضر، وتجاوز الحدود الحقيقية والفلسفية. يبدأ الكتاب بكلمات مؤثرة عن متعة السفر الجوي في الدرجة الاقتصادية، حيث تقول فورنا: “أحب دراما السفر جوًا. احتمالية عدم اكتمال المشروع برمته… ترتفع الطائرة، تنخفض وتدور لتستقر في هدوءٍ جديد”.

بصدوره في عام 2021، مع انتهاء الجائحة، ربما أثار المقال الرئيسي في كتاب أميناتا فورنا الجديد انزعاج القراء. يركز المقال بشكل أساسي على مقاعد الركاب في الطائرات، ويتعمق في تجربة الرحلات الواسعة إلى أماكن بعيدة، ولغته تحلق عاليًا مثل السحب التي تلقي بظلالها على المحيطات أدناه. بالطبع، من الواضح أن مقال “مقعد النافذة” كُتب قبل جائحة كوفيد-19. ومع الانتقال لبقية أجزاء الكتاب، نكتشف أن المقال الأول ليس مجرد نَصًا من “أدب السفر” بل إطارًا يجمع بين مقالاتٍ تتحدى التقاليد.  تتنقل فورنا في مجموعتها المقالية بين المذكرات الشخصية والتاريخ والنظرية الأدبية، وتتناول مواضيع متنوعة مثل ذكرياتها عن السفر كقاصر بمفردها، وعيشها في طهران خلال الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979، بالإضافة إلى علاقات عائلتها بجزر شِتلاند وسيراليون.

ولدت فورنا في اسكتلندا ونشأت في سيراليون ومدن مختلفة من بريطانيا العظمى، وعاشت فترات من طفولتها في إيران وتايلاند وزامبيا. تستكشف مقالاتها مواضيع الهوية والانتماء في الأماكن المختلفة التي عاشت فيها.

في مقال “أوباما وجيل النهضة”، تسجل كيف أن العديد من ألمع الشباب في أفريقيا كانوا يُرسلون في السابق إلى الولايات المتحدة أو أوروبا للدراسة. وبينما كان الأمل هو أن يعود هؤلاء الشباب، ومعظمهم من الذكور، لإنعاش أوطانهم، فإن الكثيرين منهم بقوا في الخارج أو ذهبوا إلى أماكن أخرى. كان والد باراك أوباما نتاجًا لهذا الاتجاه التعليمي، وكذلك والد فورنا. فوالدها، محمد فورنا، من سيراليون، التقى بوالدتها أثناء دراسته في اسكتلندا، ثم انتقلت العائلة من المملكة المتحدة عائدة إلى بلد والدها، حيث انخرط في السياسة وأُعدم بتهمة الخيانة في عام 1975.

وُلِد كلٌ من والد فورنا ووالد أوباما بفارق عام واحد، وكانا ضمن جيل من الشباب الأفارقة الذين درسوا في المملكة المتحدة والولايات المتحدة، وكان من المتوقع منهما بعد ذلك تطبيق ما تعلموه في بلدانهم الأم. وقد كتب الروائيون الأفارقة المشهورون في ذلك الوقت أيي كوي أرماه، وتشينوا أتشيبي، وأما آتا أيدو عن تجارب هذا الجيل، “تحديات مغادرة الوطن الأم إلى الغرب والعودة إليه”. تربط فورنا لقاء والدي أوباما ووالديها بـ “النتيجة غير المقصودة للسياسة”. هنا وفي أماكن أخرى من مجموعتها، تظهر فورنا كخبيرة في الربط بين المواضيع المتنوعة من تاريخ العائلة إلى النظرية الأدبية وصعود الإمبراطوريات وسقوطها، وذلك بأسلوبها النثري الدافئ والمقنع.

تتجاوز شهادة المؤلفة على التاريخ قصة والديها، وتمتد إلى باقي حياة فورنا. بعد أن تزوجت والدتها الأرملة من ممثل للأمم المتحدة، انتقلت العائلة إلى إيران لفترة من الوقت. هناك، شهدت فورنا المراهِقة الثورة الإسلامية والإطاحة بالشاه. تتذكر كل ذلك في مقال “1979”، وتسمح لكتابتها بالتكبير والتصغير، فحص التاريخ الذي تكشف حولها وعالمها المتغير وهي تبدأ في السباحة مع الجيران وحضور حفلات حظر التجول في طهران.

في مقال “ماذا لو قمت بحفل تنصيب ولم يأتِ أحد؟”، تتجول فورنا البالغة في شوارع واشنطن العاصمة المهجورة، بعد تنصيب دونالد ترامب. تكتب أن المدرجات الفارغة جعلت القومية الخبيثة المحيطة بانتصار ترامب تفقد بعضًا من حدتها. في هذا المقال ومقالات أخرى، يبدأ تشوش الحدود بين التاريخ والذاكرة، بين الشاهد والمشارِك.

تتخلل المقالات الطويلة أعمال قصيرة: نَص من ثلاث صفحات عن ذكرى طفولة تتعلق بإنتاج الفاشل “ديزني على الجليد” في ملعب ويمبلي؛ مقطوعة غنائية عن لبؤات تصطاد على حافة القطيع لإطعام صغارها؛ في قسم البقالة الفاخرة في الولايات المتحدة، يقوم رجل بملء فمه بزبدة الفول السوداني، ما يدفع المؤلفة إلى التفكير في التكلفة العالية للبقالة في أمريكا.

أحد نصوص الكتاب، “المشي بقوة” مقال عن سياسات التنقل في العالم كامرأة سوداء. المقال هو نظرة شخصية وصريحة على التجارب اليومية للعنصرية وكراهية النساء التي تواجهها النساء الملونات. تُؤطر فورنا المشي، وهو أمر يعتبره معظم الناس من المُسلمات، كفعل نسوي وتعدٍ على السلطة الذكورية. إذ تُفصِّل تجاربها الخاصة في تعرضها للتحرش اللفظي والإساءة العنصرية في آن واحد أثناء المشي في لندن. تناقش الكاتبة في المقال النظرة الذكورية وكيف يتم تعليم النساء منذ سن مبكرة تعديل سلوكهن لتجنب استفزاز الرجال. وهذا يشمل كل شيء من طريقة لباسهن إلى طريقة نظرهن. هذا شكل من أشكال السيطرة الاجتماعية التي تحد من حرية المرأة في الحركة. تجادل فورنا بأن هذه الأفعال ليست عشوائية أو غير مقصودة، بل هي طريقة متعمدة لتأكيد سلطة الرجال وإذلال النساء.

في مقال “المشي بقوة”، تساهم فورنا في التقليد الأدبي لـ المتجولة الأنثى (flâneuse)، وهي المكافئ الأنثوي للمتجول الذكر (flâneur) — وهو شخص يتجول في المدينة لمراقبتها. وبالتالي، يقدم مقال فورنا منظورًا تقاطعيًا، نسويًا مهمًا، يتحدى الخطاب التقليدي حول الموضوع الذي يهيمن عليه الكتّاب الذكور البيض. ويسلط الضوء على أن تجربة التنقل في الأماكن العامة تختلف اختلافًا كبيرًا اعتمادًا على عرق الشخص وجنسه.

في المقالات التي تتحول إلى العالم غير البشري، يكون نثر فورنا حيويًا وجميلًا. تكتب عن الثعالب في حديقتها بلندن. عن صداقتها مع الدكتور جالو، الطبيب البيطري الوحيد في سيراليون، الذي يعمل مع كلاب الشوارع في فريتاون. في مقالها “الأشياء الأكثر برية”، يختفي البشر وتبقى الغزلان. في مستقبل متخيل بدوننا: “ستصبح الحدائق بورًا، وتفسح الحدود المجال للزهور البرية، وستتجمع القطعان على المروج الشاسعة… وستسير أنثى الأيل المصابة، بعد أن تجددت، في نفس المسارات عبر الغابات كما فعلت الغزلان لمئات السنين”.

في مقال نُشر عام 2018، تناقش فورنا الكتابة عن تعقيدات الحياة، والأحداث المؤلمة، ودور التعاطف في الأدب. وتتأمل في خطر “التعاطف الفارغ”، الذي تسميه حالة “ننظر ونستمع فقط ولا يخرج منها شيء”، وتقدم للروائيين أسلوبًا بديلاً. تقول فورنا إن أهم شيء في الكتابة عن الصدمة والألم هو وضع تجارب الألم تلك بجانب القوة التي يمتلكها الناس، “لتعكس صدمة الناس بطريقة تجعل ما حدث لهم منطقيًا في الصورة الأوسع للعالم ولا يتركهم يشعرون بأنهم مجرد مَعرَض للأضرار”.

يجسد كتاب “مقعد النافذة” أيضًا مفهوم أن الشخصي هو سياسي. ففي “البيطري الأخير”، على سبيل المثال، تكتب فورنا عن الطبيب البيطري الوحيد في سيراليون، الذي يعمل بلا كلل لإنقاذ كلاب الشوارع في مدينته. لتأمين التمويل، يجب عليه أن يقوم برقصة دقيقة بين كيفية رؤية المانحين الغربيين لمفهوم رعاية الحيوان وبين الحقائق التي يمكنه تحقيقها على أرض الواقع. يتجسد صراع الثقافات في قصة هذا الرجل الأخير.

مثل الذاكرة البشرية، لا تتكشف قصص فورنا بشكل خطي. بل إنها منسوجة ببراعة في حياة أشخاص آخرين والعالم المتغير حول أبطالها أنفسهم. تتقلب كل مقالة في الكتاب بين الزمان والمكان، وتواجه حقيقة أن لا أحد ينتمي إلى مكانٍ واحد أو حقبة واحدة، بل نحنُ فسيفساء من أشياء متناقضة متعددة. تفكك المؤلفة تاريخها الخاص وتنظر إلى الروابط بين الاستعمار والهجرة والتمرد.


اكتشاف المزيد من قراءات

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

.