قدّم الكاتب الفرنسي جورج بيريك في كتابه فن طلب زيادة من مديرك بعضًا من أكثر التأملات خفةً وظرفًا، عبر محاكاة نثرية للطبيعة التكرارية لمخطط التدفق (Flow Chart) .
نُشر النص لأول مرة عام 1968 في مجلة التعليم المبرمَج، وهي دورية متخصصة في استكشاف البرمجة الحاسوبية. وكان بيريك، في وظيفته اليومية، موظفًا بسيطًا في مجال تخزين واسترجاع المعلومات، ما جعل آماله في الحصول على زيادة قاتمة تمامًا، كبطل هذه الحكاية – كما يعلّق ديفيد بيلوس، مترجم الكتاب، في مقدمته للنسخة الانجليزية.
ومع ذلك، تنطوي محاولاته على شيء من الدهاء المجنون والعاجز في آن: أي يوم هو الأنسب لطلب الزيادة؟ (لا يوجد يوم كهذا بالطبع). انظر إلى قائمة الطعام في الكافتيريا، يقول السارد: هل يُقدَّم السمك؟ إذًا احذر، فقد يكون مديرك قد ابتلع شوكة، ما يجعل مزاجه متعكرًا.
يُشبّه بيلوس التنقل العقيم داخل المبنى بحثًا عن السيد المدير برحلة أوديسية عبثية؛ إذ يبدو هذا المدير في بعض الأحيان غائبًا كجودو. وحتى إذا استدعاك أخيرًا إلى مكتبه، فعليك التخلي عن كل مشاعر الاستياء، فمثلًا، لا تقول لنفسك: كان بإمكانه منحي موعدًا قبل ثلاثة أسابيع.
حتى في ستينيات القرن الماضي، بدأ الناس يشعرون بالقلق من احتمال أن تُستبدل وظائفهم بالحواسيب، وكانت وظيفة بيريك من بين أكثر الوظائف هشاشة في هذا السياق. لذا، فرغم أن هذا الكتاب يصف عالمًا مضى عليه أكثر من نصف قرن، فإنه لا يزال يحتفظ بقدر كبير من صدقه: لا لأنه يستحضر الملل اللاإنساني الأبدي للمكاتب فحسب – تلك الشكوى التي وُلدت مع فكرة المكاتب ذاتها (من كتبة ديكنز المنهَكين إلى شخصية بارتلبي المتمرّد لدى ملفيل) – بل لأنه يسلّط الضوء أيضًا على ظِلّ الخوارزميات الطويل، الذي بات يُلقي بظلاله على كل شيء.
مرور الزمن هو السر الذي يخفيه هذا النص. تظن في البداية أنك أمام قصة فكاهية خفيفة عن الحياة الوظيفية، لتُفاجأ بأن حياة البطل لا شيء فيها خارج هذه الدوامة، وأن سنوات عمره كلها ضاعت في متاهة طلب لا يُلبّى أبدًا. وحدها السطور الأخيرة من الصفحة الأخيرة تقدّم بصيص أمل:
ماذا تفعل حين تواجه عبثًا مؤكدًا وإحباطًا لا ينتهي
تواصل المحاولة… لأنه لا خيار آخر
مطاردة مستحيلة بلا فواصل
في مقدمته للترجمة الإنجليزية لكتاب فن طلب زيادة من مديرك، يكشف المترجم ديفيد بيلوس عن خلفية هذا النص الغريب، الذي حمل في الأصل عنوانًا طويلًا ومضادًا لأي بعد تسويقي: فن ومهارة التوجه لرئيس قسمك لتقديم طلب الحصول على زيادة. يشير بيلوس إلى أن جاك بيريو، الباحث في قسم الحوسبة بمركز البحوث الإنسانية في باريس، خرج عام 1968 بفكرة غريبة: أن يتحدّى أحد الكتّاب بكتابة نص يخضع لمنطق الحاسوب، أي يتبع سلسلة من الخوارزميات خطوةً بخطوة. اختار بيريو جورج بيريك، وقدّم له مخططًا بيانيًا يصوغ سيناريو موظف يحاول طلب زيادة من مديره. أجرى بيريك بعض التعديلات الطفيفة على المخطط (الذي نُشر في مقدمة وخاتمة الكتاب)، ثم انطلق ليكتب النص في خمسين صفحة بلا فواصل، بلا أحرف كبيرة، بلا فقرات – كأنها خيبة أمل متكررة تُروى بلا نَفَس.
وقد حافظت ترجمة بيلوس على هذا التقديم الأصلي للنص. فعبر تكرار متعمد واسترجاع متواصل، صاغ بيريك حبكة تشبه تعامل الآلة مع خوارزمية ومعالجتها خطوة بخطوة، لكنه أضفى على هذه العملية الجامدة شيئًا من الإيقاع والتفاوت، لتظهر القصّة بأسلوب لا يخلو من حياة. الموظف المسكين – الذي يظل بلا اسم – والذي يعمل، على ما يبدو، في شركة عملاقة، ويقضي جُلّ وقته في التجول داخل ممرات مبنى الشركة.
يُقدَّم هذا الفعل للمرة الأولى بصيغة رسمية:
الخيار الوحيد المتاح لك الآن هو قيامك بجولة بين الأقسام المختلفة التي تُشكِّل في مجموعها الكل أو الجزء من المؤسسة تعمل بها
ثم يتحوّل هذا الوصف، عبر ما لا يقل عن سبعة عشر تكرارًا، إلى صيغ تتنوّع في نبرتها ما بين التقريري والحانق، الرصين والساخر، فتظهر المؤسسة في صور متعددة:
المؤسسة التي تعبث بك… التي تستغلّك… التي لست بين ألمع نجومها… التي تدفع لك الفتات بينما تسحق أجمل سنوات عمرك… التي توفّر لك بالكاد ما يسدّ رمقك… التي تُمثّل أفقك الوحيد… التي تدين لها بكل شيء… التي لا تزال تشعر تجاهها بفخر الانتماء… حيث تأكل قلبك الحسرات…

الهوس بالأسلوب
يبدو الكتاب وكأنه نتاج برنامج ذكاء اصطناعي: أُدخلت إليه مجموعة من المتغيّرات، فجرَّب كل الاحتمالات الممكنة حتى الوصول إلى نهايتها المنطقية، ثم العودة للبدء من جديد. وتمتزج تلك التكرارات في مشاهد هزلية وغير متوقعة: في أحدها، يتوفى رئيس القسم بسبب بيض فاسد، فيشغل البطل منصبه! وفي آخر، يؤدي تفشي الحصبة إلى عزل رئيس القسم، ومعه قسمان آخران، بل وحتى البطل نفسه، في حجر صحي مدته أربعين يومًا.
ويُقر بيلوس بأن النص يستحق التأمل، متكرر ومبتكر، سوداوي وساخر، مؤلم وسريالي في آنٍ، وأنه لا يُقرأ بالطريقة العادية. وهو نص قصير ومرهِق، ولا يحتوي في الأصل على أية أحرف كبيرة أو علامات ترقيم (باستثناء الشرطات)، ولا علامات تنصيص أو غيرها من أدوات التنضيد التقليدية ولا حروف كبيرة، ولا حتى مسافات ذات معنى في النص، مثل هذا المقطع:
من الحماقة أن تخطط للقاء مديرك المباشر في وقت قد تطغى فيه وظائفه الهضمية على قدراته المهنية والإدارية من الأفضل أن تلتقيه في الصباح لكن هو بنفسه طلب منك أن تأتي في الساعة الثانية والنصف لا بد من أخذ الحياة كما هي إذًا الساعة الآن الثانية والنصف وأنت ذاهب للقاء السيد المدير
وهكذا، يمكنك التوقف في أي موضع. فالتجربة الحقيقية لقراءة هذا النص لا تتجلى فقط في مضمونه، بل في العلاقة الفريدة بين القارئ والنص خلال فعل القراءة ذاته. إذ يحدد القارئ بنفسه أين تبدأ الجملة وتنتهي. يسرع في القراءة، فيختلط عليه الأمر، فيعود ليقرأ من جديد، يعيد ترتيب الكلمات وفصلها وربطها. هذا الإيقاع المتعجل يجعل الدعابة حين تظهر تبرز بقوة أكبر، كأنها طافية، فتمثل لحظات الفكاهة نقاط الترقيم الحقيقية الوحيدة في النص.
بعد أن تزن الأمر من كل الجوانب، تشد على نفسك وتتخذ قرارًا بالذهاب لرؤية رئيسك المباشر لطلب زيادة، فتذهب لرؤية رئيس القسم الذي تعمل فيه، السيد س، هذا أو ذاك…
ذلك التذييل: هذا أو ذاك، هو أحد العناصر المتكررة كثيرًا في النص، والذي يتحول تدريجيًا إلى تأمل غريب، مضحك، ممل، مهووس في الفضاء المكتبي؛ سلسلة لا تنتهي من نقاط A وB، حيث تكمن الحقيقة في مكان ما بين نقطتين.
ثمة ما يجعل هذا الأسلوب مناسبًا تمامًا للمقهورين، وربما لا يوجد من هو أشد بؤسًا وقهرًا من موظفي المكاتب. يقترح النص وجود موظف بلا اسم (يخاطبه بيريك مباشرة بـأنت) يحاول إقناع مديره (السيد س) بزيادة راتبه. المدير إما غير موجود، أو يتجاهله (أي يتجاهلك)، أو يقول لا، ليس الآن. في كل مرة تنطلق في مهمتك لإقناعه، تتدخل ظروف ما تدفعك في جولة لا نهائية بين إدارات المبنى، لتعود في النهاية إلى نقطة البداية. على طول الطريق، تمر بتجارب عبثية: قائمة طعام لا يمكن التنبؤ بها في الكافتيريا، تهديد بالإصابة بالحصبة، محادثات مع الزميلة التي تكرهها السيدة واي، شجار مع مهندس يعمل في نفس الشركة. مهمة بطلنا إذًا هي المهمة التي يعرفها كثيرون منا: كيف نُضفي معنى على مخطط تدفق الحياة نفسها.
اكتشاف المزيد من قراءات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.







































