ما هي الواقعية الناقدة / الواقعية النقدية؟

إعداد – عمرو خيري

هذا المقال يعتمد بالأساس على محاضرة لباحثة الجغرافيا البشرية الألمانية سارة كولنيج ألقتها في جامعة لوند في 6 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، فضلاً عن بعض المصادر الأخرى التي أشير إليها في نهاية المقال.

الواقعية الناقدة (أو النقدية) Critical realism هي موقف من العالم والمعرفة نظّر له بالأساس الفيلسوف البريطاني المعاصر روي باسكار (1944-2014) وعدد من الأكاديميين، حتى أصبحت من المواقف الفلسفية الأساسية التي يستند إليها البحث العلمي الاجتماعي. تعتمد الواقعية الناقدة على الاشتباك مع أفكار كانط وماركس إلى حد بعيد، وهي “ميتا-نظرية” أو نظرية للنظريات ظهرت في السبعينيات والثمانينيات كموقف فلسفي بديل مختلف عن الفلسفة الوضعية positivism (التي تعتمد على التعميم وتفسير المتغيرات ومحاولة الوصول لقوانين غائية حاكمة للواقع الاجتماعي) وتختلف عن ما بعد الحداثة، التي تسعى للتأويل، لا لفهم الواقع واستيضاحه.[1] من ثم، يمكن النظر إلى الواقعية الناقدة بصفتها منظور بديل، أو صندوق خارج الصندوق المألوف للتفكير، يسعى لتقديم رؤية للعالم لا تُسلّم بالواقعية الساذجة والمباشرة على جانب (أن الحقيقة كلها قابلة للفهم والتفسير)، ولا تُسلم بالنسبية المُطلقة في كل شيء على الجانب الآخر؛ وهو الموقف الذي يتبناه منظور ما بعد الحداثة.

Roy-Bhaskar-009

روي باسكار

نقطة الانطلاق في الواقعية الناقدة هي الانشغال بالأونطولوجيا Ontology (ما هو موجود/حقيقي) بصفته منفصل عمّا يمكن معرفته (الأبستمولوجيا)، وتفترض أول ما تفترض أن الواقع المحسوس/المباشر هو أول طبقة من طبقات الحقيقة. تفترض الواقعية الناقدة أن العالم موجود بصفة مستقلة عن معرفتنا به. والأفكار حقيقية فقط بقدر ما لها من تأثير على الواقع. (مثال: التغير المناخي ظاهرة فيزيائية وطبيعية لا نفهمها بالكامل. وأفكار مُنكري التغير المناخي تؤدي إلى تدهور حالة المناخ بسبب الامتناع عن أفعال للتقليل من تسارع التغير المناخي).

لكن بينما الحقيقة موجودة بصفة مستقلة عن المعرفة، فالمعرفة نسبية. يرى روي باسكار أن في الوجود فئتين من الأشياء، اللازم intransitive والمتعدي transitive. “اللازم” هو الوجود بكل تعقيداته، خارج نطاق قدرتنا على فهمه بشكل كلّي. “المتعدي” هو المعارف المتعددة والمتغيرة حول أجزاء من الوجود. من ثم تعتمد الواقعية الناقدة مبدأ النسبية الأبستمولوجية Epistemological relativism أو نسبية ما يمكن معرفته عن الوجود. أي أن المعرفة متغيرة من سياق لآخر ومن زمن لآخر. المتعدي ضروري لفهم أجزاء من اللازم، مع التسليم بأن اللازم (الموجود) لا سبيل لمعرفته كاملاً. هنا تختلف الواقعية الناقدة عن الوضعية positivism من حيث أن الأخيرة تعتبر أن كل ما هو موجود قابل للمعرفة، وتختلف عن أفكار ما بعد الحداثة من حيث أن الأخيرة تعتبر الوجود هو ما يشيده البشر بأنفسهم وما هو مُتفق عليه بصفته الوجود.

تعتبر الواقعية الناقدة أن الوجود المُطلق (أو الحقيقة) مُقسم ومركب stratified من حيث قدرتنا على معرفته، إلى ثلاث طبقات أساسية. هناك أولاً طبقة الإمبريقي Empirical، ويمكن تخيلها بصفتها دائرة صغيرة داخل دائرة أكبر، هي الطبقة الثانية: الفعلي/المتحقق the Actual. وتقع طبقة أو دائرة الفعلي/المتحقق داخل الدائرة الضامة للطبقتين الأضيق، وهي طبقة “الحقيقي – real”. دائرة الإمبريقي – الأضيق – هي كل ما هو محسوس ويمكن معرفته بالحواس المباشرة. دائرة الفعلي/المتحقق يتحقق فيها الحدث الذي رصدته الحواس على يد آلية أو آليات معينة أدت للحدث الذي رصدت الحواس وقوعه. الدائرة الأكبر “الحقيقي” هي حيث الآلية أو الآليات التي أدت إلى الحدث.

CRT

مستويات الحقيقة: الإمبريقي – الفعلي/المتحقق – الحقيقي

لنأخذ مثالاً. أنت تجلس في مكتبة وأمامك لابتوب. نهضت لدقائق وعندما عدت وجدت اللابتوب اختفى. الإمبريقي هو رصد الحواس لاختفاء اللابتوب. الفعلي/المتحقق هو أن لصاً سرق اللابتوب (الحدث) نتيجة لآليات دفعت اللص لفعل السرقة. الحقيقي هو الآليات التي دفعت اللص لسرقة اللابتوب، وهي كثيرة ومتداخلة ومعقدة كما سنرى.

الواقعية الناقدة مع افتراضاتها بأن الحقيقة مُركبة ومقسمة stratified، تسعى للانطلاق من الإمبريقي إلى الفعلي/المتحقق، ومنه إلى الحقيقي، وهو ما يُسمى بالبحث التجاوزي transcendental inquiry. بمعنى آخر: داخل صندوق تفكير الواقعية الناقدة، إذا كنت باحث اجتماعي يتناول ظاهرة السرقة في مجتمع ما، فأنت لا تكتفي بطرح أسئلة تُجاب بالوصول إلى إحصاءات حول معدلات انتشار السرقة وزيادتها أو تناقصها مع الزمن، أو بين حي وآخر في نفس المدينة – باعتبار أن هذه الإحصاءات أو الحقائق هي الحقيقة في حد ذاتها – إنما تبحث عن آليات قادرة على “تفسير” ما وراء معدلات انتشار السرقة. أي لا تعتبر أن ما هو إمبريقي يمثل في حد ذاته الحقيقة المطلقة، إنما تسعى لـ “تجاوز” الإمبريقي والفعلي/المتحقق نحو فهم الآليات الكامنة وراء الظاهرة المادية محل البحث (السرقة). أي تتجاوز الواقع المباشر نحو مختلف الآليات التي يُرجح أنها وراء زيادة معدلات السرقة، وقد تكون مثلاً التفاوت الطبقي، أو العنصرية، أو دور البيروقراطية أو الفساد في تكريس حرمان فئات من المجتمع، أو – وهو الافتراض الأساسي – مزيج من عدة آليات.

هناك افتراض مهم هنا، هو أن مختلف الآليات التي تُفعّل “الحقيقي” هي جميعاً آليات محتملة، والتسليم باحتماليتها ضروري لتفادي الوقوع في فخ الاكتفاء بما هو فعلي/متحقق actualism، حتى تتمكن من التجاوز transcend وصولاً إلى ما هو حقيقي، مع رفض الغائية (أي أن الآلية س سوف تؤدي بالضرورة إلى النتيجة/الواقع المتحقق ص).

يبقى سؤال مهم متصل باعتماد الواقعية الناقدة لمبدأ النسبية الأبستمولوجية (أو نسبية ما يمكن معرفته). إذا كان ما يمكن معرفته نسبياً، إذن فأي تفسير للحدث الواحد قد يكون بنفس وجاهة أي من التفسيرات الأخرى. إذا عُدنا لمثال سرقة اللابتوب واعتمدنا مبدأ النسبية في المعرفة، فقد يسوق باحثان تفسيرين مختلفين للظاهرة نفسها. 1. فعل السرقة سببه الحرمان الذي يعود لإجحاف لحق بالطبقات الأفقر. 2. فعل السرقة سببه رغبة شخصية من السارق بغض النظر عن آليات الإفقار أو أية عوامل تتصل بالظلم الاجتماعي. إذا فعّلنا مبدأ النسبية الأبستمولوجية بشكل مُطلق (نسبية مُطلقة) يصبح غير مقبول رفض تفسير وتغليب تفسير آخر وقد ترى أن التفسيرين وجيهين تمام الوجاهة وبنفس القدر. لكن الواقعية الناقدة ترى دائماً ضرورة وجود معايير لتغليب تفسير على آخر، والأخذ بآلية أو مجموعة آليات كمُفسر للحدث الواحد، على حساب آلية أو مجموعة آليات أخرى كمفسرة للحدث نفسه. الفيصل هنا هو مبدأ رشادة الاختيار Judgmental rationality، ويتلخص هذا المبدأ في ضرورة البحث في السياق بتفاصيله وتعقيداته للوقوف على التفسير الأرجح من حيث كونه قادراً على فهم الآثار المادية للظاهرة محل البحث وملائمته لها. في هذه الحالة، ومع اعتبار الآلية المُختارة كتفسير مُرجح للظاهرة، فنحن نُسلّم أيضاً بأن هناك آليات أخرى عديدة قد لا نعرفها، وقد نعرفها لكنها لا تفسر الآثار المادية للظاهرة. وفي كل الأحوال، فالآليات المُختارة كتفسير للظاهرة هي متجاوزة للتحقق المباشر للظاهرة.. تتجاوزها إلى مستوى تفسير الظاهرة كجزء من الحقيقة بالاعتماد على آليات بعينها، ولا يعتبر التفسير الذي يستند إلى الآلية/الآليات المُختارة هو نفسه الحقيقة المُطلقة، التي تقع خارج نطاق ما يمكن معرفته.

يبقى القول بأن الواقعية الناقدة، مع تسليمها بتركيب وتقسيم الواقع إلى طبقات ثلاث، ترى أيضاً أن هناك آليات على مستويات مختلفة مما يمكن معرفته يعتمد بعضها على بعض لتفسير الظاهرة الواحدة. في مثال السرقة، يمكن منطقياً التسليم بأن تفاعلات كيميائية فيزيائية عصبية أدت بالسارق إلى اتخاذ قرار السرقة، وهي آلية على مستوى فردي أساسي، لكن هناك آليات الإفقار التي أدت إلى حرمان مُعين وتفاعلت مع المستوى الفردي لاتخاذ قرار السرقة. من هنا، فالحقيقة في الواقعية الناقدة تنطلق من الجزئيات نحو الكُليات emergence لكنها في الوقت نفسه لا يمكن اختزال ومساواة المستوى الأعقد بالمستوى الأبسط (مثال: من مستوى المؤسسات الاجتماعية كالإفقار إلى المستوى النفسي-العصبي الشخصي للص).

وأخيراً، فالواقعية الناقدة سُميت بـ “الناقدة” بسبب سعيها القيّمي لكشف الآليات الكامنة وراء المشكلات الاجتماعية ذات الآثار المادية السلبية على البشر. فمن خلال تفسير واستيضاح الظواهر التي تؤثر على الواقع المادي للبشر، يمكن خلق وعي وفهم لهذا الواقع المادي، ما يعني ضمنياً تهيئة القناعة بضرورة تغيير الواقع عن طريق التصدي للآليات المتسببة في الظواهر الاجتماعية الضارة بالبشر.

مصادر أساسية عن الواقعية الناقدة:

Margaret, A., Bhaskar, R., Collier, A., Lawson, T., & Norrie, A. (1998). Critical realism: essential readings. London and New York: Routledge.

Sayer, A. (2000). Realism and social science.

Laclou, E. & Bhaskar, R. (1998) “Discourse Theory vs Critical Realism.” Debate. Journal of Critical Realism. 1(2): 9-14.

Robert, J. M. (2014) “Critical Realism, Dialectics, and Qualitative Research Methods.” Journal for the Theory of Social Behaviour 44(1): 1-24

[1]  http://www.asatheory.org/current-newsletter-online/what-is-critical-realism

فكرة واحدة على ”ما هي الواقعية الناقدة / الواقعية النقدية؟

.