مُجتزأ من “جوستين – رباعية الإسكندرية”، لورانس داريل – أو: الوقوف على أكتاف العمالقة

عمرو خيري

 

من أول المجازات اللي بيسمعها طالب الدراسات العليا في أوروبا “أنت هنا عشان تقف على أكتاف العمالقة”.. بمعنى إنك موجود عشان تقدم إضافة للعلوم، بس مش هتعيد اختراع العجلة، هتقف على أكتاف علماء قبلك وتبني على اللي وصلوا له، سواء نتائج أو مناهج للبحث والمعرفة.

الترجمة، وترجمة الأدب بالذات، مش بعيدة عن المنطق ده: المترجم الكبير د. فخري لبيب قدّم ترجمة مهمة جداً لرباعية الإسكندرية للورانس داريل. قريتها زمان ومظنش وقتها كنت هاقدر أقراها بلغتها. هو نص صعب ومليء بالمفاجآت والاستخدامات المغايرة للغة. كأنه مشهد كبير، لوحة تأثيرية، كتابة تشكيلية، من النصوص اللي المترجم لازم يكون قريب جداً من وجدان المؤلف عشان يقدر فعلاً يقف على كتفه ويقدم نص مُسافر لثقافة تانية، ولو كان النص نفسه عن مكان يخص الثقافة التانية اللي بيسافر لها النص، وإلا هتبقى الترجمة أشبه بنص استشراقي متعالي وممل.

وقفت على كتف الراحل الكبير فخري لبيب، ومعه لورانس داريل صاحب النص الأصلي، وقعدت في ليلة اشتغل على الصفحات القليلة الأولى من الجزء الأول من الرباعية: “جوستين”. على مدار خمس ساعات تقريباً كنت بأترجم وكل ما تستعصي عليّ حاجة مقدرش آخد فيها قرار أرجع لنصّ فخري لبيب العربي وأشوف أتصرف فيها إزاي. في الحالة دي هي مش ترجمة أصيلة، عشان لم تخرج كاملة من وجداني. لكنّه نصّ أعتز به جداً، وتجربة غريبة، بتقديمها بأحاول أشوف ممكن تثير التفكير في الترجمة والمعرفة والأدب في أي اتجاهات.. أهو نفكر مع بعض.

أهدي النصّ لروح الرائد فخري لبيب.. ترجمته للرباعية عمل ضخم ومُتعب ولا يجترئ عليه كاملاً إلا مُبدع مُغامر أو مثقف كبير.

البحر عالٍ اليوم من جديد، تصحبه دفقة مثيرة من الرياح. في وسط الشتاء يمكنك أن تشعر ببشارات الربيع. سماءٌ لؤلؤية عارية ساخنة حتى منتصف النهار، صراصير الغيط في أمكنة المأوى، ثم الآن الرياح تفك عُرىَ السهول العظمى، تنهب السهول العظمى.

هربت إلى هذه الجزيرة ومعي كتب قليلة وطفلة.. طفلة ميليسا. لا أعرف لماذا أستخدم كلمة “هربت”. يقول سكان القرية في مزاح إن رجلاً مريضاً فحسب هو الذي يختار مكاناً نائياً كهذا ليعيد البناء. ولقد أتيت هنا لأعالج نفسي، إن كنت لا تمانع في هذه الصياغة….

في الليل عندما تزأر الريح وتنام الطفلة في هدوء في مهدها الخشبي إلى جوار المدفأة ذات الصدى، أشعل مصباحاً وأشرد، مفكراً في أصدقائي؛ في جوستين ونسيم، في ميليسا وبلتازار. أعود حلقة وراء حلقة على امتداد سلاسل الذاكرة الحديدية إلى المدينة التي سكناها لبرهة وجيزة معاً: المدينة التي استهلكتنا كنبتاتها.. رسبت فينا صراعات كانت صراعاتها، وحسبناها خطًأ صراعاتنا: الإسكندرية الحبيبة!

اضطررت للابتعاد عنها لكي أفهم كل ما حدث! العيش على هذا الجرف المجدب، يستلبني نجم أركتوروس كل ليلة من الظلام، بعيداً عن التراب المُحمل برائحة الجير لتلك العصاري الصيفية. أرى أخيراً أنه ليس من اللائق أن يُحكم على أي منّا على ما حدث في الماضي. إنما هي المدينة التي يجب أن يُحكم عليها، فيما نحن – أطفالها – لابد أن ندفع الثمن.

* * * * *

بالأساس، ما هي مدينتنا هذه؟ ما المُفترض في كلمة الإسكندرية؟ في لمح البرق تُريني عين خيالي ألف شارع يعذبه التراب. الذباب والمتسولون يملكونها اليوم، ومن يتمتعون بوجود وسيط بين الاثنين.

خمسة أعراق، خمس لغات، اثني عشر ملّة: خمسة أساطيل تدور عبر ظلالها الشحيمة وراء حاجز الميناء. لكن هناك أكثر من خمسة أنواع جنسية ويبدو أن الديموطيقية الإغريقية هي وحدها المميزة بينها. أطايب الجنس الواقعة في متناول اليد مذهلة في تنوعها ووفرتها. لن يحدث أبدًا أن تظنها – خطأ – مكانًا سعيدًا. عشاق العالم الهيليني الرمزيون مُستبدلون هنا بشيء مختلف، شيء مخنث في مكر، منقلب على ذاته. لا يمكن أن يطرب الشرق بفوضى الجسد العذبة، إذ أنه تجاوز الجسد. أذكر نسيم يقول يوماً – وأعتقد أنه كان يقتبس – إن الإسكندرية هي مكبس نبيذ الحب العظيم، من يخرجون منه هم الرجال المرضى، المتوحدون، الأنبياء.. أعني كل من جُرحوا جروحاً غائرة في جنسانيتهم.

* * * * *

ملحوظات لباليته ألوان المنظر الطبيعي… تتابعات طويلة من التيمبرا.[1] ضوء مفلتر من روح الليمون. هواء مترع بتراب الطوب الأحمر.. تراب الطوب سكري المذاق ورائحة الأرصفة الساخنة المسقية بالماء. سُحب خفيفة رطبة، مصيرها الأرض لكن نادراً ما تجلب المطر. وعلى هذا دفقات من الأحمر الترابي، الأخضر الترابي، الموف الطباشيري، القرمزي الجيري المسقي ماءً. في الصيف لفت رطوبة البحر الهواء بخفة. كل شيء مغلف بالصمغ.

ثم في الخريف الهواء الجاف المرتعش، قاسٍ بكهرباء إساتيكية، يُلهب الجسم بغمره كالثوب الخفيف. الجسد تهب فيه الحياة، يحاول الفكاك من قضبان زنزانته. عاهرة مخمورة تسير في شارع مظلم ليلاً، تنثر شذرات أغنية كأنها بتلات الورد. أهنا سمع أنطونيو نغمات الموسيقى العظيمة المخدرة للفؤاد التي أقنعته بالتسليم أبدًا للمدنية التي أحبها؟

الأجساد “الغضبانة” للشباب تبدأ في تصيّد عرى رفيق، وفي تلك المقاهي الضئيلة التي ارتادها بلتازار كثيراً مع شاعر المدينة العجوز، يتململ الصبية بتبرم أمام أدوار الطاولة تحت مصابيح الزيت: تزعجهم هذه الرياح الصحراوية الجافة، تخلو من الرومانسية تماماً، تخفي أسرارها. يتململون ويتلفتون ناظرين إلى كل غريبة تمر. يلتقطون الأنفاس بصعوبة، وفي كل قُبلة صيفية يستشعرون مذاق الجير الحي…

* * * * *

اضطررت للمجيء هنا لكي أتمم إعادة بناء هذه المدينة في خاطري… الأحياء المكفهرة التي رآها العجوز عامرة بأطلال حياته السوداء. صليل الترام المُزلزل لأوردته المعدنية وهو يخترق ميدان المزاريطة المصطبغ بلون اليود. ورق ذهبي، فسفوري، منجنيزي. هنا تقابلنا كثيراً جداً. هناك “نصبة” صغيرة ملونة في الصيف عليها شرائح البطيخ، والدندورمة لامعة الألوان، التي كانت تحب أكلها. كانت تأتي متأخرة بضع دقائق بالطبع، تحمل طزاجة الخارجة من مهمة ما في حجرة مظلمة، مهمة أُبعد أفكاري عنها، لكن طازجة للغاية، شابة للغاية، بتلة الفم التي هوت على شفتي كصيف ظمآن. الرجل الذي تركته ربما ما زال يستحلب ذكراها، وكأنها ربما ما زالت ملطخة بلقاح قبلاته. ميليسا! بشكل ما لم يحمل الأمر أهمية تُذكر، والمرء يستشعر وزن تلك المخلوقة اللدن وهي تميل على ذراعه تبتسم بالصراحة الناكرة للذات التي يتميز بها من لا يخفون أسراراً. كان حسن أن نقف هناك، مرتبكان يعترينا شيء من الخجل، نتنفس أنفاساً متلاحقة لأننا كنا نعرف ما نريده من أحدنا الآخر. الرسائل تمر وراء الوعي، عبر الشفاه اللحيمة، العيون، الدندورمة، النصبة الملونة. أن نقف خفافاً هناك، أصابعنا الصغيرة متشابكة، نشرب ساعة العصاري المضمخة بعبق الكافور الثقيل، جزء من المدينة…

* * * * *

الليلة، رحت أتفحص أوراقي. بعضها تحولت للاستخدام في المطبخ، وبعضها أتلفتها الطفلة. هذا الشكل من أشكال الرقابة يسرني، إذ أن فيه من لامبالاة العالم الطبيعي بالتراكيب الفنية.. لا مبالاة بدأت أدلو بدلوي فيها. فما فائدة مجاز رهيف لميليسا وهي راقدة مدفونة عميقاً كأي مومياء في الرمل الضحل العامر بالدود عند مصب النهر الأسود؟

لكن الأوراق التي أحرسها بعناية هي الدفاتر الثلاثة التي دونت فيها جوستين مذكراتها، وكذا الدفتر الذي يسجل جنون نسيم. لاحظ نسيم تلك الأوراق وأنا أغادر فأومأ برأسه وهو يقول:

“خذها، نعم، خذها. فيها الكثير عنّا جميعاً. هي خليقة بأن تساعدك في دعم فكرة جوستين دون أن تجفل، كما اضطررت أنا لأن أفعل”. كان هذا في القصر الصيفي بعد موت ميليسا، عندما كان ما زال يصدق أن جوستين ستعود إليه. أفكر كثيراً – دون قدر من الخوف أبداً – في حب نسيم لجوستين. ما الذي يمكن أن يكون أكثر اكتمالاً ورسوخاً في ذاته منه؟ لوّن تعاسته بنوع من النشوة، الجراح المبهجة التي تخالك تصادفها في القديسين لا محض عشاق. لكن لمسة من روح الدعابة كانت لتنقذه من تلك المعاناة الرهيبة. أعرف أن الانتقاد سهل، أعرف.

* * * * *

في سكون أماسي الشتاء العظيم هذا، ثمة ساعة واحدة: البحر. زخمه الكابي في الذهن هو الإيقاع المتكرر الذي تستند إليه هذه الكتابة. ضربات إيقاعية خاوية لمياه البحر تلعق جراحها، تضطرم منزوية عند أخوار المصب، تمور لدى تلك الشطآن المهجورة، خاوية، خاوية أبداً تحت النوارس، شخبطة بيضاء على أرضية رمادية، تمضغها السحب. إذا نُصبت يوماً أشرعة هنا فهي تموت قبل أن تحفها ظلال الأرض. الحطام يتجمع لدى رؤوس الجُزر الصخرية، القشرة الأخيرة، أكلتها عوامل التعرية، علقت في بطن الماء الأزرق… ولّت!

* * * * *

عدا العجوز المتغضنة التي تحضر من القرية على ظهر بغلها كل يوم لتنظيف البيت، فالطفلة وأنا وحيدان تماماً. الحال سعيد ونشط وسط موجودات غير مألوفة. لم أسمّها بعد. بالطبع ستكون جوستين – من غيرها؟

بالنسبة لي فأنا لست سعيداً أو تعيساً. أرقد معلقاً كشعرة أو ريشة في مزيج الذكرى الملبد كالسحب. تحدثت عن لا جدوى الفن لكن لم أضف شيئاً حقيقياً عما يبعثه من عزاء. عزاء عمل كالذي أعمله، في العقل والقلب، يكمن في هذا: أن هناك فقط، في نوبات صمت الرسام أو الكاتب يمكن تسجيل الحقيقة، يُعاد تشكيلها وتُحمل على إظهار جانبها الوجيه. تصرفاتنا الشائعة في الحقيقة لا تربو كونها قماش رث يخفي ثوبا من ذهب، هو معنى النسق. فنحن الفنانين ينتظرنا الوصول للحل الوسط المبهج من خلال الفن، حل وسط نتفاوض عليه مع كل ما جرحنا أو هزمنا في الحياة اليومية. بهذه الطريقة، وليس لمراوغة المصير، كما يحاول الناس العاديون، إنما لتحقيقه بآفاقه الحقّة: الخيال. وإلا فلماذا نجرح بعضنا البعض؟ لا، الصفح الذي أنشده – والذي ربما يُمنَح – ليس صفحاً سأراه يوماً في عيون ميليسا الودودة البراقة، أو في نظرة جوستين الجهمة ذات الحاجبين الداكنين. لقد اتخذنا جميعاً مسارات متفرقة، لكن في هذا أول تشظّي كبير لي في سنوات نضجي. أشعر بمدى فني ومعاشي تعمق كثيراً بذكراهما. وفي إعمال التفكير استرجعهما مجدداً، وكأن هنا فقط – هذه المائدة الخشبية فوق البحر تحت شجرة زيتون، هنا فقط يمكنني إثراءهما بما تستحقان. لذا لابد أن مذاق هذه الكتابة قد أخذ شيئاً من موضوعه الحي: أنفاسهما، جلدهما، أصواتهما.. كتابة تغزل ذلك في نسيج الذاكرة البشرية المطواع. أريدهما أن تعيشا من جديد لدرجة أن يصبح الألم فن… ربما هذه محاولة لا نفع منها، لا أعرف. لكن يجب أن أحاول.

اليوم، انتهت الطفلة وأنا من تشييد الموقد الحجري في البيت معاً، نتحدث في هدوء أثناء العمل. تحدثت إليها وكأني أحادث نفسي لو كنت وحدي. تجيبني بلغة بطولية، هي لغة من ابتداعها. دفننا الخواتم التي جلبها كوهين لميليسا في الأرض تحت الموقد، كما جرت عادة هذه الجزيرة. سيضمن هذا حظاً سعيداً لأهل البيت.

* * * * *

وقت أن قابلت جوستين كنت على وشك أن أكون رجلاً سعيداً. فجأة انفتح باب على حالة حميمية مع ميليسا.. حميمية لا تقل عن الروعة لكونها غير متوقعة وغير مستحقة بالمرة. مثل جميع أصحاب الذوات المتضخمة، لا يمكنني تحمل العيش وحدي، والحق أن العام الأخير من العزوبية أسقمني؛ عدم تمكّني من المهام المنزلية، قلة حيلتي التامة إزاء الثياب والطعام والنقود، ما ألبسني حالة من القنوط. كنت قد ضقت ذرعاً أيضاً بالحجرات المسكونة بالصراصير حيث كنت أعيش وقتها، يرعاني حامد الأعور، خادم الحلاق.

اخترقت ميليسا دفاعاتي الرثة وليس بأي من الخصال التي قد يعددها المرء في حبيبة، لا السحر ولا الجمال الفريد ولا الذكاء، لا، إنما بقوة ما لا يمكنني سوى أن أصفه بنداء خيرها، بالمعنى اليوناني للكلمة. كنت قد أعتدت رؤيتها، على ما أذكر، شاحبة، أقرب للنحافة، ترتدي معطفاً رثاً من جلد الفقمة، تقود كلبها الصغير في شوارع الشتاء. يداها المتضائلة ذات الأوردة الزرقاء. حاجباها المرفوعان اصطناعياً لأعلى لتحسين تلك العيون عذبة الصراحة بلا أي جهد. رأيتها بشكل يومي لشهور عدة، لكن جمالها المُغضّب بالغ الخفة لم يوقظ فيّ رد فعل. يوم وراء يوم، أمر بها في طريقي إلى قهوة الأقطار حيث كان بلتازار ينتظرني معتمراً قبعته السوداء ليلقي عليّ “تعاليم”. لم يخطر لي أنني قد أصبح عشيقها.

كنت أعرف أنها كانت يوماً موديل في الأتيليه – وهي وظيفة حتمية – وأنها أصبحت راقصة، وأنها عشيقة تاجر فراء هرم، هو تاجر فج وفظ من المدينة. دونت ببساطة تلك الملحوظات القليلة لأسجل كتلة من حياتي سقطت في البحر. ميليسا! ميليسا!

* * * * *

أعود بأفكاري إلى الفترة التي كدنا لا نعرف فيها نحن الأربعة بوجود العالم. أصبحت الأيام ببساطة مساحات بين الأحلام، فضاءات بين طوابق الزمن المتغيرة، بين فترات التمثيل، العيش خارج المألوف… مد من الأمور عديمة المعنى تحوّم حول مستوى الأشياء الميت، لا تُدخلنا أي حالة مناخية، لا تؤدي بنا إلى أي مكان، لا تطالبنا بشيء اللهم إلا المستحيل: أن نكون. تقول جوستين أننا حوصرنا في إسقاط لإرادة قوية بشكل مفرط وعمدية بدرجة تنفي عنها صفة كونها بشرية.. الحقل المغناطيسي الذي ترمي به الإسكندرية من اختارتهم لتضرب بهم المثل…

* * * * *

الساعة السادسة. حركة شخوص في أردية بيضاء عند أفنية المحطة. المحال تعبأ بالناس وتخلو منهم كالرئة في شارع الراهبات. أشعة شمس العصاري الممتدة تلطخ انحناءات الحديقة، والحمائم مذهولة الأعين، مثل حلقات من الورق المبعثر، ترتقي المآذن لتستقبل أخر شعاعات النور الراحل على أجنحتها. رنين الفضة على كاونترات تجار العملة. القضبان الحديد أمام باب البنك ما زالت ساخنة يعزّ لمسها. جلبة وقع أقدام الجياد التي تجر العربات المحملة بالموظفين داخل آنية زهور حمراء متجهة إلى المقاهي على البحر. هذه الساعة الأقل قابلية للاحتمال، عندما ألمحها من شرفتي تسير متكاسلة نحو المدينة في صندلها الأبيض، ما زالت نصف نائمة. جوستين! المدينة تنفض تجاعيدها كسلحفاة عجوز وتطل حولها. للحظة تتخلى عن خرق الجسد الممزقة، ومن زقاق مخبوء إلى جوار المسلخ، فوق أنين وصراخ الماشية، تنبعث مقاطع خنفاء من أغنية حب دمشقية.. نغمة حادة، كالعظام تُسحق لتستحيل طحيناً.

ها هم الرجال المتعبون يعالجون مصاريع شرفاتهم ويخطون بعيون ترمش إلى الضوء الشاحب الحار.. زهور العصاري الذابلة تذوي في ألم، تتقلب على أسرّة قبيحة، تضمدها الأحلام. أصبحت واحداً من هؤلاء الكتبة التعساء المتحلين بالضمير، مواطن سكندري. تمر تحت نافذتي تبتسم وكأن مبعث الابتسامة مصدر خاص للرضا، تهوي بمروحة صغيرة من البردي على وجنتيها. هي ابتسامة لن أراها على الأرجح مرة أخرى، لأنها في رفقة الناس تضحك فقط، وتُظهر تلك الأسنان البيضاء الرائعة. لكن هذه الابتسامة الحزينة السريعة تكشف عن خصال لا يخال المرء أنها عندها.. القدرة على الشطط. كنت لتخالها ذات شخصية أكثر مأساوية وتفتقر لحس الدعابة المألوف. لكن الذكرى المخاتلة لهذه الابتسامة هي التي جعلتني أشك في هذا الاعتقاد فيما جد من أيام.

* * * * *

حظيت بلمحات كثيرة كهذه لجوستين في أوقات مختلفة، وبالطبع كنت أعرفها جيداً بالشكل من قبل أن نلتقي بفترة طويلة. فمدينتنا لا تسمح بمجهولية أي من سكانها الذين يزيد دخلهم السنوي على المائتي جنيه. أراها جالسة وحدها على البحر، تقرأ جريدة تأكل تفاحة، أو في بهو فندق سيسل، وسط النخلات المتربة، ترتدي رداء بلون الفضة، تحمل فراءها العظيم على ظهرها كما يحمل الفلاح عباءته.. سبابتها الطويلة ملتفة حول طرفه. كان نسيم قد وقف عند باب صالة الاحتفالات المغمورة بالضوء والموسيقى. كان قد افتقدها. تحت النخل، في كوة عميقة، يجلس عجوزان يلعبان الشطرنج. توقفت جوستين لتتفرج عليهما. لم تكن تفقه شيئاً في اللعبة، لكن هالة الجمود والتركيز التي تشع من الكوة تعجبها كثيراً. تقف هناك بين اللاعبين الأصمين وعالم الموسيقى لفترة طويلة، وكأنها لا تعرف أي عالم من العالمين تقرر الانضمام إليه. وأخيراً يأتي نسيم في نعومة ليأخذ ذراعها ويقفان معاً لوهلة، هي تتفرج على اللاعبين، وهو يتفرج عليها. وأخيراً تمضي في هدوء، على استحياء، إلى العالم المضيء مصحوبة بتنهيدة صغيرة.

[1]  من ويكيبيديا: وجد فن رسم التمبرا في زخارف التوابيت الفرعونية. وأشهرها مومياوات وجوه الفيوم. تمبرا أو تيمبيرا “أو تيمبرا البيض” هي طريقة تلوين سريعة الجفاف تتكون من صبغة ملونة مخلوطة بمادة صمغية لاصقة ذات وسط مائي، وفي الأغلب يستخدم صفار البيض. ظهر التمبرا منذ القرن الأول الميلادي وما زال مستمرًا إلى الآن. استمر استخدام التمبرا كمادة رئيسية في التلوين إلى القرن الخامس عشر أثناء عصر النهضة الأوروبية حيث تم اختراع الألوان الزيتية. يعرف هذا الفن بالفن القبطي أيضا للتصوير على الجدران وعلى اللوحات الخشبية وعلى غير ذلك من حوامل، وذلك بعد تحضيرها التحضير المناسب. ونجد أن كل الصور المصرية القديمة على جدران المقابر والمعابد وعلى الخشب وأوراق البردي من هذا النوع. وفي هذا الأسلوب يتم أولاً تحضير أرضية تصوير جافة تماماً، ثم يصور الفنان عليها بمواد تلوين مخلوطة بوسيط من مادة لاصقة تذوب في الماء، مثل الصمغ العربي أو الغراء الحيواني أو زلال البيض “صفار البيض”.

.

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s