الحق في الاعتراف بالحقوق والحق في إعادة التوزيع – قراءة في كتاب “المجتمع” لـ زيجمونت باومان

قرأ – عمرو خيري

فيما يلي فقرات متفرقة، متباعدة ومتصلة، من الفصل السادس في كتاب “المجتمع – Community” (صدر عام 2001) لزيجمونت باومان، عالم الاجتماع البولندي. لا يمكن قراءة هذا النص بصفته ترجمة أمينة، إنما تم اختياره وترتيبه وتبسيطه بشكل بدّل كثيرا من الأصل. هذا باختصار مُجتزأ من قراءتي للفصل المذكور، وليس ترجمة للفصل نفسه أو لأجزاء منه. القصد من هذه القراءة تقديم صورة عن مفهوم العدالة الاجتماعية كفكرة فلسفية، وتقديم صورة عن الكتاب وكاتبه.

العدالة التوزيعية والاعتراف بالحقوق

مزيج العدالة التوزيعية وسياسة الاعتراف، لنا أن نقول، هو الوارث الطبيعي للوعد الحديث بـ “العدالة الاجتماعية في ظل (الحداثة السائلة)”، أو كما قال جوناثان فريدمان: حداثة دون تحديث […] إذا أرادت فكرة “المجتمع الصالح” أن تحتفظ بمعناها في سياق الحداثة السائلة، فلابد أن تدل على مجتمع مهموم بـ “إعطاء كل شخص فرصة”، ومن ثم تذليل العديد من العقبات التي تحول دون انتهاز هذه الفرصة. نعرف الآن أن العقبات المقصودة لا يمكن تذليلها بإجراء واحد جامع مانع، من خلال نظام أو فعل يُفرض فرضا. تصبح الاستراتيجية الوحيدة الصالحة التي يمكن من خلالها جلب “المجتمع العادل” هي القضاء على المعوقات التي تحول دون التوزيع المتساوي للفرص، فرصة فرصة، مع تكشف الفرص وطرحها للناس بفضل عملية كشفها في حد ذاتها. […] صورة الحياة التي ستخرج [من هذا المزج بين العدالة التوزيعية والاعتراف [بالحقوق]] مع نهاية عملية تفاوض وشد وجذب بين حق التوزيع وحق الاعتراف ليست مما يمكن التنبؤ به أو استنتاجه، ولا يمكن استنباطها باتباع منطق تفكير الفلاسفة.

[…]

آلية لإدراك الإحساس بالظلم/للمطالبة بالعدالة الاجتماعية

كلما أثيرت مسألة “الاعتراف”، فالسبب يعود لأن فئة من الناس تعتبر نفسها محرومة نسبياً، وترى هذا الحرمان بلا سند أو سبب وجيه. كما رأينا في دراسة بارينجتون مور الابن الكلاسيكية عن الظلم، فإن الشكاوى من الحرمان قلما أثيرت في الماضي لمجرد أن فئة من الناس وجدت نفسها تكابد ظروفا تنطوي على انعدام المساواة. إن تدني جودة الحياة، بغض النظر عن مدى تعاستها وبؤسها وما تبعثه من كراهة في نفس المراقب الغريب، كان يعانيها الناس في صمت وتقبل، لا تبث فيهم روح المقاومة إذا هم استمروا على نفس الشاكلة من المعاناة لردح من الزمن فأصبحوا ضحايا اعتادوا التعاسة “الطبيعية”. لا يتمرد المحروم والمنزوعة حقوقه ضد وجوده البائس في الحياة، إنما يتمرد على “التحوّل الأخير”، يتمرد على ما يجدّ عليه من مطالب، أو جراء تناقص المعروض عليه من سبل الإعانة على العيش. “الظلم” الذي يهب المرء ضده ويتمرد يُقاس إلى ظروف الأمس، وليس إلى مقارنة فردانية بمن حوله من الناس.

آلية جديدة لتولد الإحساس بالظلم في ظل الحداثة

هذه القاعدة أعلاه التي ثبتت صحتها على امتداد أغلب حقب تاريخ البشر، بدأت تفقد إمكاناتها وصحتها مع مجيء الحداثة. وها هي الآن قد فقدت كل سلطة لها بالكامل. هناك جانبان من جوانب الحياة الحديثة يقوضان تلك السلطة أكثر من أي تغييرات أخرى جلبتها الحداثة في عقبيها. الجانب الأول هو إعلان المتعة أو السعادة مقصدا ساميا للحياة، والوعد المقطوع باسم المجتمع بكفالة ظروف تسمح بنمو متصل ومتسق في مجموع المتعة والسعادة المتوفرة للمرء. […] إذن لم يعد هناك دافع لقياس العدالة المتوفرة في ظروف المرء بأن يبحث عن قياسها في الذاكرة، لكن هناك أسباب كثيرة ليقارن المرء مصيبته بالمتع المعروضة في اللحظة الراهنة، حيث يستمتع غيره ويُحرم هو. “الظلم” إذن يغير معناه: أصبح يعني أن تتخلف عن الحركة العالمية نحو حياة أكثر متعة. […]

الجانب الثاني يختص بمعنى “الحرمان النسبي”. في الأصل […] كان الحرمان يعني المفارقة عن العادي، أن تعيش في ظرف استثنائي، أن تعاني من ظرف لابد أنه أسوأ من حاله كما يذكره المرء في الماضي. من هنا ترى انتهاك العدالة، أو حدوث الظلم. لكن مع مجيء الحداثة، التي وعدت بزيادة متصلة في السعادة، أصبح ثبات ظروف المعيشة مع غياب تحسن ملحوظ هو ظرف يمكن اعتباره في حد ذاته دلالة على الحرمان: إذا ارتقى مستوى معيشة فئات أخرى من الناس، على النقيض من ارتقاء مستوى فئتك المعيشية، أو إذا ارتقى الغير أسرع من ارتقائك، يصبح الموقف الذي كابدته بالأمس في صمت يُعاد طرحه كحالة من الحرمان، تستشعره انتهاكاً للعدالة.

عدم المساواة في الثروة والدخل إذن لا يمكن رؤيتها مسألة عدل أو ظلم، إنما العدل أو الظلم يتصل باتساع الفجوة بين ظروف المرء المعيشية وثروة من هم فوقه مباشرة، أو تضييق الفجوة الواقعة بين المرء ومن هم تحته مباشرة.. من هنا يأتي الإحساس بامتهان العدل ومن هنا تولد نبتة مطالب إعادة التوزيع.

.

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s