الدين والثقافة الرقمية: الديجيتال كمكان للاختباء

كتبت – كاثرين لوفتون لموقع The Immanent Frame
ترجمة – عمرو خيري

هل تبقى أي أسرار في العصر الديجيتال؟ ما الذي يعتبر مجهولاً في وجود محرك البحث في متناول اليد؟ هذه الأسئلة لها إجابات تقنية، ولها أيضاً ردود وجودية. ربما ليس هنالك شاهد مادي على ما يختبئ في هذا العصر المعلوماتي أكثر من مكان العمل المكتبي office workplace.

في عام 1975 تنبأت مجلة “بيزنس ويك” بالمستقبل الذي نشغله الآن. ورد في مطلع المقال أن: “خلال شهور، ظهرت ميكنة المكاتب كنظم كاملة سوف تؤدي إلى ثورة في كيفية العمل بالمكاتب”، واشتمل المقال على اقتباس من جورج باك، الذي كان يرأس مركز بحوث زيروكس في بالو ألتو: “لا شك على الإطلاق أنه ستحدث ثورة في العمل المكتبي خلال السنوات العشرين القادمة. ما نفعله يغير بيئة المكتب كما أحدثت الطائرة ثورة في عالم السفر، وكما غيّر التلفزيون من طبيعة الحياة الأسرية”.

على مدار السنوات الأربعين من بعد صدور هذا المقال، تحقق كل ما ورد فيه تقريباً من تنبؤات. تنبأ المقال بأن كل مكتب ستكون عليه شاشة طرفية مصحوبة بلوحة مفاتيح، وأن الوثائق سوف تُستدعى من ملفات على تلك الشاشة، وأن البريد سيأتي عبر الشاشة، وأن الشاشات ستُدمج بنظام كلي من خلال شبكة لتشارك البيانات والاتصالات والأمن، وأن الآلات الكاتبة ستحل محلها عمليات معالجة البيانات بصفتها المحور المركزي للعمل المكتبي، وأن قطاع الخدمات سينمو، وكذلك سعر العمالة التكنولوجية المتخصصة. أفادت مجلة بيزنس ويك بأن كل هذه الأمور ستحدث لا محالة، وكأنه أمر مخيف. قال باك: “ستتغير حياتنا بالكامل. ربما كان هذا مخيفاً إلى حد ما”.

لكن باك لم يوضح تماماً ما هو المخيف في الموضوع. هل هو مخيف لأن المعلومات التي لدينا ستزيد كثيراً وستزيد معها قدرتنا على الاطلاع واتساع مجال الخيارات المتاحة؟ أم هو مخيف لأنه ستسهل مراقبتنا وسنصبح متصلين ببعضنا البعض بشكل دائم وخاضعين تماماً للآلة؟

بغض النظر عن الخوف، فمن الواضح تماماً أن ما وعد به المقال قد تحقق. إننا نعيش في العالم المطروح حينها، عالم الميكنة والتكامل، عالم اتساع مجال قوة البيروقراطية وتضاؤل قوة العمل. أصبح من المألوف كثيراً مقارنة هذه الثورة الديجيتالية باختراع يوهانس جوتنبرج. أصبح مقارنة مألوفة لأنها حقيقية. كان يا مكان، مطبعة حولت إمكانية المتاح للناس التشارك فيه ورؤيته. وعلى امتداد خمسمائة عام عشنا في عالم الورق، وها قد أصبحنا نعيش في عالم وجود الورق فيه مصحوب بعلامة تعجب: هل نحتاج كل ذلك حقاً في نسخ ورقية؟

إذا أردت الوصول إلى أشخاص يتحدثون عن هذا التحول بتفاؤل هائل، فسوف تجدهم بسهولة، وإذا كنت تسعى لأشخاص يتحدثون عن هذا التحول بتشاؤم تام ستجدهم بسهولة أيضاً. بالنسبة للمؤرخين المعنيين بالأديان، لابد أن هنالك مناط تعجب واحد على الأقل، بما أن لحظة ظهور المطبعة واكبها تحوّل هائل في الخريطة الدينية. كيف هو الدين الآن إذن في هذا العصر الرقمي؟ إذا كانت مطبعة جوتنبرج أمدتنا بآلية الإصلاح الديني فما الذي تمكننا منه الثورة الرقمية؟

لننظر على سبيل المثال إلى أحلام العالم الخالي من الورق. أعلن مثلاً ف. ويلفريد لانكستر في عام 1978: “المجتمع الخالي من الورق يقترب بسرعة. تجاهل هذه الحقيقة لا يعني أنها لن تتحقق”. كان فريدريك ويلفريد لانكستر – من أشهر المؤلفين في مجال علم المكتبات – هو المتنبئ الرئيسي بنظم عصر المعلومات، من خلال كتبه “نحو نظم معلومات بلا أوراق” (1978) و”المكتبات والمشتغلون بالمكتبات في عصر الإلكترونيات” (1982). وكان لانكستر مطلق التفاؤل إلى حد بعيد فيما يخص هذا التحول: “ما أقترحه إذن هو أن الكتاب المطبوع سيحل محله شيء مختلف تماماً عن أي شيء رأيناه إلى يومنا هذا، وسوف يحدث هذا لأن الوسيط الذي سيحل محله سيُنظر إليه على نطاق واسع بصفته أفضل”، كذا قال موضحاً في عام 1985. أحس أن لا سبيل لمقاومة المشتغلين بالمكتبات للمد الاستهلاكي المصاحب لهذا الوسيط الجديد. سوف يرغب الناس في التغيير “سواء رغبنا فيه أم لا، فالمجتمع يتطور من حال حيث الاتصالات الرسمية كانت على مدار قرون تعتمد بشكل شبه حصري على الطباعة على الورق، إلى مجتمع جديد حيث الاتصالات الرسمية ستكون إلى حد بعيد بدون أوراق”.

ونحن نقرأ لانكستر، من الصعب ألا نربط مخطط التحول الرقمي هذا بإمكانات حدوث إصلاحات جديدة. يكتب لانكستر، في عام 1995: “وجود الكمبيوتر وشبكات الاتصالات تسمح لنا الآن بتصور مقاربة جديدة تماماً للنشر الأكاديمي، حيث تتجاوز الجامعات الناشرين الحاليين للدوريات العلمية وتنشر نتائج بحوثها في قوالب إلكترونية”. ومن منظور مؤرخ الأديان، يمكننا أن نرى شيئاً مألوفاً في كل ترويج متفائل للسبل الرقمية بصفتها أكثر حرية وأقل هيراركية وأقل تعثراً وتنظيماً. الشبكات تصيغ دروباً تعد بروح حقيقية وعلاقات غير مقيدة، مع تفعيل الصلات التي نرغب فيها حقاً. هذا هو المجال الأنطولوجي للحياة الرقمية، حيث الأطروحات حول حريات هذه الحياة غير المسبوقة تدحض أي مزاعم بالإكراه.

في عام 2004 تحدث ديفيد كول – محرر “دورية المكتبات الأكاديمية” – عن تنبؤ لانكستر ونتائجه. توصل لأن الحواسب سرعت من استخدام الأوراق، وأن مبيعات الكتب زادت بشكل هائل، وأن المكتبات الأكاديمية اشترت نحو 7000 كتاب أكثر في عام 2002 مقارنة بمبيعات عام 1987. في حين تناقص عدد مرتادي المكتبات الأكاديمية وحركة الكتب والدوريات داخلها والتعاملات الأخرى. هذا التناقض في البيانات قادر على أن يحيرنا. هناك قطعاً أشياء أكثر بكثير. لكن هل التعاملات على هذه الأشياء الأكثر زادت؟

خلال السنوات العشر الأخيرة من بحوث كول، اقترح علماء الاجتماع أن التوجه إلى التحول الرقمي قد زاد، مع خروج أجيال جديدة من العمال المكتبيين من الجامعات، حيث كانت محاضراتهم ومناهجهم الدراسية على الإنترنت، ومن الجامعة أخذوا إلى مكان العمل معهم عاداتهم الخالية من الورق، إذ يفضلون الأشياء التي يمكن عمل tag لها وخلطها وتعقبها ورفعها على سحابة إلكترونية. منذ عام 2001 راح ينحسر حجم استخدام العمال المكتبيين الأمريكيين للورق. المكاتب بعيدة كل البعد عن كونها خالية من الأوراق، لكن معدلات استخدامها للورق في انحسار، وهو الانحسار الذي يعود جزئياً إلى تحول سوسيولوجي عند الدارسين في الجامعات، وبسبب كيف نتعامل مادياً مع طلابنا. الأولاد لم يعودوا راغبين في النسخ الورقية. ونحن، مع تضاؤل ميزانيات العمل المكتبي، أصبحنا نعتبر الأدوبى أكروبات هو مطبعة زمننا هذا: كل شيء يصدر في صيغة الـ pdf.

هذا هو تخصصي: دراسة الأحلام والممارسات التي تظهر لتفعيل الأحلام، انتشار هذه الأحلام وتعميمها من خلال سلطة كاريزمية ومأسسة هذه الممارسات لتتحول إلى نظم داخل أروقة المؤسسات، والإحباط الحتمي عندما تدرك الجماعات أنها تائهة في خضم الممارسات وأنها ضلت تماماً عن الحلم.

الرقمي/الديجيتالي ينتج هذه المسارات بتراكم منتظم. لابد من فهمه كمفهوم دون محتوى تقني. إنها حكاية دالة عن مادية لامادية: التحول الرقمي قوي للغاية، لكن قوته تكمن بالأساس في الابتعاد عن القابلية للرؤية الهيكلية الظاهرة والاختفاء.

لأسوق مثالاً على سبيل التوضيح، أقدم فيه ما أقصده. هو مثال حضرني من خلال مالكولم جلادويل، ولنعتبره مبشراً إحيائياً من عصرنا الحاضر، يقدم أوصافاً واضحة للتكنولوجيات، الكبيرة والصغيرة، من خلال عمله الصحفي الذي يتناول سوسيولوجيا النظم واقتصاديات الابتكار. في عرضه في مجلة “نيويوركر” لكتاب “أسطورة المكتب الخالي من الورق” (2003)، يزور جلادويل من جديد حياة ملفيل ديوي، الإصلاحي الذي ظهر مع مطلع القرن العشرين ليحدث ثورة في تنظيم المكتبات من خلال نظام ديوي العشري الذي ابتدعه. كان نشاط ديوي الأساسي هو شيء يُدعى “مكتب تنظيم المكتبة”، وهو شركة إمداد للمكتبات تبيع الكروت والخزائن والمقاعد والاستمارات ودواليب العمل المخصصة للأرشفة. دواليب العمل المخصصة للأرشفة filing cabinets هي التي أريد أن أركز انتباهي عليها، بما أن ابتكار ديوي للملف العمودي vertical file أحدث ثورة في تنظيم المكاتب، وأنهى عصر استخدام الخانات المتجاورة في مكاتب السكرتارية ليدشن نظام مكان العمل الخاص بالقرن العشرين، حيث يتم الاحتفاظ بالسجلات مخبوءة داخل دواليب الأرشفة، كمبدأ جمالي وتنظيمي في الوقت نفسه. مقابل هذا الابتكار، مُنح هذا النظام الملفي الميدالية الذهبية في المعرض العالمي لعام 1893، لأنه، كما قال جلادويل: “عالج بشكل نظيف تهديد الفوضى الذي تفرضه عملية انتشار الأوراق في أرجاء المكتب”. في كتابه “فهم الوثائق في العصر الرقمي” الصادر عام 2011 يقول عالم الحواسب ديفيد م ليفي إن ديوي كان الضد لوالت ويتمان وما يمثله، وأن رؤية ديوي لنمذجة الحياة انتهى بها المطاف مكوناً كبيراً من مكونات النفسية الأمريكية، بقدر ما كان ويتمان مقبلاً على العالم كما هو دون تغيير.

ها قد أصبحنا في القلب من الدراسات الدينية، على قاعدتين تاريخيتين: أولاً، من خلال الاقتران المكاني الذي لم يحدث مصادفة، إذ حلت تلك الميدالية الذهبية فوق ملف عمودي في أرض معارض شيكاغو التي انعقد فيها مؤتمر الأديان العالمية عام 1893 والذي اصطفت فيه جموع المشاركين في طوابير منتظمة أيضاً. ثانياً، من خلال التناقض بين ديوي المهووس بالنظام وويتمان الميتافيزيقي بشكل مطلق. في السياق الأول، قد ننظر إلى سبل دراسة واستعراض الأديان في عصر مهتم كثيراً بالتصنيف وتنظيم الملفات وتنظيم فوضى العالم. في السياق الثاني، قد نفكر في فصيلين من الإنسانية، فصيل ديوي وفصيل ويتمان، وبينهما شد وجذب لا ينتهي: الرغبة في النظام والرغبة في الحرية. العامل المكتبي والشاعر؛ الملتزم بالصراط المستقيم لا ينحرف عنه والمهرطق المبتعد عن كل مألوف. يمكننا فهم القرن العشرين من هذا المنطلق، في التناقض بين المنتظم والديناميكي المتغير.

إلا أنه في معرض تنظيم التكنولوجيا الأمريكية، فإن هذين النمطين: المنتظم والديناميكي المتغير – بدءا في الاختلاط. في عالم ستيف جوبز (الذي نقطنه جميعاً، بغض النظر عن طائفتنا الرقمية) ما الخط الفاصل بين الحالم والمُنظم؟ من هو ويتمان الآن ومن هو ديوي؟

لأعود إلى لانكستر، الملك النبي المتنبئ بمستقبل المكتبات، الرجل الذي أعلن في الماضي ما يتحقق الآن. ثقة لانكستر في مستقبل الورق تأتي من مشاوراته مع السي آي أيه في منتصف السبعينيات. كما أشار، فإن أفضل الممارسات على المهنية اللاورقية حدثت في نطاق المعلومات. كان معجباً بهذه العوالم التي اختفى منها الورق أسرع من غيرها من العوالم: النخب العسكرية، كبار المديرين في الشركات، عملاء المخابرات.

العوالم التي اختفت منها الأوراق أولاً لم تكن – كما تبين – مصممة لإتاحة عالم أكثر انفتاحاً. إنما كانت – دون استثناء – مجتمعات معنية بشكل عميق بالسيطرة على المعلومات. كانت تريد إخضاع المعلومات لسيطرتها أكثر من اهتمامها بتعميمها لصالحي وصالحك. وسط تفاؤلنا هذا حول ما يمكن للتحول الرقمي أن ينجزه، يبدو أن هذه هي القصة الأصلية واجبة التذكر.

لنتذكر أن المنتجات الأولى لمطبعة جوتنبرج أنتجت على سبيل الترف، ثم طُبع الكتاب المقدس. معرفة ما يمكن لوسيط ما أن ينجزه مع انطلاقته لا تعني معرفة تاريخه. إنما لا يزيد الأمر عن الإشارة إلى طبيعة الطاقة المصاحبة لانطلاقة هذا الوسيط. قد نرى الإنترنت بصفتها انفتاح وتوفر وإمكانية لتقليص الخصوصية وكشف الذات. لكن ماذا لو كان كل هذا ليس أكثر من نذر يسير من إمكاناتها الأساسية، وهي أساساً ألا يعرف أي منا مطلقاً طبيعة ما يحدث حقاً؟ الرقمي/الديجيتال بداية جديدة. الرقمي/الديجيتال مكان للاختباء. بين هذه الجملة وتلك يكمن عمل الكثير من المعنيين بالعلوم الإنسانية، وربما للطالب المعني بالأديان أكثر من أي من المعنيين بالعلوم الإنسانية.

كاثرين لوفتون هي أستاذة الدراسات الأمريكية والدراسات الدينية والتاريخ واللاهوت في جامعة يال. وهي متخصصة في أديان القرنين التاسع عشر والعشرين في الولايات المتحدة وكتبت عن الديانة الأفريقية الأمريكية والاستهلاكية والدراسة الأكاديمية للدين. 

.

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s