كتب: محمود حسني – نشر بجريدة القاهرة – الثلاثاء 31 مارس/آذار 2015
يمكننا من خلال تأمل العنوان أن نفكر فيما تريده الكاتبة من وراء هذا العمل (الصادر عن دار سلامة – 2015) ليس على مستوى المحتوى فقط بل أيضًا على مستوى اللغة المستخدمة. لا تريد الكاتبة لأفكارها -التي أجدها هامة – أن تُعرض في قالب أكاديمي نخبوي، فيكون مصيرها أن تظل حبيسة القراءة في حدود شريحة ضيقة من قراء الوسط الثقافي وما يمكن تسميتهم بالنخبة (النخبة هي أكثر المصطلحات التي اشتبكت معها الكاتبة بوضوح في عملها) ولكنها تريده أن يصل إلى شرائح أكثر اتساعًا من القراء. فعمدت إلى محاولة التخلي قدر الإمكان عن اللغة الأكاديمية الجافة، واستبدالها بلغة بسيطة دون ابتذال للمفاهيم أو المضمون. ولا يعني هذا أن العمل خلى من مصطلحات أكاديمية، ولكنها غالبا ما تكون متبوعة بمحاولات تفسيرية بأمثلة ثقافية متعارف عليها.
يتمركز الكتاب على فكرة العبور بالمجتمع المصري من الحالة التقليدية للحداثة. وتتصل بهذه الفكرة باقي أفكار العمل من إشكاليات حول الخلل الذي حدث لهذا العبور من خلال عرض مجموعة من النقاط في سياقها التاريخي والاجتماعي، أدت بالنهاية إلى كوننا مجتمع يبدو على المستوى الشكل به مؤسسات حداثية، ولكنه على مستوى الأفراد والأفكار مازال أسيرًا للأفكار التقليدية. وهو ما انعكس في شوارع القاهرة من خلال ظهور الكثير من التناقضات، أبسطها كان في تجاور العربيات الفارهة وعربيات الكارو. الأمر الذي يفضي بنا إلى حقيقة أن تحول المجتمع المصري إلى الحداثة لم يكتمل إلى الآن كما يشير عنوان العمل.
تستخدم الكاتبة السياق التاريخي والاجتماعي لتنتقل بالحديث من وصف الحالة السياسية إلى الوضع الثقافي بداية من دولة محمد علي مرورًا بجمهورية يوليو وفترة السبعينات وصولًا لثورة 25 يناير وما تلاها. ولكن الكاتبة ترى، وبشكل خاص، أن جمهورية يوليو كانت سببًا رئيسيًا في الكثير من المشكلات التي أصابت الحالة الثقافية للمجتمع المصري والتي مازلنا نعاني منها حتى الآن. فما حدث من عملية يمكن تسميتها بـ “تأميم للإبداع” وما ترتب عليه من تحول المبدعين إلى موظفين في كيان الدولة، أفقدهم سواء جبرًا أو اختيارًا القدرة على انتقاد المؤسسة الحاكمة أو الاختلاف معها. مما جعل الوسط الثقافي يبدو وكأنه يحمل نفس الصوت والتوجه. الأمر الذي بالتأكيد أثّر بالسلب على الثراء والتعددية التي يحتاجها أي مجتمع في إنتاجه الثقافي كما يحتاجها في باقي نواحي الحياة.
تربط الكاتبة بين رغبة الحاكم في تحول المجتمع للحداثة من ناحية وبين المجد الشخصي الذي يسعى إليه من ناحية أخرى، سواء كان الأمر في دولة محمد علي صاحبة الطموحات التوسعية، أو في جمهورية يوليو التي بحثت عن قيادة للعالم العربي. ولكن لأن هذه المفاهيم التي تبنتها الدولة كانت هشة وخالية من المضامين الأساسية لأي فكرة حداثية حقيقية، لم تجد لها جذور في المجتمع ولم يتح لها الفرصة لتنضج كفكرة متداولة في عقول الناس. لذا كان من السهل الإنقلاب على كل هذه المحاولات بداية من السبعينيات مع دخول رأس المال الخاص في عملية صناعة المنتجات الثقافية وخفوت دور الدولة. الأمر الذي أصاب الوضع الثقافي – وهو انعكاس لوضع مجتمعي – بالتخبط وانعدام الهدف.
فهذا التحول المفاجيء للمنتج الثقافي من كونه خدمة مقدمة من الدولة إلى سلعة مدفوعة الثمن في ظل عدم حدوث تغيير حقيقي على المستوى الاقتصادي/الاجتماعي، جعل الأمر في النهاية مجرد تحول في شكل، خاصة بعد ما أصاب الطبقة المتوسطة من نحولة واضحة بداية من فترة السبعينيات. تستدل الكاتبة على ذلك بأمثلة ثقافية متعددة. ولكن غالبا ما تكون استدلالاتها بأعمال سينمائية لكونها واحدة من أكثر المنتجات الثقافية انتشارًا بين كل طبقات المجتمع تقريبًا. لتوضح ما ترمي إليه وتحلل التغيرات الثقافية التي حدثت في حياتنا من خلال المواضيع التي تناولتها هذه الأفلام.
ترى الكاتبة أن النخبة الثقافية دائما ما أوجدت تحالفاتها سواء مع الدولة أو رأس المال الخاص. وأن هناك جزء ليس بقليل من النخبة يريد احتكار المنتج الثقافي وإحاطته بهالة من القدسية تمنع الكثير من فئات المجتمع الأقل اجتماعيا واقتصاديا من الوصول إليه. مما يتسبب بشكل أو آخر في حدوث هبوط في الذوق العام، وهو الأمر الذي كثيرًا ما اشتكى منه المثقفون وهم في الحقيقة جزء من حدوثه. ترى أيضا أن المؤسسات الثقافية تحاول إيجاد مساحة لنفسها في ظل حالة التوجس التي تعيشها الدولة المصرية من لفظة مجتمع مدني. ترصد نجاح الجمعيات الأهلية التقليدية في الوصول إلى المواطن وتعيد جزء كبير منه إلى توقف الدولة عن تقديم الكثير من الخدمات الأساسية إلى أفراد المجتمع الأكثر احتياجًا. الأمر الذي استطاعت فعله هذه الكيانات سواء كانت ذات صبغة دينية أو تضامنية.
تلفت الكاتبة انتباهنا إلى أن لفظة “الجمهور” تعميمية منقوصة. فليس هناك جمهور واحد أو طابع ما يشترك فيه كل المهتمين بالمنتج الثقافي. تقول أيضا أن أي مجتمع يحتاج لهذا الاختلاف والتنوع الذي من شأنه إثراء العمل الإبداعي الذي ربما يكون خطوة على طريق التحول للحداثة التي تنبت، في أي صيغة لها، من جذور أساسية كالحرية والديموقراطية والمساواة أمام القانون.
لا تكتفي بذلك بل تشير أيضا إلى أن منظومة الحداثة لها عيوبها. وأنها كنظام ثقافي/ إجتماعي فرض نفسه، يجب أن يكون لدينا وعي حقيقي حول رغبتنا في التحول إليه سواء بالشكل الذي فعلته أوروبا أو بالبحث عن طرق أخرى أكثر ملائمة لوضعنا الثقافي والإجتماعي بتشابكاته. ولكنها هنا لا تقدم أطروحات حول هذه “الطرق الاخرى”. تقول أن هذا الأمر ليس من السهل إيجاده في شكل تنظيري متسق مع ذاته فما بالك بواقع عملي. ولكنها تطرح كل ذلك لتجعلنا نتسائل: هل فعلا نؤمن بالحداثة ونريد تحقيقها بكل شروطها أم أننا مازلنا نريد شكلها الخارجي الفارغ من مضمون حقيقي؟