كتب: جين زيمرمان لموقع Biographile ترجمة – رضوى أشرف
لطالما اعتدنا الضحك على جملة زوجي “ربتها الذئاب” على طاولة العشاء أثناء مراقبتنا لطريقة تعامل ابنتنا مع أدوات الطعام. ولكن تلك الجملة استوقفتني. من المتوقع أن يصدر فيلم جديد لطرزان بحلول عام 2016، إخراج ديفيد ياتس، الذي أخرج أفلام “هاري بوتر” الأربعة الأخيرة للنور. وعلى نفس الصعيد ومنذ بضعة سنوات إدعت امرأة تدعى مارينا شابمان بأن قرود الكبوشي بالأدغال الكولومبية تولت رعايتها.
لما يبدو وكأن أطفال البراري، أو البشر الذين تربوا في كنف الذئاب – أو الغوريلات مثل طرزان، أو القرود مثل شابمان – يبهروننا؟
حققت قناة كوكب الحيوان نجاحًا ببرنامج “حياة وحشية” عند عرضهم لنماذج بشرية تولت رعايتها قرود، قطيع من الكلاب، وحتى سرب من الدجاج. وقد صادفتني قصص خيالية عن دببة وماعز كانوا بمثابة آباء، وحتى قرأت عن طفلة اهتمت بها الفئران. يواجه عقلي صعوبة في تقبل ذلك، كيف من الممكن أن ينجح هذا الأمر، أن تكبر وسط البرية؟
ولقيامي بكتابة عمل يتناول هذه الفكرة، أجريت بعض الأبحاث عن ظاهرة الأطفال الوحشيين على مر التاريخ. تعود بعض الكتابات القديمة لرومولوس وريموس، ولدان أسطوريان رضعا من نفس أنثى الذئب. ليكبر الشبلان الصغيران ويحكما روما فيما بعد.
أمضى فلاسفة العصر الفيكتوري بعض الوقت مع أحد تلك النماذج، يحاولون التعرض لمختلف التساؤلات المصيرية عن هؤلاء الأشخاص الذين نشأوا بعيدًا عن مظاهر التمدن. وتسبب جدال الطبيعة مقابل التنشئة بإشعال مخيلات مفكري القرن التاسع عشر. وبدا نموذج طفل الأدغال مناسبًا للمناظرات والنقاش.
في القرن التاسع عشر، كان لمنظور الطبيعة مقابل التنشئة آثار فلسفية، واجتماعية، وأخلاقية. هل من الممكن تحسين البشر؟ هل من الممكن أن يتحول طفل متوحش لشخص متحضر؟ أيمكن تحويل أشباه أوليفر تويست في عشوائيات لندن ونيويورك وتعليمهم ورفع مكانتهم ببعض العون من إخوتهم الأوفر حظًا؟ كانت كل هذه أسئلة خطيرة في وقت كانت فيه الأحوال الاقتصادية أكثر اضطرابًا من الوقت الحالي.
أما في عصرنا الحالي الأكثر نرجسية، تأخذ الأمور منحنى أكثر خصوصية. قد ننبهر بمدى سهولة تحول الإنسان إلى مخلوق أكثر بدائية. قد نقوم بقلب نفوسنا رأسًا على عقب بحثًا عن الطفل البري بداخلنا.
وسنلاحظ ذلك عند مشاهدتنا للأفلام، كاسبر هوزر الذي ظهر يومًا ما عام 1828 على بوابة مدينة نورمبرغ الألمانية، أصبح محور فيلم للمخرج الألماني فيرنر هيرزج. وأتذكر التأثير العميق الذي تركه فيّ فيلم فرانسوا تروفو “الطفل الوحشي” لعام 1970، عندما شاهدت جان بيير كارجول اليافع بشخصية فيكتور من أفيرون الشهيرة، وهو يجري على أطرافه الأربع. وعندما تشاهد بشري يجري على يديه وقدميه يغمرك شعور غامض ويطغى على عقليتك الحديثة، ويكون تأثيره شبيه بشبح ذكريات من زمن بعيد.
وبعيدًا عن الخصائص الجسدية، دائمًا ما يكون محور النقاش فيما يخص طفل البرية هو اللغة. تسائل مفكرو العصر الفيكتوري عن كيف يمكن لشخص بدون لغة أن يمتلك روحًا. ويمكننا تحريف هذا السؤال قليلاً الآن، لنسأل عما إذا كانت الكلمات ضرورية لتحدد هوية البشر.
كان فيكتور من أفيرون في مقتبل مرحلة البلوغ عندما ظهر من الغابة في ريف فرنسا عام 1798. وكان صوته الشبيه بحشرجة الحيوانات البرية وتمرغه عاريًا في الثلج بمثابة دليل لحياته التي بدأت في البراري. في النهاية، تمكن فيكتور من النطق بكلمات فرنسية قليلة: مثل “لبن” والذي كان يحبه بشدة، و”يا إلهي” التي كانت تكررها مدبرة المنزل بكثرة.
أما في عام 1726، تمكن الصيادون من الإمساك بمراهق أصم عارٍ في الغابات الألمانية بمقربة من هاميلن، والذي أصبح حديث أوروبا فيما بعد. قام الملك جورج الأول بإحضار “بيتر المتوحش” لبلاطه في لندن، حيث استمتع الفتى باللعب بثمار البلوط بينما تنتابه الحماسة كلما سمع دقات الساعة.
لاقت الأنثروبولوجيا رواجًا شديدًا، مع تزايد أقاويل الناس من مختلف الدول عن وحوش وحيوانات غريبة. أكان بيتر بشريًا حقًا أم أنه لم يكن سوى قرد أورانجوتان؟ أوحى هذا المخلوق الغامض بالعديد من التعليقات والرسومات الساخرة. فمن ضمن ما تم وصف بيتر المتوحش به أنه كان لصًا محترفًا، ولكنه لم يتكلم قط.
ويُقدم القرن الثامن عشر مثالاً آخر لأطفال البرية، وهي ماري أنجليك ميمي لي بلانك، والتي عُرفت بطفلة سونجي البرية. ولدت وسط مجتمع من السكان الأصليين بأميركا ونُقلت فيما بعد من كندا لمرسيليا عام 1720، وتجولت في غابات فرنسا لعشر سنوات قبل أن تخرج منها سالمة.
لم يكن سبب نجاة لي بلانك تربيتها وسط الذئاب بل مهاجمتها لهم بهراوة. وبعد الامساك بها، أمضت عقد من الزمن عاجزة عن الكلام قبل أن تتمكن أخيرًا من النطق ببضع كلمات. انتشرت قصتها – وبدأت الكتب والمنشورات، من كتابات علماء التاريخ والطبيعة بتفسير تاريخها البري وشرحه للمهتمين.
وما قد تبدو أنها أعراض التنشئة في البرية قد تكون في الأصل نتاج سوء معاملة أو مرض عقلي. كاسبر هوزر مثلاً استطاع تذكر ملامح لطفولة مُعذبة، حيث تم حبسه في غرفة مظلمة، وكان طعامه يقدمه له رجل لم يره. فهو لم يكن طفل ربته الذئاب، بل إنسان مفترس. قُتل هوزر في نهاية المطاف في حديقة عامة من شخص مجهول ببلوغه عامه الثاني والعشرون.
يتناقش علماء الاجتماع في مدى صدق قصص أطفال الأدغال. قام أحد الأساتذة في علم سلوكيات الحيوان بتأييد الفكرة أثناء حديثه مع صحفي: “لدينا حوالي 450 حالة مع الكثير من التوثيقات وتشمل جميعها حيوانات مختلفة – أغلبيتهم من القردة.” بينما يقوم باحثون آخرون بنفي الظاهرة بأكملها.
ولكننا نرغب في تصديق وجودهم، بدءًا بشخصية كيبلينج الأشهر ماوجلي الذي ربته الذئاب انتهاءً بطرزان، فقد تقبلنا وجود نسخ خيالية من بشر تربوا خارج نطاق الحضارة – أو ما أسماه كيبلينج بـ”قرية البشر”. ونشتهي سماع المزيد من تلك القصص، مهما بدت غريبة وصعبة التصديق، مثل فتى النعامة المسمى بهادارا، الذي تاه من والديه في الصحراء بينما كان عمره سنتان ليعود لهم بعد عشرة أعوام، الفتى التشيلي الذي ربته الفهود، أو روبرت الذي عاش وسط قرود الفيرفيت لثلاثة أعوام بعد أن تيتم أثناء الحرب الأهلية بأوغندا، أو الفتى البيروفي الذي نشأ وسط الماعز.
ربما ما نشعر به هو حالة من الحقد تجاه أطفال البراري، كما تصفها كلمات أغنية للمغني بريت دينان والتي تجعل حياة البرية تبدو وكأنها الحياة الأمثل: أنا طفل بري/أرغب في الجري بحرية/لا أرغب بأن أتبع خطط شخص آخر/أرغب بأن أشعر بشعور جيد/أرغب بأن أشعر بالشمس.