الرياح تغيّر مسارها: شعبوية يسارية جديدة في أوروبا

كتب – م. برينتوليس و ل. توماسن لموقع “تحليل اليونان
ترجمة  – ضيّ رحمي

شبح يخيم على أوروبا: شبح الشعبوية. لكن، هذه المرة ليست شعبوية لوبان وهايدر اليمينية المتطرفة، وإنما شعبوية يسارية جديدة تتحدى ليس فقط أحزاب اليمين، ولكن الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية والأحزاب اليسارية التقليدية أيضًا.

فبينما ينصب اهتمام الجميع هذه الأيام على اليونان بعد فوز سيريزا، يواصل اليسار الشعبوي الراديكالي الصعود في أماكن أخرى، خاصة في إسبانيا التي بصدد إجراء انتخابات محلية في 2015. وحتى بعيًدا عن اليسار الراديكالي، أصبحت الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية أكثر صراحة في إعلان موافقها ضد خطط التقشف الأوروبية وسياسات النيوليبرالية. فعلى ما يبدو أن دعمها لمثل هذه السياسات باعد بينها وبين أبناء شعوبها، والآن هذا الإدراك بدأ يتكشّف ببطء.

فهل سنشهد ميلاد خطاب شعبوي جديد في أوروبا؟ وهل ستغير الرياح مسارها من أجل شعوب أوروبا؟

اهتمام وترقب
الحضور غير المسبوق لوسائل الإعلام الدولية، ولوفود التضامن وممثلي الأحزاب الاشتراكية واليسارية في أثينا قبل وأثناء الانتخابات يشير إلى أن انتصار سيريزا كان شيئًا أكبر من كونه مجرد انتصار انتخابي جديد. وبينما تحاول النخب الأوروبية تفسير فوز سيريزا باعتباره ظاهرة يونانية غريبة، فإنها في ذات الوقت تخشى من انتقال عدوى المرض اليوناني لشعوبها. أما بالنسبة للأحزاب والمجموعات اليسارية الراديكالية في مختلف أرجاء أوروبا، فإن نصر سيريزا مثّل لهم بارقة أمل.

في الثاني والعشرون من يناير، وقبل ثلاثة أيام من الانتخابات، نظّم الحزب مسيرة حاشدة في أثينا خطب فيها أليكسيس تسيبراس رئيس الحزب، وبابلو اجليسياس رئيس حزب بوديموس الاسباني. وكليهما قدّم خطابًا جديدًا يركز بالأساس على الديمقراطية والمشاركة وحقوق الشعوب.

وهمّ لا يتحدثون باسم قوى السوق الخفية، ولا باسم طبقات محددة. ولا يدعون تمثيل جماعات بعينها دون غيرها – العاطلين أو الطلاب أو العمال أو النساء، إلخ – فبعيدًا عن تلك التقسيمات همّ يتكلمون باسم الشعب. وهذا ما يجعلهم شعبويين، وهذا أيضًا ما يثير حنق وغضب الأحزاب الأخرى، اليمينية واليسارية على حدٍ سواء.

مرارًا وتكرارًا، يتهمون سيريزا وبوديموس بالشعبوية. والشعبوية هنا تستخدم بمعنى تحقيري: إرضاء أرعن لكتل جماهيرية غاب عقلها. وفي نظر أحزاب اليمين، وكذلك الاشتراكيين الديموقراطيين، فإن الجناح  اليساري الشعبوي يعد  الشعب بالمستحيل: وذلك أن الشعب يمكن أن يحكم، وليس السوق.

وبالنسبة للأحزاب اليسارية التقليدية القديمة، فإن الحديث الشعبوي يحجب بالفعل ويشوش على ما هو مهم حقًا: الصراع الطبقي. ويعتبرون وعودهم وادعاءاتهم محض هراء: فالأعداء الطبقيين لا يمكن، ولا يجب، أن يتحدوا تحت راية شعب واحد. أما بقية الأحزاب الأخرى، فترى أن المطالبة بالتحدث للشعب أمر سخيف، مناف للعقل. لكن، جناح اليمين، والاشتراكيين الديمقراطيين واليسار التقليدي، جميعهم خسروا أصوات الناخبين لصالح هؤلاء اللاعبين الجدد.

الشعبويون هم اللاعبون الجدد. هم القوى السياسية التي ترسم خطًا فاصلًا بين الشعب والنظام في كل من اليونان وإسبانيا. وبالتالي فإنهم يخلقون حدودًا عدائية: أنت إما معنا (جزء من الشعب) أو أنت ضدنا (جزء من النظام).

تتكرر وتتأكد هذه الحدود العدائية باستمرار مع كل مواجهة سياسية في كل من اليونان وإسبانيا، وفي الواقع، فإن هذا العداء عابر للحدود بين البلدين، بحيث يوحد بين أبناء الشعبين وفقًا للتقسيم الجديد. لذلك لم يكن من قبيل المصادفة أن دعا أنطونيس ساماراس، رئيس الوزراء اليوناني المحافظ، نظيره الإسباني ماريانو راخوي لدعم حملته الانتخابية. وسرعان ما أعلن بابلو إجليسياس، رئيس حزب بوديموس الاسباني، أن التالي في لعبة الدعم الانتخابية هو راخوي.

موجة عابرة للحدود
إذن، ما لدينا في الحالة اليونانية والإسبانية، هو إقامة حدود عدائية تفصل الشعب عن النظام. وهو ما كان يقوم به الجناح الشعبوي لأحزاب اليمين على مدى عقود، لكنه يحدث الآن من جهة اليسار. لقد تمكن سيريزا وبوديموس من تشكيل سلسلة مترابطة من مجموعة عريضة متنوعة المصالح والهويات: من قدامى التروتسكيين إلى الناخبين الساخطين، من العمال إلى الطلاب، وهلمّ جرا.

 وهناك أمران يوحدان هذه المجموعات المختلفة. أولاً، وقبل أي شيء، جميعم متشاركون في معارضة النظام. بالطبع، هذه المعارضة، حتى الآن، نابعة عن أسباب ودوافع مختلفة، لكنهم جميعًا معارضين للنظام، أو لبعض جوانبه –مثل الفساد السياسي، وسياسات التقشف النيوليبرالية، وما إلى ذلك. يوحدهم أيضًا قبس من أمل في أن “تتغير الأمور للأفضل”، هذا الأمل غالبًا ما يتبلور عبر التماهي مع قائد أو زعيم شاب جذاب (ربما تسيبراس أو إيجليسياس). وهذه هي المكونات الأساسية لحركة اليسار الشعبوي: الحدود العدائية بين النظام والشعب، صياغة وتشكيل الجبهة العريضة الواسعة مختلفة المصالح والهويات، وأخيرًا دور الزعيم في تحفيز الأمل في التغيير.

 وفي الواقع، ما أظهرته الانتخابات اليونانية، هو أن ما يحدث لا يقتصر على اليونان وإسبانيا أو أية دولة أوروبية أخرى بمفردها. لقد أشعل فوز سيريزا شرارة الإلهام في جميع أرجاء أوروبا، وهذا أمرٌ مهم للغاية، أن يصبح هذا النوع من الشعبوية اليسارية فعالًا ومؤثرًا. فمن ناحية، أي “حكومة شعبية” في إحدى البلدان حتمًا بحاجة إلى الدعم الشعبي الخارجي من أجل الصمود أمام هجمات القوى القديمة. ومن ناحية أخرى، أي تغيير حقيقي على مستوى المؤسسات الأوروبية لن يكون ممكنًا إلا من خلال حركة موحدة عابرة للحدود. صحيح أن اتخاذ قرار بشأن الدين المحلي هو أمر داخلي يخص بلد بعينه، إلا أنه يؤثر على الهياكل الصانعة لمثل هذه القرارات في بلدان أخرى.

 توافد السياسيون ووسائل الإعلام الأوروبية على اليونان أثناء الانتخابات. وبعد إعلان النتيجة، سرعان ما رفض اليمين الأوروبي سيريزا بإعتبارهم زمرة من الحالمين الميئوس منهم. على صعيد آخر، بدأ اليسار الأوروبي ينشط فجأة. ليس فقط من يتوقع منهم هذا مثل حزب بوديموس أو اليسار الموحد في إسبانيا، ولكن الاشتراكيين الديمقراطيين أيضًا، بدءًا من مارتن شولز، مرورًا بكين ليفنجستون وصولًا إلى بيتر هاين، جميعهم يطمع في حصة من نجاح سيريزا. قد يتماشى هذا مع مصالحهم الانتخابية، لكن المثير للدهشة هو كيف أنهم جميعًا يتماهون مع موقف سيريزا المضاد للتقشف.

 وربما تكون الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية هي صاحبة الوضع الأكثر حرجًا في عملية تشكيل التغيير تلك: فبعضهم يريد اجتياز الحد الفاصل في محاولة لاستعادة شيء من مبادئهم الاشتراكية ودورهم كأبطال للقضية الشعبية، ولكن ربما يكون قد فات الآوان. فالخطاب الشعبوي اليساري الجديد يمتلك بالفعل قوة الدفع والهوية المحددة الخاصة به. ويتمثل التحدي في تجاوز الوطنية الشعبية المستقلة وتوحيد الجميع في الحركة اليسارية الشعبوية لعموم أوروبا.

.

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s