تنظيف الشوارع: شرطة جوهانسبرج تنشر الفوضى في محاولتها لفرض النظام

كتب – كولن هوج – موقع أليجرا
ترجمة: نصر عبد الرحمن

المكان: حي هيلبرو، جوهانسبرج، في أبريل/نيسان 2008. أنا في فندق “إمباسيدور”، في واحد من أحدث الملاهي الليلية في جوهانسبرج منذ فترة الفصل العنصري. وكما هو الحال في حي هيلبرو، اختلف الطابع القومي والعنصري للمُتواجدين في الملهى إلى حد ما عن عقود مضت. فبعد إلغاء قوانين حظر الدخول عام 1984؛ والتي كانت تفرض حظراً على سكان هيلبرو من “غير أصحاب البشرة البيضاء”، نزح السكان من ذوي البشرة البيضاء إلى الضواحي شمالي المدينة، وسكن مكانهم مجموعات كبيرة من المهاجرين من أنحاء القارة ومن خارجها. تجاهلت مدينة جوهانسبرج هذه المنطقة تماماً، على عكس الضواحي الشمالية، ولذا هوت هيلبرو في مستنقع من الفقر والجريمة.

 لم تلق هيلبرو سوى القليل من الاهتمام من الحكومة؛ فالطرق مليئة بالحفر، وأعمدة الإنارة مطفئة دائماً، في حين تم تكثيف دوريات الشرطة. لقد أصبح الحي هدفاً معتاداً لمداهمات الشرطة ليلاً، من أجل “تنظيف” المنطقة ظاهرياً، بحسب قول الشرطة ومسؤولو الهجرة. وتقوم الشرطة، أثناء تلك الحملات، بمُداهمة البارات والملاهي وغيرها من الأنشطة التي لا تمتثل لقوانين جوهانسبرج بشأن تراخيص الخمور ووسائل الترفيه. وغالباً ما تطلب الشرطة من مسؤولي الهجرة الاشتراك في تلك المُداهمات، كي يلقوا القبض على المهاجرين الذين لا يحملون أرواقهم الرسمية. وهذا ما يحدث الليلة.

كان الفندق يكتظ بالحركة قبل أن تقتحمه قوات الشرطة ومسؤولي الهجرة، ويجبرون الجميع على الاستلقاء أرضاً. من حسن الحظ أنني لست من بين المُستهدفين، فأنا هنا كباحث أنثربولوجيا عصبية، أدرس ردود أفعال موظفي الهجرة وتوثيق الهوية. طلب مني بعض مسؤولي الهجرة؛ من بين من أقوم بدراستهم ميدانياً، أن أرافقهم في تلك المداهمة التي تقوم بها الشرطة. لقد أصروا على حضوري لكي أفهم طبيعة عملهم. ولقد وافقت بعد عدة حوارات معهم ومع المشرفين الأكاديميين بشأن سلامتي وقدرتي على تلبية المتطلبات البحثية لعينات من البشر.

وصلت إلى قسم شرطة جوهانسبرج في السابعة مساءً، بحسب التعليمات.  ودخل بعد قليل أحد موظفي الهجرة والتوثيق، يسمى “ديزموند”. اتجهنا نحو سيارته ونحن نتبادل الحديث، بينما يتجمع رجال الشرطة وموظفو الهجرة، ويلقي علينا برج هيلبرو الشهير بأنوار النيون الليلية الزرقاء. اقترب من مجموعتنا شرطي أبيض البشرة، حليق شعر الرأس، وله شارب، ثم صافحني بحزم يكاد يكون استفزازاً. كان الرجل هو قائد العملية، واسمه فان هوليستين. قدمني ديزموند إليه بلهجته الأفريقية الحضرية: “إنه أمريكي من جامعة ويتس، سوف يراقبنا الليلة”، فأبدى هوليستين سخريته قائلاً: “اللعنة، رجل آخر من جامعة ويتس، إنهم يهتمون بحقوق الإنسان دائماً”. ضحكت بتوتر، فتدخل ديزموند قائلاً: “كلا إنه يدرس الـ…، أخبرني مرة أخرى ماذا تدرس؟”. أجبت: “الأنثروبولوجيا”، فأجاب هوليستين: “اللعنة، إنه مجال قريب جداً من حقوق الإنسان”.

اتجه هوليستين نحو الجراج، واستدعى الجميع إلى هناك. اصطف الضباط أمامه ليخبرهم تفاصيل المُهمة؛ فلا أحد يعرف مكانها خوفاً من “الفساد”، وعليهم أن يكونوا حريصين، حسب قوله. لقد تم إطلاق النار على ضابطين صباح اليوم، وهما في حالة خطيرة في المستشفى. أضاف قائلاً: “لهذا، علينا أن نؤكد على سلطتنا، وألا نظهر أي ضعف تجاه هؤلاء الناس”. استمر هوليستين في حديثه: “يتحدث كثير من الناس عن حقوق الإنسان، إلا أنه من حق الشرطة تفتيش أي شخص وأي مكان عمل في هيلبرو، بموجب القانون. لذا، إن قال لكم أحدهم إن لديه حقوقاً أخبروه بهذا، أو أحضروه لي”. لقد سخر هوليستين من خطاب حقوق الإنسان بشأن الحد من صلاحيات الشرطة. ومن الغريب، أن الالتفاف على هذه الحدود يتم في إطار قانوني. وبعد أن انتهى من حديثه، تحرك الجميع نحو صف طويل من السيارات. وكان عليَ أن أكون مع ديزموند.

كان التوقف الأول في مكان غير بعيد عن قسم الشرطة، حيث اقتحمت قوات الشرطة أحد البارات، وطردوا الزبائن منه، ثم أطلقوا طلقات من الرصاص المطاطي لتفريق الناس في الشارع. بقيت في السيارة، بينما تقدم ديزموند، والمارة يُهرولون إلى المحال ومداخل العمارات ليحتموا بها. رأيت طفلاً يُطل برأسه من داخل أحد المحال الصغيرة ويحمل في يده رغيف خبز؛ يتحين فرصة لحظة آمنة لينطلق إلى الشارع. وفي حين احتشد بعض الناس في الشرفات ليشاهدوا ما يحدث، قامت شاحنة شرطة بيضاء كبيرة بإبعاد الناس.

 انطلق موكب الشرطة من جديد، واتجه نحو شارع جانبي، في منطقة سكنية تصطف الأشجار على جانبيه، ويقع في نهايته أحد المطاعم. يبدو المطعم مُغلقاً، والأجواء هادئة. أخبرني ديزموند أنهم يزورون ذلك المكان دوماً، إلا أن هوليستين أخبرهم بكل تأكيد عن موعد المُداهمة. قلت بصوت مُرتفع: “ولماذا يفعل هذا بحق السماء؟”. أخبرني وعلى وجهه ابتسامة إعجاب أن هوليستين يحب أن يجعلهم يخمنون. وحينها، يتلقى الضباط أوامر بإلقاء القبض على مجموعة من المتفرجين الذين يقفون في نهاية الشارع بتهمة التسكع.

بعد إلقاء القبض على المتسكعين، أشار لي هوليستين لأذهب إليه. كان يريد أن يشرح لي ما يواجهه هو وزملاؤه في العمل. وذكر، بثقة تامة، عدداً من الأرقام والإحصائيات المُبالغ فيها: يقول الخبراء أن هناك مليون ونصف شخصاً في هيلبرو، إلا أنهم في الحقيقة ضعف هذا الرقم، و80% منهم من الأجانب؛ نصفهم لا يملكون تصريحاً بالتواجد في جنوب أفريقيا.

ليس لدي شك في أنه يُصدق ما يقول، فمن الواضح أنه كرره كثيراً من قبل. وهدف ما يقول هو بلا شك: تبرير سوء استخدام سلطة الدولة من خلال استعارة بعض المُفردات مثل الشرعية، والاضطرابات، والزيادة السكانية، وكثرة الأجانب.

 مشكلة السيطرة على السكان المُلحة، التي وصفها لي، هي بلا شك إرث لسياسة الفصل العنصري التي نجحت في تحويل العنصرية والخوف من الأجانب إلى أمور ومخاوف بيروقراطية. ورغم أن أقل من نصف قوة الشرطة ومسؤولي الهجرة التي خرجت من ذوي البشر البيضاء، إلا أن كل من تم إلقاء القبض عليهم من ذوي البشرة السمراء. ومن المُثير للسخرية أن العديد من الذين يعيشون في هذا الحي قدموا من بلاد تدعم حركات مناهضة الفصل العنصري، مثل زيمباوي، وموزمبيق، ونيجيريا، وهي بلاد وفرت المأوى لنشطاء من جنوب أفريقيا، حين فروا من اضطهاد وطنهم لهم.

يكاد قلبي ينفطر. يقبع أصحاب البشرة السمراء في الشاحنة، ونحن نتجول في الشوارع المُظلمة في اتجاه فندق إمباسيدور.

 عندما وصلت مع ديزموند إلى ردهة الفندق، اصطف رجال الشرطة “للتعامل” مع العاملين بالنادي. كان أغلبهم من الشباب. وقف شرطي وشرطية في الممر الواصل بين الردهة والنادي، ليمر العاملون من بينهما الواحد تلو الآخر، ويقوم رجال الشرطة بأخذ بصماتهم وفحص سجلاتهم الجنائية على جهاز مسح ضوئي. ثم ينزل العاملون على السلم، للإجابة على سؤال موظفي الهجرة: “من أين أنت؟”، ويجب على غير الجنوب إفريقيين التقدم بأوراق ثبوتية وإلا تم اصطحابهم إلى قسم الشرطة. ومن يدعون أنهم جنوب أفريقيون، عليهم إثبات ذلك. ويتم استجواب من ينتمون إلى منطقة “بيدي” من جانب ضابط يتحدث بلغة “بيدي”، ومن ينتمون إلى منطقة “فيدا”، يذهبون إلى ضابط يتحدث لغة “فيدا”. وإذا اكتشف الضباط أن لكنة أحدهم لا تبدو “شرعية”، يطلبون منه إظهار أوراق إثبات الهوية.

 إننا نعود مرة أخرى إلى أيام الفصل العنصري.

في الخارج، كان رجال الشرطة يطلقون الرصاص المطاطي باتجاه الحشود في الشارع. ومن حين لآخر، يُطاردون من يعتبرونهم “مشبوهين”.

 بدا التوتر على العديد من الشباب، ومن بينهم بعض من اجتازوا الفحص بسرعة، ربما أغضبهم ذلك الاتهام الغريب الذي يؤدي إلى القبض على الأبرياء إذا أثاروا الريبة. ولديهم سبب منطقي للتوتر: إذا لم يتمكنوا من تقديم أرواق ثبوتية، فسوف يتم اصطحابهم إلى مركز “لينديلا” للترحيل؛ وهو مكان خطير سيء السمعة، قبل ترحيلهم إلى بلادهم.

 أصابتني صدمة حين رأيت رجال الشرطة وموظفي الهجرة يتعاملون بخشونة مع المُحتجزين؛ حتى في حضور مُراقب خارجي يُثير ريبتهم. لقد قام اثنان من موظفي الهجرة بدفع الناس وصفعهم، وأنا أعلم أنهما مرحين ورقيقين في التعامل مع زملائهم في المكتب. اقترب أحدهما مني ونحن في المكتب، في الأسبوع التالي، ليقول لي: “هل أدركت أن الأمر مُختلف في المهام الخارجية؟ على خلاف العمل في المكتب: عليك أن تكون قاسياً، وإلا تعرضوا لك بالأذى”.

 لقد وصفت من قبل كيف يعمل مسؤولو الداخلية على إضفاء المنطق على ممارساتهم، ويتضمن ذلك الاعتقاد الراسخ بخطورة “الناس” من جنسيات أخرى، والالتزام بالحفاظ على النظام البيروقراطي، الذي يُزعم قيام هؤلاء الناس بمحاولة تقويضه. هذا المنطق يسود هنا على نحو واضح.

تم فحص العشرات من جانب الشرطة، قبل أن يتجه هوليستين نحوي ويقول لي: “عليك أن ترى كيف يحب هؤلاء الأشخاص قضاء وقت ممتع”. وطلب مني أن أتبعه عبر النادي، حيث يرقد بعض الشباب على الأرض، وقام هوليستين بتوجيه السباب إليهم، وضغط بقدمه على ساق أحدهم بعنف دون سبب واضح، ثم قادني عبر ممر ضيق. وصلنا إلى بئر سُلم تفوح منه رائحة البيرة، وتناثرت أعقاب السجائر والزجاجات المكسورة على بلاط السلم أبيض اللون. كان يُريد أن يُطلعني على مدى قذارة المكان؛ وكيف يحتاج إلى الانضباط؛ ومدى انحطاط “هؤلاء الناس”. وأضاف قائلاً: “لقد وجدنا 14 شخصاً من هؤلاء الناس هنا”، وأشار إلى خزانة أسفل السلم. تقدمنا في الصالة واتجهنا يميناً، حيث يُفضي ممر إلى بار آخر؛ مدخله الرئيسي في شارع جانبي. تجلس إحدى العاملات خلف البار بلا تعبيرات على وجهها، ويبدو عليها الملل تقريباً. استنتجت أنها مديرة عندما أخبرها هوليستين أنه “قد تم إغلاق المكان”. وقال لي شارحاً إن رخصة التشغيل الخاصة بهم قد انتهت.

 صعدنا السلالم، وتم فحص الجميع أخيراً. عدت مع ديزموند إلى الشاحنة، وفي الطريق نحو قسم الشرطة، مررنا ببرج هيلبرو؛ الذي كان مُتوجهاً بالضوء الأزرق لا زال. تجمعت مجموعات صغيرة من الناس أمام قسم الشرطة. قال ديزموند إنهم ربما كانوا من أقارب من تم إلقاء القبض عليهم؛ وقد أحضروا جوازات السفر أو بطاقات إثبات الهوية التي تثبت أنهم أبرياء. أوصلني ديزموند إلى سيارتي، وعدت إلى سكني. كنت مُتعباً وحزيناً ومُرتبكاً.

 في كتابه السحر البدائي، والاستعمار والإنسان البدائي، حاول مايكل تاوسيج أن يرصد منطق الاستعمار وما سببه من رُعب في كولومبيا؛ حين تحول المُستعمرون إلى “همجيين” في محاولتهم القضاء على “الهمجية”، ومارسوا أسوأ أنواع القتل والتنكيل.

 اكتشف تاوسيج أن غيرية من يتم استعمارهم ليست إلا صورة الذات بالنسبة للمُستعمِرين: فبدلاً من إبادة الهمجية كما استهدف المُستعمِرون، قام هؤلاء الأوربيون مراراً وتكراراً بإعادة إنتاج الهمجية من أجل القضاء عليها، وكان عليهم أولاً إنتاج صورة ذهنية للهمجية في الشعوب التي استعمروها قبل أن يقوموا باحتلال أراضيهم.

وتكشف مُلاحظاتي حول أداء الشرطة في هيلبرو نفس التناقض: أدت محاولات الشرطة لفرض النظام على عوالم الجريمة والعنف التي يتخيلها رجال الشرطة إلى فوضى وعنف من جانبهم. لقد خلق ضباط الشرطة ومسؤولو الهجرة صورة ذهنية للفوضى التي تبرر مُمارساتهم. ويتجلى ظهور هذه الصورة، أثناء الغارات، من خلال قصص عن قذارة الأجانب، وانتهاك الشرعية، والاكتظاظ السكاني، وخطورة الأجانب. يتخيل مسؤولو الهجرة ويخشون قوى غير معلومة؛ تعمل على تقويض قوانين جنوب أفريقيا، بحسب اعتقادهم. ومن ثم لا يجب السماح لهم بأدنى فرصة للحركة. وبهذا تصبح المُداهمات الوحشية مُبررة، وكذلك استخدام القوة. ويستلزم تأكيد القانون هنا حكايات عن انتهاك الشرعية بذات قدر انتهاك الشرطة الوحشي للشرعية؛ فتتحول الحرب إلى سلام، والنظام إلى فوضى.. ويتم “تنظيف” هيلبرو.

 ملحوظة: جميع الأسماء المُستخدمة هنا هي أسماء مُستعارة

.

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s