كتب – دانييل ليتل لموقع “فهم المجتمع”
ترجمة – عمرو خيري
ملحوظة: ليس تقسيم المنهجيات الوارد هنا إلا رؤية من بين عدة رؤى للمنهجيات الخاصة بالبحث في العلوم الاجتماعية، ولا تعتبر هي التقسيم الوحيد الصحيح أو المعتمد.
ما هي الأطر التي ترد إلى الذهن عادة أثناء مناقشة منهجيات البحث في العلوم الاجتماعية؟ هناك عدة “عائلات” من الأطر المنهجية نوضحها في هذا الشكل أدناه، وقد عرضناها عمداً على هيئة دائرة، دون أولوية أو أفضلية لنوع على آخر.

(أ) المنهجية الكمّية Quantitative methodology – ما يشير إليه أندرو آبوت بمسمى منظور المتغيرات variables paradigm. هذه هي المقاربة التي تحلل العالم الاجتماعي بصفته مجموعات من الأفراد، والجماعات، والممتلكات، وببساطة يبحث عن الصلات correlations والارتباطات والعلاقات الممكنة باستخدام مجموعة من الأدوات الإحصائية. هذه مقاربة تعتمد الملاحظة ثم التعميم أساساً لها inductivist approach. في هذه المقاربة فإن دور العلوم الاجتماعية هو الملاحظة الدقيقة للحقائق وبناء نظم من التشابهات والتصنيفات فيما بينها. وكأنها إطار يخلو من الافتراضات المطلقة، لكن هناك أنطولوجيا كامنة ها هنا لا تقل عن الموجودة في الأطر الأخرى التي نذكرها أدناه.. فكرة أن العالم الاجتماعي يحكمه نظام ما من القوانين أو “الانتظامات”.
(ب) المنهجيات التفسيرية Interpretive methods – يوصي كليفورد جيرتز بمقاربة للبحث في العلوم الاجتماعية تدخل عموماً ضمن رؤية العالم من وجهة نظر تفسيرية. يرى أن السمة الأهمّ في العالم الاجتماعي هي حقيقة “المعنى”. يحاججنا أن نرى المعاني التي يلصقها الأفراد والمجموعات بالسلوكيات والأداءات بصفتها أهم شيء. لذا، تصبح مهمة البحث هي إعادة بناء هذه المعاني من خلال الملاحظة والتفاعل مع الفاعلين الاجتماعيين في سياق معين. يجب على الشخص المُلاحظ أن يلاحظ أنساق الحركة والتفاعل التي يجدها وأن يحقق بإمعان في أنساق المعنى التي يغزلها المشاركون حول عوالمهم.
ثمة إطار مرتبط بهذا المنهج هو منهجية الإثنوغرافيا ethnomethodology، وهي مقاربة يعتمدها المعنيون بالسوسيولوجيا الكيفية مثل جوفمان وجارفينكل. مفاد هذه الفكرة أن من الوظائف المهمة للعلوم الاجتماعية هي تبين المنطق الكامن وراء الافتراضات والقواعد التي يتبعها الأفراد في تفاعلاتهم مع بعضهم البعض. الافتراض الأنطولوجي هنا هو أن الأفراد هم الأساس في العالم الاجتماعي، وأن الأفراد معقدون. بناء على هذا النهج approach، فإن المنهجية methodology المستخدمة هي ملاحظة/رصد السلوك العادي ومحاولة استكشاف القواعد والتوقعات الكامنة ورائه التي تشير إلى شيء من قبيل المنطق الحاكم أو الإطار المعياري الذي يحرك أو يولد السلوكيات بين الأفراد.
(ج) عائلة من المنهجيات التي يمكن أن نسميها المنهجية الواقعية realist methodology – هذه المقاربات تبدأ بافتراض أن العالم الاجتماعي يتكون من أنواع بعينها من الكيانات والقوى والعمليات، ثم توجه الباحث إلى محاولة استكشاف سمات هذه البنى. إنها عملية من صوغ الافتراضات، وتطوير النظريات ثم اختبار هذه النظريات، كبيرة أو صغيرة، لأشياء مثل الطبقة أو الكاريزما أو جهاز الدولة البيروقراطي.
(د) عدّة منهجيات للتحليل تم تطويرها في سياق العلوم الاجتماعية المقارنة، وتشمل منهجيات سببية مرتبطة بالسوسيولوجيا التاريخية المقارنة. يشمل هذا مناهج للمقارنات، ومناهج ميل Mill’s methods ومناهج لتبين أوجه الشبه والاختلاف. البحوث من هذا المنطلق تحاول تبين أي من العوامل لازمة أو كافية، وأي منها تحسّن أو تثبط. يمكن أن نسميها المنهجية المقارنة comparative methodology.
(هـ) منهجية الآليات السببية Causal mechanisms methodology – هذا الإطار هو تنويعة على لحن المنهجية الواقعية. في هذه المقاربة نعمل على افتراض أن هناك أسباب اجتماعية وأن الأسباب تتخذ هيئة الآليات السببية المتحققة. مهمة البحث هنا هي اكتساب تفاصيل إمبريقية كافية حول قضايا مختارة بما يمكّن من تجميع افتراضات حول الآليات القائمة. الأفكار المرتبطة بمفهوم تعقب العمليات process tracing تدخل في إطار هذا النوع من المنهجيات.
(و) المناهج التي تركز على تقنيات النمذجة الرسمية formal modeling – هذه المنهجية تصادف اهتماماً خاصاً في العلوم السياسية والاقتصاد. الهدف من البحث هنا هو الوصول إلى نماذج رياضية mathematical models أنيقة وبسيطة للظاهرة. في هذه المنهجية، فإن تطور النموذج ليس أمراً إمبريقياً بقدر ما هو مسألة رياضية ورسمية. هذه المقاربة كثيراً ما يُساء استخدامها لأنها لا تستجيب بالقدر الكافي للقيود الإمريقية على المعايير. ليست أهميتها الإمبريقية تامة الوضوح. إذا افترضنا أن العلوم الاجتماعية إمبريقية إذن يصبح النموذج الرسمي الذي يصادف التقدير لأناقته كنموذج مجرد، غير مرضياً. إن هذه المقاربة بحاجة للإسهام في فهم ظاهرة إمبريقية حقيقية. على الأقل فهذا يعني أنه يجب أن نتمكن من ربط النموذج بسمات سلوكية حقيقية ومحددة. في أفضل الحالات، يجب أن نتمكن من البدء في إعادة إنتاج سمات مهمة لحالات إمبريقية حقيقية من خلال ضبط النموذج على الظروف الإمبريقية القائمة.
(ز) هناك جانبان آخران للمنهجية يجب ذكرهما. أحدهما على صلة بمناهج جمع البيانات الموصى بجمعها، والتي تختلف كثيراً من مجال إلى آخر. الثاني هو منهجيات التقييم الإمبريقي للنظريات التي نطرحها. تختلف العلوم الاجتماعية كثيراً في هذين الاتجاهين المذكورين: أي نوع من البيانات مطلوبة، وكيف يجب جمعها (مثال: منهجية الاستبيان)، وكيف يجب أن نتحقق من صحة النتائج. إنها عادة منهجيات مرتبطة بمجالات بحثية بعينها وهي أكثر تحديداً بكثير عن “الوصفات” التي تجدها في فلسفة العلم. كما أن السبل التي يجب أن ننتهجها في تقييم “بنى” العلوم الاجتماعية تختلف كثيراً بحسب تقاليد البحث من دولة لأخرى. يشير جابرييل أبيند إلى أن طرق التقييم تتباين كثيراً في تقاليد البحث الاجتماعي في المكسيك عنها في الولايات المتحدة، من حيث المعايير المطبقة، حول ما الذي يعتبر طرحاً جاداً وإمبريقياً وحول ما يعتبر طرحاً نظرياً مقبولاً.
كل من المنهجيات المذكورة أعلاه تعد منهجية قائمة بذاتها على النحو الفضفاض الذي أفضله. هذا دليل للباحثين، يوضح أنواع العوامل التي يجب أن يمعن فيها الباحث تفكيره قبل الشروع في البحث، ومؤشر على كيف يجب أن يبدو السرد التفسيري للظاهرة، أو ما يعتبر العتبة التي تُكفل عندها جدية التفسيرات للظاهرة.
قد نلاحظ أننا إذا كنا نفضل الأنطولوجيا الاجتماعية التعددية، والتي بموجبها نصبح بصدد ممتلكات وأفراد وعلاقات وبنى وشبكات ومعان وقيم، فإن المنهج الذي سنستخدمه لكسب المعرفة حول هذه الأشياء يجب أن يكون تعددياً بدوره. يجب أن تسمح لنا المناهج التي نستخدمها بطرح أسئلة بحثية حول كافة تلك الأشياء بتنويعاتها.