التداعي: المنافسة والنزعة الفردية يدفعانا إلى عصر العزلة المدمر

بقلم –  جورج مونبيوت ونُشر في الجارديان بتاريخ 15 أكتوبر/تشرين الأول 2014
ترجمة – محمود حسني

ماذا يمكن أن نسمى العصر الذي نعيشه اليوم؟ إنه ليس عصر المعلومات، فانهيار حركات التعليم الشعبية تركت فراغا يملأه الآن “التسويق” ونظريات المؤامرة(1). مثل العصر الحجري، والعصر الحديدي، وعصر الفضاء، فإن العصر الرقمي يخبرنا بالكثير عن المنتجات الصناعية ولكن بالقليل عن المجتمع. في عصر الأنثروبوسين، حيث أصبح للبشر تأثيرا كبيرا على محيطهم الحيوي، فشل الإنسان في تمييز هذا القرن عن العشرين السابقة. ماذا يمكن أن يمثل التغير الاجتماعي الواضح في وقتنا هذا عن الأزمنة التي سبقتنا؟ بالنسبة لي، الأمر من منتهى الوضوح. إنه عصر العزلة.

عندما ادعى توماس هوبز أننا في الحالة الطبيعية، قبل أن تنشأ السلطة لإبقائنا في حالة الاختيار الدائمة، كنا جميعا مشاركين في حرب “كل رجل ضد كل رجل”(2). لم يكن من الممكن أن يخطئ أكثر من هذا، فنحن من البداية كائنات اجتماعية، ثدييات بصفات النحل، حيث الجميع يعتمد على بعضه البعض. أما العصر الذي نحن مقبلين عليه فيبدو أنه لا يشبه أي مما مر علينا من قبل.

منذ ثلاثة أشهر، قرأنا أن العزلة قد أصبحت كوباء بين البالغين(3). الآن نحن نعلم أن الأمر يمثل محنة ليست بهينة لدى كبار السن. في دراسة من “العصر المستقل” تخبرنا أن العزلة القاسية في إنجلترا قد أصابت حياة 700 ألف رجل و1.1 مليون امرأة فوق الخمسين(4)، والرقم يتزايد بسرعة مدهشة.

من غير المرجح على الإطلاق أن تقتل الإيبولا عدداً من الناس أكبر من العدد الذي أصابه هذا المرض. فالعزلة الاجتماعية قوية لدرجة تمكنها من أن تتسبب في الموت المبكر كما يتسبب فيه تدخين 15 سيجارة يوميا(5). فالبحوث تشير إلى أن الشعور بالوحدة له ضعف الأثر السلبي للسمنة على الإنسان(6). الجنون، وضغط الدم المرتفع، وإدمان الكحوليات، وحوادث الطرق جميعها مثل الاكتئاب، وجنون العظمة، والقلق، والانتحار، أصبحت منتشرة كلما انقطع تواصلنا مع بعضنا البعض(7,8). نحن لا نستطيع التعامل مع هذه الحياة بمفردنا.

نعم، قد أغلقت المصانع، الناس الآن تسافر بالسيارات بدلا من الأوتوبيسات، يستخدمون اليوتيوب بدلا من السينما. ولكن هذه التغيرات وحدها فشلت في شرح انهيارنا الاجتماعي. هذا التغير الهيكلي رافقه أيديولوجية “تجاهل الحياة”، والتي تُفرض علينا بل وتحتفل بعزلتنا الاجتماعية. حرب كل رجل ضد كل رجل –بعبارة أخرى المنافسة والنزعة الفردية- أصبحت بمثابة دين في وقتنا الحالي. مسوغة ومقبولة بميثولوجيا الأبطال، أصحاب الأعمال الخاصة، أصحاب المشاريع الناشئة، والرجال والنساء العصاميين، كل هؤلاء يسيرون في الحياة بمفردهم. بالنسبة لغالب الكائنات الاجتماعية والذين لا يستطيعون النجاح والازدهار بدون الاحساس بالحب: لا يوجد الآن ما يمكن أن يسمى مجتمع، فقط البطولة الفردية. ما يهم هو الفوز، وأي شيء آخر هو مجرد إضرار جانبية غير مرغوب فيها.

لم يعد الأطفال البريطانيون يرغبون في أن يكونوا سائقي قطارات أو ممرضات، فأكثر من 20% منهم الآن يقولون إنهم يريدون أن يكونوا أغنياء: الثروة والشهرة هي الطموح الوحيد لأكثر من 40% من الذين شملهم الاستطلاع(9). دراسة حكومية في يونيو/حزيران الماضي كشفت عن أن بريطانيا هي عاصمة العزلة في أوروبا(10). فنحن أقل من باقي الأوروبيين في الحصول على أصدقاء مقربين أو في التعرف على جيراننا. من يمكن أن يتفاجأ، عندما نكون مطالبين في كل مكان بالقتال مثل الكلاب الضالة على صندوق قمامة.

لقد غيرنا لغتنا لتعكس هذا التحول، معظم تعبيراتنا في الإهانة أصبحت “خاسر”، لم نعد نتحدث عن الناس، الآن نتحدث عن الأفراد. انتشر للغاية هذا التنفير في المصطلحات حتى بين الجمعيات الخيرية التي تحارب العزلة أصبحت تستخدم عبارات مثل ذوي القدمين المعروفين سابقا باسم البشر(11). نادرا ما نكمل جملة دون جعل الحديث شخصي. أنا أفضل الأصدقاء الشخصيين على أناس متنوعين لا يهموني شخصيا، أفضل الانتماءات الشخصية على الأشياء التي لا تنتمي إليّ.

واحدة من النتائج التراجيدية للعزلة هو تحول الناس إلى التلفاز من أجل أن يواسوا أنفسهم: 40% من الأكبر عمرا قالوا إن هذا الإله ذو العين الواحدة قد أصبح رفيقهم الأساسي(12). هذه المعالجة الذاتية تزيد المرض. فقد أشار بحث قام به اقتصاديون من جامعة ميلان إلى أن التلفاز يساعد على دفع الطموح التنافسي(13). إنه وبقوة يعزز مفارقة الدخل-السعادة: الحقيقة هي، كلما زادت دخولنا القومية، لا تزداد سعادتنا معها.

الطموح، والذي يزيد مع الدخل، يؤكد أن نقطة الوصول إلى الإشباع لدينا دائما ما تتراجع. فالباحثين وجدوا أن من يشاهدون التلفاز بكثرة، يشعرون برضا أقل عن مستوى دخلهم بالمقارنة مع الذين يشاهدونه بقلة. فالتلفاز يزيد من سعة حلقة المتعة المفرغة، ويجبرنا على أن نكافح أكثر وأكثر كي نحافظ على نفس المستوى من الرضا والإشباع. فقط فكر في المزادات التي تتصدر التلفاز طوال اليوم، أشكال لا تعد ولا تحصى من الاحتفالات، هاجس الثروة والشهرة الذي أصاب الجميع، الشعور السائد أثناء مشاهدتك لكل ذلك بأن هذه الحياة في مكان ما وأنت في مكان آخر. كل هذا يجعلك تفكر لِم تقول الأبحاث هذا الكلام عن عدم الرضا كلما زادت مدة مشاهدة المرء للتلفاز.

ما الفائدة من وراء ذلك كله؟ ما الذي نجلبه لأنفسنا من هذه الحرب من كل رجل ضد كل رجل، المنافسة تدفع نحو النمو، ولكن النمو لا يجعلنا أكثر رفاهية. تشير الأرقام التي نشرت هذا الأسبوع أنه في الوقت الذي زادت فيه دخول مدراء الشركات أكثر من 20%، تراجعت أجور العمال من حيث القيمة الحقيقية في خلال العام الماضي(14). الرؤساء الآن هم من يربحون- آسف، أقصد يأخذون- أكثر من 120 ضعف متوسط أجر عامل بدوام كامل. (في عام 2000 كانت النسبة 47 ضعف). وحتى لو كانت المنافسة تجعلنا أكثر ثراء، فمن شأن ذلك أن يجعلنا أقل سعادة. كما أن الإشباع والرضا الذي يأتي من زيادة الدخل، يُقوَّض بالأثار الطموحة للمنافسة.

أغنى 1% الآن يمتلكون 48% من الثروة العالمية(15). ولكن حتى هؤلاء غير سعداء. حيث أظهرت دراسة أجرتها كلية بوسطن بين شريحة من الأشخاص الذين متوسط ممتلكاتهم وأموالهم 78 مليون دولار أنهم أيضا يهاجمهم القلق وعدم الرضا والشعور بالوحدة(16). والكثير منهم يقول إن ذلك لعدم الشعور بالأمان المادي. يعتقدون أنهم لكي يصلوا لأرض آمنة فإنهم في حاجة إلى 25% زيادة على دخلهم الحالي. (ولو أنهم حصلوا عليها، بلا شك سوف يحتاجون إلى 25% أخرى). أحدهم قال إنه لن يشعر بالأمان قبل أن يكون لديه مليار دولار في حسابه بالبنك.

من أجل كل هذا قمنا بتمزيق عالمنا الطبيعي، تدهورت أوضاع حياتنا، وسلمنا حريتنا ومفهومنا حول الرضا إلى رفاهية مغمومة. في الوقت الذي نستهلك فيه كل شيء، بدأنا حتى في افتراس أنفسنا. من أجل هذا دمرنا جوهر الإنسانية: ترابطنا.

نعم هناك مسكنات، بعض الخطط الخفيفة والذكية كالتي تقوم بها جمعية “Men In Shades” أو ما تقيمه الجمعيات الخيرية من مباريات كرة قدم لكبار السن الذين يعانون من العزلة(17). لكن لو كسرنا هذه الدائرة وأصبحنا معا مرة أخرى، يجب علينا مواجهة نظام “أكل اللحوم” الذي أُجبرنا عليه في هذا العالم.

فترة “هوبز” حيث ما قبل الظروف الاجتماعية الحالية كانت أسطورة. ولكننا الآن، ندخل عالم ما بعد الاجتماعية، حيث أجدادنا لم يكن ليصدقوا أبدا، أن حياتنا قد أصبحت مقرفة ووحشية وطويلة كما هو حالها الآن.

المراجع:

  1. http://www.autodidactproject.org/other/hj1.html
  2. http://oregonstate.edu/instruct/phl302/texts/hobbes/leviathan-contents.html
  3. http://www.theguardian.com/lifeandstyle/2014/jul/20/loneliness-britains-silent-plague-hurts-young-people-most
  4. http://www.independentage.org/isolation-a-growing-issue-among-older-men/
  5. http://www.campaigntoendloneliness.org/threat-to-health/
  6. http://www.theguardian.com/science/2014/feb/16/loneliness-twice-as-unhealthy-as-obesity-older-people
  7. http://www.theguardian.com/lifeandstyle/2014/jul/20/loneliness-britains-silent-plague-hurts-young-people-most
  8. http://www.campaigntoendloneliness.org/threat-to-health/
  9. http://www.telegraph.co.uk/news/newstopics/howaboutthat/11014591/One-in-five-children-just-want-to-be-rich-when-they-grow-up.html
  10. http://www.telegraph.co.uk/news/politics/10909524/Britain-the-loneliness-capital-of-Europe.html
  11. http://www.campaigntoendloneliness.org/wp-content/uploads/downloads/2014/05/FINAL-Age-UK-PR-response-02.05.14.pdf
  12. http://www.campaigntoendloneliness.org/loneliness-research/
  13. http://boa.unimib.it/bitstream/10281/23044/2/Income_Aspirations_Television_and_Happiness.pdf
  14. http://www.thetimes.co.uk/tto/news/uk/article4234843.ece
  15. http://www.theguardian.com/business/2014/oct/14/richest-1percent-half-global-wealth-credit-suisse-report
  16. http://www.theatlantic.com/magazine/archive/2011/04/secret-fears-of-the-super-rich/308419/

17. http://www.independentage.org/isolation-a-growing-issue-among-older-men/

.

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s