بناء الشبكات والمجتمعات وراء القضبان في بوليفيا

بقلم – ديفيد تومبسون بتاريخ 25 أكتوبر/تشرين الأول 2012 على موقع الأنثروبولوجيا الشعبية – POPANTH
ترجمة: محمود حسني

في صباح أحد أيام مايو/أيار 2011، كنت أمشي في سجن بضاحية مدينة لاباز، في بوليفيا. سألت نفسي حينها، ماذا أفعل هنا؟

كان من الممكن أن أضحك على نفسي وأقول إنني هنا بدوافع إنسانية عليا أو لهدف أكاديمي، ولكن لم يكن الأمر كذلك بالضبط. كما كان من الأفضل ألا أفكر في أن الأمر يتعلق بشيء من الاستكشاف السياحي. ولكن سيكون كذبا القول بأن وجودي هنا لا يحركه شيء من الفضول. وجدت نفسي مع فتاة إيطالية، كنت قد قابلتها عن طريق صديق قابلته بالصدفة في إحدى شوارع لاباز الأسبوع الماضي. الجو بارد للغاية. أعطيت جواز سفري لحراس السجن، ثم سرت بين زنزانات فارغة ليس بها شيء سوى أثر من زينة كريسماس العام الماضي معلقة على الجدران، أفكر في كل أفلام هوليوود التي كنت قد شاهدتها من قبل عن السجون. أخيرا، عندما وصلت إلى الزنزانات المأهولة، بقيت بدون أدنى فكرة عن ماذا يمكن أن أقول لو سأل أحدهم لما قررت الإيطالية أن تحضر صديقاً معها هذا اليوم.

ثم قابلت المسجونين واحدا تلو الآخر، شيئا فشيئا. على مدار الشهور التالية، كنت أراهم في كل يوم زيارة ثم ببطء بدأ سؤالي يجيب عن نفسه بنفسه. كنت هناك لأتحدث، وأخسر في الشطرنج، وأشاهد الأفلام، وأراهن بزجاجات البيبسي على نتائج مباريات كرة القدم.

ربما، على الرغم من أنه كان هناك سؤال مهم يقبع خلف تجربتي هذه حول ما هي الحقيقة التي أستطيع وأنا أخطو خلف الجدران أن أسعى لمعرفتها ولمعرفة ما يقوله هؤلاء الناس عن السجون بأنفسهم. ربما لا نفكر في السجن على أنه مجتمع مفتوح على نحو ما. سأعيد صياغة العبارة: السجن هو، أو على الأقل من المفترض أن يكون: واحدا من أكثر الاماكن انغلاقا وتحكما وتقييدا في العالم. فنزلاء السجون يزداد عددهم بشكل كبير كل يوم بما أن الحبس هو الشكل الأكثر تفضيلا بين أشكال العقاب.

في الولايات المتحدة مثلا، هناك تقريبا أكثر من 2 مليون نزيل في السجون. وهذه السجون من المفترض أنها تُبعد الأشقياء عن المجتمع وتحميه من أفعالهم. ولهذا، فهي تعاقب المسجون بحرمانه من حرياته الأساسية، وهي في الوقت نفسه بمثابة رادع للآخرين كي لا يكرر أحد هذه الأفعال، فالفكرة الأساسية من وراء أن تكون مسجونا: أن يتم إبعادك عن المجتمع، وليس الأمر كما لو أنك تسمح لأي أحد بالدخول وإلقاء التحية ومن ثم العودة من حيث أتى.

من تجربتي، عندما تنتقل الأفكار السامية حول العدالة إلى سياق الواقع، ينتهي الأمر بأنواع مختلفة من الناس مثل (المسجونين، الحراس، المنظمات غير الحكومية، رجال الدين، العائلات) الكل يحارب من أجل أن يحصل على امتيازاته سواء كان ذلك بالتعاون أو بالمناورة بين بعضهم البعض لتحقيق أقصى استفادة ممكنة في هذه الظروف الصعبة. هناك بالتأكيد قواعد وقوانين، ليست فقط على المسجونين، ولكن أيضا على الزوار مثلي، وعلى الحراس أيضا. ولكن يمكنك الالتفاف حول معظم هذه القوانين لو كنت تريد ذلك. وكل شخص في هذه الدائرة يسعى إلى لي عنق القوانين إلى حد ما، حيث رؤية القضاة والسياسيين بعيدة كل البُعد عن هؤلاء الناس الذين يعيشون ويعملون بداخل السجون.

هذا ليس معناه أن كل القوانين قابلة للكسر، أو أنه ليس هناك قيود صارمة. لقد كان مسموحا لي أن أدخل فقط في أيام الزيارة-الخميس، السبت، الأحد – وإذا فقدت بطاقة السماح بالزيارة كنت أواجه وقتا عصيبا كي يخرجونني وأعود من حيث أتيت. لو كنت مسجونا، فالزنزانات تُفتح في السابعة صباحا، وتغلق في العاشرة مساء. الوجبات مجانية ولكنها بشعة. يجب عليك أن تحضر طبقك معك. ليس مسموحا باستخدام السكاكين، لهذا عليك أن تقطع اللحم بالملعقة. ولو ذهبت خمس دقائق متأخرا لن تجد شيئاً. وبالطبع لا يمكنك التريض. ولكل مسجون الحق في أن يملأ استمارة طلب مغادرة لمدة 24 ساعة فقط كل ثلاثة أشهر، ولكن في كل مرة تعتمد النتيجة على الحالة المزاجية للقاضي في ذلك يوم فحصه الطلب.

ولكن تحت سطح هذه الإرشادات التي يفترض أنها قاسية، فالسجن مكان حيث الناس والأشياء تستطيع أن تتحرك إلى الداخل والخارج بحرية مدهشة. وإلا كيف سيكون من الممكن لسائح أسترالي مثلي أن يتجول في سجن شديد الحراسة كهذا؟ فالمحظورات مثل الكحول والأدوية المخدرة قوانينها فضفاضة، وغالبا ما يكون الحراس، والذين هم في الأصل سجناء تمت إعادة تأهيلهم، من يشتري هذه الأشياء للسجناء. نفس الأمر يحدث مع الهواتف الخلوية والتي هي ممنوعة أيضا ولكن يمكنك أن تجدها بسهولة في كل مكان. لا تستسيغ الطعام الذي يقدمونه في السجن؟ لا تقلق، هناك عدد من المسجونين أقاموا مخازن بقالة في زنزانتهم. وأصدقائهم وأسرهم هم من يحضرون لهم الأشياء التي يبيعونها لبقية السجناء.

نقص المؤن أمر من الممكن أن يحدث في السجن، ولهذا يمكن في أحد الأيام أن نطبخ لأنفسنا، وهذا يوفر لنا ميزة الهروب من طعام السجن ولو ليوم. وإن نفذ منا زيت الطعام.

“ماذا يمكن أن نفعل؟”

“خطف جرينجو والإبقاء عليه مقابل فدية. آسف ديفيد، لا يمكنك أن تغادر.”

“ما هو رقم هاتف والديك؟ أم يجب أن نرسل لهم خطاب من مجهول؟”

“السيد والسيدة تومبسون، نحن نحتجز ابنكم، وسوف نطلق سراحه في مقابل زجاجة من زيت الزيتون”

حمد لله لأنهم جلبوا الزيت، لا أظن أن والدتي الفقيرة كانت من الممكن أن تتعامل مع هذا الموقف.

إنها ليست حياة حرة بأي معنى من المعاني. فالمسجونين يرغبون في الخروج. بعد التطوع في الذهاب لهذا السجن أثبت لي أنه سواء كنت في الداخل أو في الخارج؛ فالمجتمع دائما ما يجد طرق متعددة لكي يقيد بها عقولنا وأجسادنا. ولكننا دائما ما نبحث عن طرق تمكننا من العودة للقتال من جديد واختيار منحنى آخر لحياتنا ولأنفسنا. أو كما قال لي أحد المسجونين “لا يمكن أن نخرج من هنا، لذا يجب علينا أن نُحضِر العالم إلى محبسنا”. أحد المسجونين كان يعمل على كتابة رواية عن غرباء يزورون كوكب الأرض ويرحب بهم الموريس (السكان الأصليين لنيوزيلاندا). آخر كان يخطط لدراسة الهندسة المعمارية. كما كان هناك آخر يعذب نفسه ويسأل كل من حوله إن كان يجب أن ينفصل عن رفيقته أم لا. أحد المسجونين اعتاد أن يتصل بأرقام عشوائية من هاتفه المحمول ليحاول التعرف على أناس جدد. وعلى الرغم من أن الغالبية كانوا ينهون المحادثة، كان هناك البعض الذي قرر أن يتحدث، ومن هؤلاء القلة استطاع أن يجني بعض النقود. لقد قابل امرأة بهذه الطريقة، فقط عن طريق مكالمة عشوائية، وفي النهاية أتت لزيارته في السجن وبدآ في التواعد.

بعيداً عن الأفكار السامية عن العدالة وكل كليشيهات هوليوود عن السجون، هناك أناس حقيقيون هنا والذين على الرغم من القيود الشديدة، يعملون على بناء حيواتهم ومجتمعاتهم في داخل السجن وخارجه. إنه أمر غريب بالتأكيد أن تشعر بالحزن في آخر مرة تغادر فيها سجن، حتى لو كنت فقط كزائر. ولكنني ممنون لكوني قادرا على الاستمرار في التواصل ولو مع قليل من السجناء خلال العام الماضي.

 منذ شهور قليلة، أنجبت شريكة أحد السجناء توأمين يتمتعان بصحة وافرة، لقد عرفت ذلك لأنه وضع صورتهما على حسابه على الفيس بوك.

 ديفيد تومبسون يرتحل في أمريكا الجنوبية منذ أتمّ مشروع تخرجه عن الكوزموبولاتيناية والاستهلاك في أمريكا اللاتينية، من جامعة سيدني، أستراليا، في أواخر 2010.

.

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s