بقلم – دانيال ماثيوز في 7 أغسطس/آب 2013
ترجمة: نصر عبد الرحمن
تحدث جاك دريدا عام 1976 في جامعة فيرجينيا بمدينة شالروتفيل، وألقى محاضرة عن نيشه، تضمنت بعض الملاحظات على إعلان الاستقلال الأمريكي. قيم دريدا عبارة “الشعب” كضامن سيادي للدستور، في هذا النص القصير، الذي طُبع بعد ذلك في كتاب مُفاوضات عام 2002 بعنوان “إعلانات الاستقلال”، (ونشر بعد ذلك باسم الإعلانات). وأكد على أن مفهوم الشعب غير مُحدد على نحو واضح، ويتسم بالتمايز الداخلي، ليس هذا فحسب، بل ومؤجل زمنياً؛ ومن ثم لا يمكن وضع الصياغة على هذا النحو. هذه الصياغة تربك السرد، ويعشقها من يكتبون الدساتير؛ لأن دولة القانون تكتسب شرعيتها من سلطة الشعب باعتباره الجمعية التأسيسية للدستور. إلا أن اهتمام دريدا لا يقتصر على رصد محاولة التنصل من “الأسس” المُفترضة للدولة أو لمؤسسات الدولة. إنه يحاول إزاحة الاقتصاد الذي يبقي هذه الأسس في مكانها، عبر التنقيب عن الشروط المُحتملة التي ترتكز عليها تلك “الأسس”. ورغم أن القراءة الأولى لنص “الإعلانات” توحي أنه نص تقني، إلا أنه يُظهر نزعة جذرية لدى دريدا، ظهرت بعد ذلك في بوضوح أكثر، وبشكل سياسي تماماً، في مداخلات من قبيل “أشباح ماركس” (1994)، “سياسة الصداقة” (1997)، و”المحتالين: مقالتان في المنطق” (2004). ومع ذلك، يبدو اللهث خلف تقنية دريدا في التحليل ضرورياً لفهم المغزى الأوسع لتلميحاته المُراوغة في “الإعلانات”.
ولتوقيت عرض النص دلالة، ليس فقط لأن عام 1976 يواكب الذكرى المئوية الثانية لإعلان الاستقلال الأمريكي، ولكنه أيضاً يأتي قبل عام واحد من تعقيب دريدا الشهير، وسيء السمعة على انتقادات جون سيرل (فيلسوف اللغة التحليلي الأمريكي) لمقال دريدا “سياق حدث التوقيع” الذي تناول فيه جي إل أوستين. ودون التطرق إلى تفاصيل الجدل الذي دار بينهما، يُساعد مقال “سياق حدث التوقيع” على تطوير بعض النقاط الجوهرية التي سوف تساعد في فهم “الإعلانات”.
علينا في البداية أن نلاحظ الطريقة التي تعامل بها دريدا مع “التعبير الأدائي”. فكرة أوستن بشأن دور الحديث الأدائي تهدف إلى توضيح أن تأثيرات اللغة تجاوزت نشر الحقائق أو الأكاذيب: اللغة تؤدي دورها وتنتج تأثيرات. ويعتمد معنى الحديث الأدائي، في وجهة نظر أوستين، على السياق الذي قيل فيه: “أعلنكما زوجاً وزوجة” تقال في نهاية مراسم الزفاف، ويعتمد معناها وتأثيرها على توافر شروط مُعينة. إذا تم نطق نفس الكلمات في مسرحية أو على شاشة السينما، فسوف يختلف فهم المعنى قليلاً. ويوحي هذا أن المعنى ليس أسيراً لمجموعة من الرموز والعلامات والأصوات بشكل صارم ودائم. ويعتمد تأثير الكلام الوظيفي كما يرى أوستن على السياق الذي يُقال فيه. وفي “سياق حدث التوقيع، يرى دريدا أن الاعتماد على السياق هو سمة عضوية في جميع أنواع الكلام. وبهذا المعنى، يُجذر دريدا وجهة نظر أوستين، أكثر منه يحاول وضع معايير صارمة لوضع الكلام الوظيفي في سياق على نحو ملائم. ويؤكد دريدا على أن كل السياقات لها شروط. بمعنى أن دريدا يتمسك فقط على السياقات “التي ليس لها مركز أو اتجاه محدد”. وهناك قضية أخرى في “سياق حدث التوقيع” تركز على نية المتحدث. يؤكد دريدا على أن الكلام (سواء مكتوب أو منطوق) الذي يهدف إلى التواصل، يجب أن يكون مفهوماً بالضرورة في غياب قائله أو كاتبه. ويعطي دريدا المثال التالي:
في هذه اللحظة أقوم “أنا” بإعداد قائمة مشتريات، وأدرك… أنها سوف تكون قائمة مشتريات فقط إذا كانت تعوض غيابي، وإذا فصلت نفسها عني لكي تعمل في غير “حضوري”، وإذا كان يمكن الاستفادة منها في وقت آخر، في غياب حضوري الآني… في لحظة معينة، لحظة هي بالفعل اللحظة التالية للحظة الكتابة.
ويزيح دريدا هيمنة النية في عملية إنتاج المعنى عن طريق اقتراح أن الكلام القابل للتواصل (سواء كان مكتوباً أو منطوقاً) لديه حياة خارج الإطار الأصلي الذي قيل فيه. النية مقيدة، على نحو تقليدي، بالحضور: تحظى النية بميزة لوجود اعتقاد عام أن معنى عبارة ما يرتبط بأفكار المتحدث أو الكاتب. ولكن،كما يوضح دريدا في مثال كتابة قائمة المشتريات، الحضور يُقسم دائماً. فالعلامة المكتوبة، حتى في نفس لحظة كتابتها. ويجب أن تتمكن النية من أداء وظيفة أثناء غياب كاتبها. ولا يمكن للنية أن تكون نقطة مركزية يدور المعنى في فلكها، لأن إنتاج المعنى يتم خلال سياق بلا مركز. إن غياب معنى مركزي، وأي حضور للكاتب هما شرطا إمكانية حدوث أي تواصل له معنى.
كيف إذا قام دريدا بتطبيق رؤيته على موضوع “الشعب” الذي من المُفترض أن يضمن شرعية إعلان الاستقلال؟ وتثير الإعلانات سؤالين: من يقوم بالتوقيع، وبأي اسم، على الوثيقة الإعلانية التي تضع أُسس مؤسسة ما؟ وفيما يتعلق بإعلان الاستقلال الأمريكي، تكون الإجابة الفورية التي لا جدال فيها، أن من قام هم ممثلو الولايات المتحدة الأمريكية في المؤتمر العام. إلا أن هؤلاء الممثلون يوقعون بالصيغة التالية: “باسم وبسلطة الشعب الكريم لهذه الولايات المتحدة“.
يظهر “الشعب الكريم” في توقيع ممثليه؛ حيث يتم التوقيع باسم هذا الشعب الكريم. وهذا الأثر، حتمية ظهور “الشعب الكريم” في التوقيع، يمثل إشكالية. هل يُعلن الإعلان أن “الشعب الكريم” تحرر من الحكم البريطاني، وهو يقوم ببساطة الآن بوصف هذه الحرية، بمجرد أن وقع على الوثيقة، أو على الأقل قام غيره بالتوقيع نيابة عنه؟ أم أن فعل التوقيع ذاته هو الذي يمنحهم حريتهم؟ التوقيع يقوم بدورين؛ وصفي (لموقف راهن حدث بالفعل) ووظيفي (تأسيس موقف). إن التأثير الذي يحدثه الإعلان يتمثل في عدم الاستقرار وعدم القدرة على اتخاذ القرار، بين الوظيفي والإعلاني. وبحسب صياغة دريدا، قبل توقيع الممثلين، “لا توجد الشعب ككيان واحد، الكيان لم يكن موجوداً قبل الإعلان، مثلما عليه الحال بعد الإعلان. وإذا كان لهذا الكيان أن يلد نفسه، كموضوع حر ومستقل، وقادر على التوقيع، فإن هذا الأمر يعتمد فقط على فعل التوقيع. التوقيع هنا يخلق المُوقع.
يتركنا دريدا مع تناقض داخلي: ممثلو الشعب يوقعون نيابة عنه، لكن الشعب لا يوجد ككيان قبل التوقيع. ولا يمكن تخيل ممثلي الشعب إلا كممثلين لشيء سوف يوجد بعد التوقيع. كل شيء يحدث بعد ذلك. حيث يتم استحضار سلطة الشعب بأثر رجعي، وبهذا تكون عبارة الشعب ضامن للدستور أسيرة حالة من السيولة الزمنية. مثلما كان دريدا يكتب قائمة المشتريات، فلابد أن الشعب استنتج بالضرورة غيابه التام، في نفس لحظة افتراض حضوره في الإعلان؛ وأنه قادر فقط على الاستمرار كأثر طيفي لتأكيد مستقبلي.
لا يمكن إنكار القوة الوظيفية للإعلان، إلا أن موضوع الإعلان غير راسخ تماماً. لا يمكننا أن نعرف من هو الشعب وما هي ماهيته؛ فثوابته ومتغيراته الدقيقة غير معلومة. عملية التوقيع التي حدثت نيابة عن “شعب الولايات المتحدة الكريم” تسعى إلى تأطير وتحديد الناس باعتبارهم: “الشعب”، وبهذا تجعل هذا الحشد حاضراً ومُستقراً. لكن في هذا الأمر استحالة: لأن “الشعب” ككيان حاضر هو مجرد هراء أنتجه حضور وهمي. فالشعب ليس له وجود هنا وهناك، ولكنه أثر من الآثار يظهر حين يتم استدعاؤها. ووفقاً للعبارة ذاتها، فإن إزاحة دريدا للنية، وتركيزه على العمليات باعتبارها صياغة سياقية مفتوحة وغير محددة، تدل على أن معنى وتأثير إعلان كهذا ليس مُغلقاً أو موحداً، بل مفتوح تماماً بالضرورة.
إن تأكيد دريدا على عدم حضور الشعب على الإطلاق وأن هذا الحضور مؤجل، يثير القلق لدى البعض. أليس هذا تنصلاً من سلطة الجمعية التأسيسية؟ ألا يجعل هذا التغيير الجذري مستحيلاً؟ لا أعتقد هذا. إذا لم يكن الشعب حاضراً، أو مُعرفاً بوضوح، فهناك فجوة لا يمكن سدها بين الناس الثوريين كسلطة تأسيسية، وبين التأكيد الثابت على اعتبار “الشعب” سلطة تم تأسيسها. فلا وجود للحظة مستقلة ومصمتة يكون فيها الشعب حاضراً ومُحدداً مرة واحدة وللأبد. ويتم تحديد هذه الفجوة بتمايزات زمنية ومكانية والتي تجعل من المستحيل وجود شعب يتشكل وفي نفس الوقت يكون جمعية تأسيسية. إلا أن استحالة الحضور الحقيقي للشعب الذي يضمن الدستور هو أيضاً نوع من شروط إمكانية صياغة الدستور. فشكل الجمعية التاسيسية للشعب يتغير على يدي دريدا: تحديداً بسبب عدم إمكانية تأطير الشعب أو الادعاء أن له سلطة.
وفي “الإعلانات”، ما يقوم به دريدا من تغيير لاتجاه الأوهام المتعلقة بالوقت، يصطدم بالإطار الزمني الذي يحكم الالتزامات السياسية والذي نعتبره أمراً مفروغاً منه. وإذا كان الحضور مُقسماً، فلن توجد نقطة زمنية محددة تتحول فيها السلطة التاسيسية إلى كيان تم تشكيله. ولا يوجد مكان آمن نرصد منه ما حدث في الماضي ونستطيع من، خلاله، تقييم شرعية اللحظة التأسيسية. وبالمثل، لا توجد أرضية صلبة يمكن أن ننطلق منها: فلم يكن هناك أبداً “جمع” سياسي حاضر بذاته، ولا “شعب” دون اختلافات، ومعارضات، واستبعادات.
يتسم دريدا في “أشباح ماركس”، والمُحتالون”، وغيرهما من الكتب، بوضوح تشوبه الطُمأنينة في مواجهة المقتضيات الأخلاقية/السياسية. الإلحاح على المشاركة والفعل واضحان، إلا أن الشروط التي تؤطر هذه المُشاركة غير ثابتة على الإطلاق. والأمر الجذري الحقيقي في فكرة دريدا عن “الإعلانات” هو أن فكرته تزيح فكرة الحضور وما يرتبط بها من ادعاءات، وتستبدلها بفكرة الشرعية. وبتقويض الإطار الزمني للإعلان، يشير دريدا إلى وضع سياسي لم يعد بحاجة إلى أساطير الحضور والكيان الموحد التي يروج لها الإعلان. ويسأل دريدا عن ذلك الذي قام بالتوقيع على وثيقة الإعلان، وبأي اسم مزعوم؟ ومن هم “نحن” التي يرمز إليها الشعب؟ وإذا كان للإعلان أي استخدام يتجاوز توسله بوجود “شعب” حاضر، وراسخ، فهو إرجاء مثل هذا الشعب إلى ما بعد التوقيع، باعتباره موضعاً يجب أن يخضع دائماً للتفاوض والطعن السياسي.
دانيال ماثيوز، هو متقدم لنيل درجة الدكتوراه من كلية بيركيبك للقانون، جامعة لندن، حيث يقوم بتدريس قانون العقود.